• 11 آيار 2018
  • مقابلة خاصة

 

عمان - أخبار البلد ـ اجرى الكاتب“ سامح خضر“ مقابلة ممتعة مع الكاتب العربي الفلسطيني المعروف ” ابراهيم نصر الله“  لصالح موقع ”عرب ٤٨“  ونحن في ”أخبار البلد“ نقوم بإعادة نشر المقابلة كاملة :

فوجئت، ربّما كما فوجئ غيري، وأنا أقرأ مخطوط رواية "حرب الكلب الثانية" (2016)، الشرفة السادسة من شرفات إبراهيم نصر الله، والمشروع الذي تناول فيه قضايا اجتماعيّة وحياتيّة أكثر التحامًا بالواقع، بعبثيّتها وسرياليّتها المعقّدة، جاعلًا منه موازيًا لمشروع الملهاة الفلسطينيّة الذي كرّسه للعودة إلى تاريخ القضيّة الفلسطينيّة، من أجل الوقوف على أهمّ محطّاته وتجلّيات كفاح الشعب الفلسطينيّ في مواجهة قوى الاستعمار، على اختلاف مآربها وتوجّهاتها. ربّما تنبع مفاجأة القارئ في "حرب الكلب الثانية" من يقين مسبق منحه نصر الله لقرّائه في أعمال سابقة، سواء على مستوى اختياراته للمواضيع أو لميكانزمات السرد وطريقة معالجة الموضوع روائيًّا.

إذا كان راسكو لينكوف، بطل رواية "الجريمة والعقاب"، بدأ الرواية بالسؤال الذي شغله: ما معايير الجريمة وما حدود العقاب؟ فإنّ إبراهيم نصر الله أراد، ربّما، في "حرب الكلب الثانية"، أن ينتهي القارئ من الرواية وهو محمّل بالأسئلة الصعبة: مَنْ منّا القلعة ومَنْ فينا الكلب؟ ويزداد السؤال تعقيدًا كلّما أوغل المرء في التفكير بالإجابة عنه؛ ألسنا كلابًا أمام قلاع ما، وقلاعًا أم كلاب أخرى؟ تتشكّل هذه الأسئلة من عناصر عدّة تتراكم تباعًا في مخيّلة القارئ، ليجد أنّ شخصيّات الرواية كلّها، في النهاية، سواء كانت كلابًا أو قلاعًا، حاكمين أو محكومين، ضحايا أو جلّادين، تحصّن نفسها بأسباب وقواعد فكريّة ودوافع لا تجتهد كثيرًا في تبريرها أمام الآخر.

يقدّم إبراهيم نصر الله، هنا، صورة أخرى مختلفة عن المواقع الفلسطينيّة "الطاهرة" التي جابها في "زمن الخيول البيضاء" و"قناديل ملك الجليل"، وباقي روايات الملهاة الفلسطينيّة، ليستدرج القارئ إلى التفكير في التحوّلات التي طرأت على المدن العربيّة، لتجعلها عفنة وسوداويّة المستقبل، ودوستوبيّة النمط. لم تقتصر هذه التحوّلات على المدن مكانًا، فالمدن لا تتشكّل ولا تضع قوانينها من تلقاء نفسها، بل هي بحاجة إلى الإنسان الذي كما يمكنه تشكيل حضارات، فبإمكانه تشكيل نظم اجتماعيّة وسياسيّة فاسدة أيضًا، ووضع قوانين تحميها وتعزّز من سطوتها، فيبرز الكاتب التحوّلات النفسيّة والسلوكيّة لدى الشخصيّات التي لا ترغب في أن يكون لها شبيه، فتشكّل في وعيها الباطن مبرّرات لقتلها والتخلّص منها.

سيضع نصر الله أمراضنا الاجتماعيّة، وسوأتنا من نفي وإقصاء للآخر، والعنف اللفظيّ والجسديّ، وتشكّل الأيديولوجيّات والأيديولوجيّات المناوئة، وقدرتنا على التعذيب وتبريره، سيضع كلّ ذلك في إطار دراميّ فانتازيّ تخييليّ مرعب، فيمسي القتل والتنكيل بالآخر مبرّرًا من مبرّرات الوجود الإنسانيّ.

قال ثيودور ديستويفسكي: "كلّنا خرجنا من معطف غوغول"، في وصفه للروائيّين الروس، ويبدو أنّ الأدب، كي يغدو عظيمًا، عليه أن يخرج من معطف أبشع سلوكيّات النفس البشريّة وأكثرها دناءة؛ فمن لينكوف في "الجريمة والعقاب" ، ومورييتز في "الساعة الخامسة والعشرون"، مرورًا بمصطفى في "موسم الهجرة إلى الشمال"، ورجب في "مدن الملح"، وانتهاء براشد في "حرب الكلب الثانية"، خرج الجميع من معطف هزيمتهم أمام القيم الإنسانيّة. وفي كلّ هذه الأعمال، يكون القارئ مراقبًا لواقع الشخصيّات ومستمعًا لآرائها حول الواقع المؤلم وسبل التغيير أو الخلاص، إن جاز التعبير، وشاهدًا على انزلاق الشخصيّة في مستنقع الانحطاط.

تنتهي الرواية من دون أن تنتهي الأسئلة، لكن الأسئلة الأبرز تلك التي تتعلّق بعوالم إبراهيم نصر الله الإنسانيّة والأدبية. لنفهم ما الذي اختلف في التجربة، يجب أن نفهم العناصر التي شكّلتها. بمعنى آخر، لنفهم الجديد في مشروع إبراهيم نصر الله، علينا أن نعود إلى الأسس التي استندت عليها تجربته الإنسانيّة والقواعد التي انطلق منها مشروعه الأدبيّ... لذا وجدتني أتوجّه إلى إبراهيم نصر الله في حوار خاصّ بفُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّةبعد فوزه بالجائزة العالميّة للرواية العربيّة.

  

ممّا ردّده قرّاء إبراهيم نصر الله كثيرًا لدى فوزه بـ "البوكر": من الكتابة على دفاتر وكالة الغوث إلى الجائزة العالميّة للرواية العربيّة. ما تعليقك على ذلك؟

إبراهيم نصر الله: إنّها رحلة طويلة فعلًا، بين الكتابات الأولى والكتابات الأخيرة، ليس على المستوى الزمنيّ وحسب، بل على مستوى ما رأيناه في هذا الزمن الممتدّ صعودًا وهبوطًا، وتحوّلات وحروبًا. لكنّ أجمل ما حدث، أنّ الأمل ظلّ رفيق رحلتنا نحو الأجمل باستمرار، وبقينا على قيد هذا الأمل، لا أتحدّث عن نفسي فقط، بل عن أجيال متتابعة حفرت الصخر لتستخرج شمسها، وما تجربتي إلّا تجربة فرديّة في بحر التجارب الرائعة والإنجازات التي حقّقها أبناء شعبنا في منافيه وفي وطنه. لكنّني سعيد بحسّ القرّاء هذا، وبصفائه، وما يحمله من معان كبيرة، وسعيد أن يُقال أيضًا: من مخيّم الوحدات إلى الجائزة العالميّة للرواية العربيّة، فهذا له معنًى كبير على المستويين الشخصيّ والوطنيّ.

 

بالحديث عن المخيّم، لاحظت أنّك لم تتطرّق كثيرًا في مقابلاتك الصحافيّة إلى النشأة، والعائلة، وسنوات الدراسة، وأصدقاء الطفولة والمراهقة. كيف يرى إبراهيم نصر الله هذه المرحلة الآن؟

إبراهيم نصر الله: هذه المرحلة الأكثر تأثيرًا في حياتي، ليس لأنّ الطفولة أكثر ما يؤثّر في حياة الإنسان، بل لأنّني عشت خلالها أقسى مرحلة من مراحل حياة شعبنا، وكنت شاهدًا على ذلك؛ واجهت الموت وصعوبة الحياة، والفقر الذي دفعني لأن أعمل في مهن كثيرة وشاقّة لمساعدة أسرتي، وفي الوقت نفسه، بقيت متشبّثًا بدراستي. لكنّني لا أعرف إن كنت عشت طفولة فعلًا، أم عشت الحياة، لأنّه كان عليّ أن أؤدّي دورًا لشخص أكبر منّي دائمًا. في كلّ الأحوال، لولا كثافة التجربة، لما كنت ما أنا عليه اليوم. أمّا عائلتي، فكانت كبيرة، 12 شخصًا، وهذا ضاعف حجم المشقّة على الوالد، وعليّ، لأنّني أكبر أخوتي. كانت الحياة التي عشتها في مخيّم الوحدات، حياة الوطن في منفاه، مع وجود تلك الأعداد الكبيرة من المهجَّرين، من مختلف المدن الفلسطينيّة، ولعلّ هذه الحالة، على قسوتها، أتاحت لي أن أرى الوطن كلّه في مكان واحد؛ فكلّ إنسان حمل قريته ومدينته معه، وكانت طريقة الناس في الحديث عن أرضهم تجعلك ترى، فعلًا، كلّ مكان عاشوا فيه. أمّا صداقات المرحلة الأولى، فلم تستمرّ، مع توزّع اهتمامات أصدقاء الطفولة وتشتّتهم، لكنّ المرحلة الأخيرة تركت لي صداقات رائعة ممتدّة حتّى اليوم.

 

أعرف أنّ علاقة خاصّة تربطك بأمّك، فكيف تصف هذه العلاقة؟ وماذا عن أبيك؟ كيف يحضر لديك؟

إبراهيم نصر الله: أدّت الأمّهات الفلسطينيّات الدور الأساس في أسرهنّ، وهنّ مَنْ بنين حياتنا وبيوتنا أيضًا، وأشرفن على تربيتنا بشكل مباشر في ظلّ اضطّرار الرجال للعمل في المجالات الصعبة ولساعات طويلة، وأمّي كانت مثلهنّ. الآن أعجب أكثر: كيف كانت قادرة على السيطرة على جيش من البنات والأولاد، وإدارة شؤون حياتهم، والقدرة على الإشراف عليهم؟! وقد كتبتُ عن أمّي، وكان اسمها الحقيقيّ، عائشة، موجودًا في روايتي "طيور الحذر"، التي تحدّثت فيها عن بدايات الهجرة وأشياء كثيرة، حتّى مرحلة المراهقة. أمّا أبي، الذي حضر باسمه أيضًا في الرواية، فكنت نادرًا ما أراه، لأنّه يذهب للعمل قبل أن نصحو، ويعود بعد أن ننام. كان طيّبًا، وعليه أن يؤدّي دورًا صارمًا في الساعات القليلة التي نراه خلالها، ربّما ليعوّض عن غياب متابعته لنا، ليقول لنا إنّه هنا. كان أبي صموتًا في العادة، وأمّي كانت سيّدة الحكايات التي تتحدّث بطلاقة وأسلوب جميل، وهي تستعيد ذاكرتها. بعد "طيور الحذر" كتبت قصائد عن أبي وأمّي، ثمّ عدت وكتبت سيرتهما في ديوان "باسم الأمّ والابن"، وهو واحد من أقرب أعمالي الشعريّة إلى قلبي.

 

هل قرأت أمّك أيًّا من أعمالك؟ وما ردود أفعالها عندما تفوز بجائزة ما؟

إبراهيم نصر الله: للأسف لم تقرأ، ولا أبي، لأنّهما أمّيّين، لكنّ محبّتهما لي كانت كبيرة. هي، مثل كلّ أمّ، تفرح بإنجازاتنا. وفي الحقيقة، كنت أتمنّى أن يعيش أبي معي هذه النجاحات التي تحدث بين حين وحين، لكنّ رحيله المبكر، بُعَيد منتصف التسعينات، حرمنا من ذلك.

 

لم تكن هذه المرّة الأولى التي تصل فيها إلى قائمة ترشيحات "البوكر"، فقد سبق وأن وصلت بـ "زمن الخيول البيضاء" إلى القائمة القصيرة، فأيّهما تستحقّ "البوكر" في نظر إبراهيم نصر الله: "زمن الخيول البيضاء" أم "حرب الكلب الثانية"؟

إبراهيم نصر الله: أنت تعرف أنّ معايير اللجان تتغيّر بتغيّر أعضائها كلّ عام، وعلى الرغم من هذه الحقيقة، لا أستطيع أن أقول أيّهما تستحقّ الجائزة، لأنّني كتبت الاثنتين وتعبت كثيرًا قبل أن تريا النور. لكنّ الجميل أنّ "زمن الخيول البيضاء" لمّا تزل، بعد عشر سنوات، من أكثر الكتب مبيعًا في العالم العربيّ، ونجاحها يتجدّد، كما أنّ "حرب الكلب الثانية" كانت أوّل تجربة لي لكتابة رواية تستفيد من الخيال العلميّ، ومن الرائع أنّها، بصفتها تجربة جريئة ومختلفة، قد فازت، فكانت أوّل رواية عربيّة من هذا النوع تفوز بالجائزة. هذا يفتح المجال لكثير من الكتّاب أن يغامروا أكثر، والآن، أرى أنّ نجاحها قد واصل صعوده مع حصولها على هذه الجائزة، وخلال أيّام قليلة، لمست مع وكيلتي الأدبيّة اهتمامًا واسعًا لترجمتها وتحويلها إلى فيلم.

 

ثمّة روايات كثيرة، فلسطينيّة وعربيّة، صدرت ولم تنل حقّها، فما رأيك بهذا؟ ولا سيّما أنّه كان لديك تحفّظ على أداء البعض قبل ذلك، وهل أنت غاضب من لجان سابقة؟

إبراهيم نصر الله: كما أشرت، إنّ تغيّر اللجان يوجد تغيّرًا في المعايير، لأنّ الجائزة نفسها لا تحدّد معايير ثابتة، إنّها تترك المجال كلّه للمحكّمين. وهكذا، قد تُظلم روايات كثيرة وتفور روايات أقلّ أهمّيّة. ليس الأمر من قبيل الغضب، لكن ثمّة ما يتعارض مع المنطق. خلال الدورات العشر الأولى، استُبعد الكتّاب المكرّسون، باستثناء دورتين، وفي إحدى الدورات، أعلن رئيس اللجنة أنّ الجائزة ستكون تلك السنة من نصيب الشباب، وأدّى ذلك إلى استبعاد ستّة كتّاب رائعين وحرمانهم من الوصول إلى القائمة القصيرة، بعد أن وصلوا الطويلة، وأعرف أنّ إدارة الجائزة لم تكن مرحّبة بقراره.

 

يعرّفك الناس، غالبًا، بأنّك روائيّ، على الرغم من كونك شاعرًا أيضًا، فهل هذا من أثر الجوائز التي كرّست صفتك هذه؟ وهل أنصفت الجوائز العربيّة إبراهيم نصر الله روائيًّا ولم تنصفه شعريًّا؟

إبراهيم نصر الله: أوّل جائزة عربيّة كبيرة حصلت عليها جائزة سلطان العويس للشعر العربيّ، عام 1998، وهي جائزة نالها عبد الوهّاب البيّاتي، وفدوى طوقان، ومحمود درويش، وعبد المعطي حجازي، ونزار قبّاني، والجواهري، ومحمّد الماغوط، وشوقي بزيع، وقاسم حدّاد، وسواهم، وحتّى اليوم، كنت أصغر الفائزين عمرًا من بين الذين نالوها. كما فزت بجائزة أفضل ديوان شعريّ ثلاث مرّات. وقبل جائزة العويس، نلت جائزة عرار للشعر العربيّ، وللمصادفة، فاز بهذه الجائزة أيضًا، البيّاتي وفدوى طوقان، بالإضافة إلى ممدوح عدوان، وسعدي يوسف، وعدد آخر من أهمّ الشعراء العرب. لكن، كما تعرف، فإنّ عدد الجوائز المكرّسة للرواية، الآن، كبير في عالمنا العربيّ، والجائزة الوحيدة الكبيرة فعلًا المكرّسة للشعر، جائزة العويس. طبعًا، ثمّة جوائز أقلّ، لكن من الصعب أن يتقدّم لها المرء، أو يسمح بأن يُرَشّح لها، بعد فوزه بجائزة مثل العويس.

أمّا عن تجربتي الشعريّة، فتنوّعت دائمًا، كتجربتي الروائيّة، من القصيدة متوسّطة الطول، إلى القصيدة الملحميّة، والقصيدة الديوان، والسرديّة، والقصيدة القصيرة جدًّا، وصولًا إلى ديوان "الحبّ شرّير" الذي صدر العام الماضي، وهو يضمّ عملًا أوبراليًّا شعريًّا كنت أتمنّى كتابته دائمًا. وفي هذه الأعمال كان الوطن، والفلسفة، والتأمّلات، والأشياء، والقضايا الإنسانيّة، والحبّ؛ لذا، أظنّ أنّني نلت ما يكفي من الجوائز التي تُعَدّ بمثابة تكريم. لكنّ الجوائز، كما تعرف، ليست كافية ليشعر الإنسان أنّها كلّ شيء، فإذا لم يكن لكتبك تأثير في القرّاء، فإنّ الجائزة لا تعني شيئًا، وسعادتي الأساسيّة قائمة في العدد الكبير جدًّا من القرّاء، وتوالي طبعات كتبي كلّ عام؛ كلّ طبعة جديدة، من أيّ كتاب، جائزة، وكلّ ترجمة جائزة، وكلّ رسالة دكتوراه أو ماجستير جوائز فعلًا، وثمّة العشرات التي كُتبت في كثير من دول العالم عن تجربتي، كما أنّ عشرة كتب صدرت عن تجربتي الشعريّة والروائيّة، وهذا رقم كبير، وهي جوائز أيضًا.

 

تتحدّث عن الأمل على الرغم من أنّ سنوات طفولتك وشبابك كانت فترة قاسية، فمن ناحية لا يمكن للمرء تصوّر طفولة سويّة في مخيّم، ومن ناحية أخرى، في المراهقة والشباب ومع بداية تشكّل الوعي، كرّست الأنظمة نفسها، في الوطن العربيّ كلّه، لملاحقة هذا الوعي وتحجيمه؛ كيف يمكن للمرء أن يحافظ على الأمل في ظروف لا تساعد على ذلك؟ أسألك عن هذا تحديدًا، لأنّ السواد الأعظم من قرّاء إبراهيم نصر الله من جيل الشباب الذي يرى نفسه، اليوم، وحيدًا في مواجهة قضاياه.

إبراهيم نصر الله: أصعب معارك الشعب الفلسطينيّ التي خاضها مع اليأس، كانت، في اعتقادي، خلال السنوات الأولى من عمر النكبة، ولا سيّما السنوات العشر الأولى، أو أكثر من ذلك بقليل، إلى أن استُوعبت الصدمة الكبرى، وبدأ الوعي ينهض، والكتابات تنتقل من خانة اليأس والتفجّع والبكاء والحسّ بالتشرّد، لتحلّ محلّها حالة التململ ثمّ التمرّد، وصولًا إلى أدب وفنّ المقاومة؛ ثمّة شيء قد تغيّر جذريًّا، ولم تكن تنقصه إلّا شعلة المقاومة المسلّحة. من المدهش أنّ الشعب الفلسطينيّ التقط أنفاس روحه بسرعة، ولم يكن الأمر سهلًا، لكنّ الشعب الذي وجد نفسه في نقطة الصفر مادّيًّا، خارج وطنه، اكتشف أنّه ليس في خانة الصفر ثقافيًّا، فثقافته يحملها معه، وهي في داخله، وليست كالبيت الذي لا يستطيع أن يحمل منه على ظهره إلّا القليل من الملابس والأغطية. أظنّ أنّ تلك الفترة أكّدت للفلسطينيّ والعالم كلّه أنّ ثمّة شعبًا لا يموت. بعد ذلك، لم تستطع أيّ كارثة، أو أيّ مذبحة، أو أيّ احتلال جديد، إطفاء تلك الشعلة، لأنّ شعبنا استطاع امتصاص وقع الصدمة الكبرى: النكبة. منذ تلك اللحظة، صار هذا الشعب يفاجئ نفسه، ويفاجئ كلّ أولئك الذين يصيبهم التعب أو يسقطون على الدرب، فكانت انتفاضاته المتتالية، وتبيّن أنّ الأجيال الجديدة قادرة، بوعي أقوى من الحنين، أن تعلن حبّها لوطنها بكلّ الطرق. صحيح أنّ هذه الأجيال لم تأخذ حقّها في قيادة شعبها ومؤسّساته، لكنّها استطاعت ابتكار أشكال جديدة من النضال، مثل حركة المقاطعة، التي تُعَدّ اليوم أهمّ تنظيم على الإطلاق، واستطاع هذا الشعب أن يواصل تقدّمه في إحراز إنجازات استثنائيّة في التربية، والعلوم، والفنون، والآداب. صحيح أنّ كثيرًا من هذه الإنجازات فرديّة، وتتحقّق بعيدًا عن أيّ دعم، لكنّ ذلك هو الأمل متجسّدًا، لأنّ الفرد لم يستسلم، ويرفض ذلك، حتّى لو استسلمت قيادته أو وهنت. يومًا ما، ليس ببعيد، سيقود هذا الشعب جيل جديد، هو بالتأكيد أذكى، وأعمق معرفة، وقادر على مخاطبة العالم، ومستعدّ للتضحية، بعد أن أغلق باب التضحية بأكثر من طريقة في وجهه. حياة شعبنا، على الرغم ذلك، حافلة بحكايات الأمل والقدرة على تحقيق المعجزات في أقسى الظروف.

 

لمناسبة الحديث عن الطفولة والشباب؛ مَنْ الكاتب الذي ترك الأثر الأكبر في نفسك ودفعك إلى التفكير في الكتابة؟

إبراهيم نصر الله: في البدايات إبراهيم طوقان وفدوى طوقان، ولي معهما حكاية كتبتها شهادة بعد رحيل فدوى، وسأكتبها رواية. ثمّ، بعدهما، إميل زولا، وفيما بعد غسّان كنفاني، الذي حين قرأته في مطلع شبابي وكنت في الصحراء، أحسست أنّ كتاباته وضعت البوصلة التي أضعتها في يدي.

 

أعرف أنّك متابع جيّد لإصدارات جيل الشباب؛ هل تعتقد أنّ هذا الجيل أكثر جرأة، أو أكثر تحرّرًا، من جيلك في طرح قضايا شكّلت تابوهات في الماضي؟ أم أنّ المجتمع ما زال يقف عائقًا أمامه؟

إبراهيم نصر الله: لا أعتقد ذلك حتّى الآن، ويهمّني دائمًا ما هو أبعد من التابوهات. التابوهات يُمكن أن تُطرح دائمًا، كلّ شخص يقرّر أن يطرحها سيفعل، لكن المهمّ ما الذي يمكن أن تقوله فيها، ما الرؤية التي ستطرحها وتضيف جديدًا. ما يهمّني، أيضًا، التجريب والجرأة الفنّيّة. ثمّة روايات حديثة جميلة، وبعضها رائع، لكنّ التجريب ليس حاضرًا كما كان في روايات مثل: "ما تبقّى لكم" لغسّان كنفاني، و"الغرف الأخرى" لجبرا إبراهيم جبرا، و"شرفة الهذيان" و"براري الحمّى" من كتابتي، وسواها، ولا توجد اقتراحات فنّيّة مثل تلك التي قدّمها إميل حبيبي مثلًا.

 

لقد رفضت عرضًا مغريًا لتحويل "زمن الخيول البيضاء" إلى عمل دراميّ، لأنّ جهة الإنتاج طلبت تغيير جغرافيا الرواية فلا تكون محدّدة بفلسطين، كما في الرواية. هل ترى أنّ ثمّة محاولات للهرب من القضيّة الفلسطينيّة وتغييبها عن المتلقّي العربيّ؟

إبراهيم نصر الله: النظام العربيّ كلّه هرب من القضيّة الفلسطينيّة، بعضهم تخفّى خلف خطاب وطنيّ مجرّد، لا أقدام له على الأرض، والبعض متستّر، والبعض يقوم بذلك علنًا، والقادم أسوأ في هذا المجال، وسيزداد سوءًا مع وجود قيادة عربيّة هشّة ورخوة. "زمن الخيول البيضاء" رواية ليست للبيع إلى مَنْ يدفع أكثر، هذه حكاية شعب، ولم تعد ملكي منذ أن نشرتها قبل عشر سنوات، إنّها لكلّ قارئ فلسطينيّ، وعربيّ، وأجنبيّ، قرأها وأحبّها، ووجد نفسه فيها وفلسطين التي يبحث عنها.

 

نبش إبراهيم نصر الله التاريخ في مشروع الملهاة الفلسطينيّة، ولاقت سلسلة الأعمال هذه إقبالًا كبيرًا من القرّاء. ماذا كانت رهاناتك وأنت تعدّ لهذا المشروع؟ ألم تخيفك العودة للتاريخ روائيًّا، ولا سيّما في ظلّ اهتمام قطاع كبير من القرّاء بالأعمال التي تتناول القضايا المعاصرة؟

إبراهيم نصر الله: لم أتخيّل أنّ المشروع سيتّسع إلى هذا الحدّ بدايةً، لكنّني اكتشفت أنّك ما دمت تعمل، فإنّ عقلك وخيالك يعملان، فتتوالد أفكار جديدة. حين بدأت بالملهاة كتبت التجارب التي شاهدتها أو عشتها، ثمّ تجرّأت بعد ذلك وذهبت إلى الماضي القريب، قبل النكبة، ثمّ تجرّأت أكثر وذهبت إلى القرن الثامن عشر في "قناديل ملك الجليل". الآن، لم تعد الكتابة عن الماضي تخيفني بعد القناديل، ولا الكتابة عن المستقبل "بعد حرب الكلب الثانية".

 

في "حرب الكلب الثانية" كسرت قوالب الكتابة المعتادة، أقصد قوالبك أنت، سواء على مستوى الموضوع أو تقنيات السرد. هل طرأت تحوّلات على تجربة إبراهيم نصر الله الروائيّة؟ وهل تفكّر بالكتابة مرّة أخرى في الفانتازيا أو الخيال العلميّ؟

إبراهيم نصر الله: التحوّلات في تجربتي الروائيّة دائمة، من الملهاة إلى الشرفات، ومن التاريخيّ إلى الاجتماعيّ، والسيكولوجيّ، والسياسيّ، وهكذا. نعم، سأكتب مرّة أخرى في الفانتازيا، لكن كوميديا هذه المرّة، وليس من وجهة نظر سوداويّة.

 

ثمّة قيود يفرضها الاستعمار الإسرائيليّ على الكتب المطبوعة في لبنان وسورية، بصفتهما دولتين معاديتين، وهذا يرفع سعر الكتب الصادرة فيهما، ومنها كتب إبراهيم نصر الله؛ هل يؤرّقك ارتفاع سعر كتبك، ولا سيّما أنّ معظم قرّائك من جيل الشباب؟ وكيف ترى الحلّ؟

إبراهيم نصر الله: نعم، يؤرّقني هذا كثيرًا. ثمّة مبالغة في رفع سعر الكتب، ليس من الناشر، بل من أصحاب المكتبات؛ رواية مثل "زمن الخيول البيضاء" تكون للموزّع الرئيسيّ في حدود أربعة دولارات، مع أنّ عدد صفحاتها أكثر من 500، ورواية "أعراس آمنة" أقلّ من دولارين، وهكذا. ثمّة جشع. في بعض الأحيان، تُضاعف الأسعار، وحتّى الكتب المزوّرة التي سعر غلاف طبعتها الأصليّة سبعة دولارات، تُباع في الضفّة وفلسطيننا البحريّة بضعف هذا السعر. وبالطبع، أنا مستاء من هذا الجشع القائم أصلًا على جشع التزوير، سواء كان فعليًّا، أو قائمًا على تزوير سعر النسخة الأصليّة. نعمل الآن على طبعة خاصّة بالأراضي الفلسطينيّة، ستبدأ بصدور اثني عشر كتابًا لي دفعة واحدة، وسنرى ما ستسفر عنه هذه التجربة، وستكون الأسعار بالتأكيد أقلّ من سعر الكتاب المزوّر.