• 19 حزيران 2018
  • مقابلة خاصة

 

 

 

 

  القدس أخبار البلد ـ  من منا لم يسمع ولو مرة واحدة في حياتة اسم ”بوابة مندلبوم“  او سمع من كبار السن المقدسيين  قصة من القصص الانسانية التي لها علاقة مباشرة مع تلك البوابة التي لم يبقى منها سوى الذكريات والالم ،

 أن بوابة مندلبوم كانت رمزا لحرب ولتقسيم ولهذا سارعت اسرائيل بعد احتلال القسم الشرقي من المدينة عام سبعة وستين بمحو هذه البوابة عن الوجود على امل محوها من الذاكرة في اطار جهودها لخلق واقع يهودي للمدينة التي لم تكن ولن تكون كذلك

قام الصحفي علاء ابو قطيش  بتخصص مقالة مطولة وموثقة ، كانت بوابة مندلبوم محورها وتم نشرها في موقع باب الواد ، ونحن في ”أخبار البلد ” نقوم بإعاة نشر تلك المقالة في إطار المساهمة بإعادة إحياء الذاكرة وإعادة كتابة التاريخ .  

“أتعرفين؟ طوال عشرين سنة كنت أتصور أن بوابة مندلبوم ستفتح ذات يوم ...ولكن أبداً، أبداً لم أتصور أنها ستفتح من الناحية الأخرى. لم يكن ذلك يخطر لي على بال، ولذلك فحين فتحوها هم، بدا لي الأمر مرعباً وسخيفاً وإلى حدٍّ كبيرٍ مُهيناّ تماماً ... قد أكون مجنوناً لو قلتُ لكِ إن كل الأبواب يجب ألاّ تفتح إلا من جهةٍ واحدةٍ، وإنها إذا فُتحت من الجهة الأخرى، فيجب اعتبارها مغلقةً لا تزال، ولكن تلك هي الحقيقة".
الشهيد غسان كنفاني- رواية "عائدٌ إلى حيفا".

عندما ينظرُ الناظرُ إلى هذه البقعة من مدينة القدس، منطقة "شارع رقم 1"، يجدها كشارعٍ صاخبٍ، لا تكاد تخلو في أيّ وقتٍ من وسائل النقل المتنوعة؛ من سياراتٍ وحافلاتٍ وقطاراتٍ تَصِلُ شمالَ المدينة بمركزها وشرقها بغربها، مليئةً باليهود والعرب والسياح الذين يصوّرون كلّ ما حولهم، إذ لا تترك مؤسسات الاحتلال الصهيوني فرصةً إلا وتقحم تلك المنطقة في نشاطات مختلفة؛ من السياحة والرياضة، وصولاً إلى السياسة.

وعند التأمّل فيها، نجدُ أيضاً أنّ المكان لا يخلو من ذكريات الماضي القريب الذي عايشته المدينة، خاصةً فترةَ التقسيم (بعد 1948)، وما سُمّي صهيونياً "إعادة التوحيد" (بعد 1967). للقدس طعمٌ آخرُ عن حالاتٍ أخرى تتصف بالتشابه: برلين، نيقوسيا، بلفاست، بيروت، موستار؛ لكلٍ من هذه المدن حكايةٌ تتجسد في ذكرى التقسيم و"إعادة التوحيد".

نبحث في هذا المقال عن ذكريات القدس وحكاياتها مع ذلك التقسيم، وتحديداً مع "بوابة مندلبوم"، التي شكّلت "معبراً" في منطقة القدس بين الدولة الناشئة "إسرائيل"، وبين أراضي الضفة الغربية تحت الحكم الأردني. تجذّرت وتجسّدت هذه الذكريات في عدة أماكن من المدينة، وبشكلٍ خاصٍّ في موقع  "بوابة مندلبوم"، أو في "حي سعد وسعيد" الذي يقع شمال البلدة القديمة للقدس، بين حيّ الشيخ جراح وحيّ المصرارة. ما هي بوابة "مندلبوم"؟ ولماذا اشتهرت المنطقة بهذا الاسم؟ ولماذا لا يوجد شيءٌ ملموسٌ اسمُه "مندلبوم" في الزمن الحاضر؟ وكيف تجسدت حكاية مندلبوم خلال الزمن الحاضر؟ هذه تساؤلاتٌ يحاول هذا المقال الإجابة عليها.

تقسيم القدس

خطٌّ أخضر وآخرُ أ حمر، هكذا بدأت حكاية تقسيم مدينة القدس، مع رجلين وقلمين هما موشيه ديان القائد العسكري الصهيوني لمنطقة القدس، والذي كان صاحب القلم ذي اللون الأخضر. أما الرجل الثاني فهو القائد الأردني عبد الله التل  صاحب القلم ذي اللون الأحمر. رَسَمَ كلٌّ منهما خطَّ الهدنة بلون قلمه على خارطةٍ لمدينة القدس، والذي من بعدهما تكرّس على أرض الواقع بتقسيم المدينة إلى شطرين: الشّطر الغربيّ الذي استولت عليه دولة الاحتلال خلال حرب عام 1948، والذي يشمل أغلبَ أحياء وقرى غرب القدس. الشّطر الشّرقيّ الذي وقع تحت حكم الأردن، والذي اُحتفظ بموجبه بالبلدة القديمة من القدس وباقي الأحياء والقرى الفلسطينية ثُبِّتَ هذا الرسم ضمن اتفاقية رودوس 1949؛ هذه الاتفاقية "المؤقتة" التي أصبحت مع مرور الوقت مرجعيةً للعديد من القرارات الأممية والمباحثات السياسية التي كرّست تقسيم القدس.

وهكذا، ظهر اسم "مندلبوم" لأول مرة بعد اتفاقية رودوس كمصطلحٍ يرمز إلى تقسيم المدينة عام 1949، فقد كان اسم البوابة "المعبر" الفاصلة بين غربي القدس وشرقها "بوابة مندلبوم". "مندلبوم" هو اسم عائلةٍ يهوديةٍ تنتمى للطبقة المتوسطة العليا كانت تقطن في منزلٍ بالقرب من نقطة العبور. يعود تاريخُ بناء البوابة كنقطةٍ ثابتةٍ إلى عام 1949 كما يظهر في وثيقةٍ أرشيفيةٍ صهيونيةٍ، توضّح مصادقة "يحزقئيل ساهر" Yehezkel Sahar القائد العام في شرطة الاحتلال لمنطقة القدس على القرار بإقامة بوابة "مندلبوم" بتاريخ 20 أيار من عام 1949.

يقول "ساهر" في رسالته: "أصادق لك على فتح نقطةٍ من أجل فحص الداخلين والمغادرين. تواصلت مع وزارة الخارجية وليس لديهم أيُّ انتقادٍ (حول القرار)، لذلك، سيكون هناك تفتيشٌ صارمٌ على الجميع، خاصةً في موضوع جوازات السفر الدبلوماسية. إذا كانت لديهم أسئلةٌ حول معرفتهم (للدبلوماسيين) في منع تمرير عملاتٍ نقديةٍ وذهبٍ، وإذا كان بحوزتهم مثل ذلك، فأنا أثق بك في تعيين رقيبٍ ذكيٍّ وصاحبٍ شرفٍ. تم قبول الموافقة من المقدم موشيه ديان لتنظيم ذلك. يجب تعيين ضابط من ضباطك ليقوم بتوفير تصاريح الدخول إلى القدس من الجهة الأخرى. على هذا الشخص أن يتشاور (يستشير) في كل حدث/ قضية مع ضابط الأمن في القدس. تم إبلاغ كل من موشيه ديان ويهودا جولان بهذا القرار. (القائد العام يحزقئيل ساهر)".

مأساة "مندلبوم"

"كيف يكون هذا؟ في الوسط ساحةٌ رحبةٌ من الأسفلت المعفّر، في قلب الناحية التي عرفناها باسم المصرارة. ولهذه الساحة بابٌ؛ بابٌ هنا وبابٌ هناك من الصفيح المحشو بالحجارة والمطلي بالكلس الأبيض، كلُّ بابٍ يتسع لمرور سيارة خارجة أو داخلة".

هكذا وصف إميل حبيبي نقطة العبور تلك في قصته القصيرة "بوابة مندلبوم". كان حبيبي شاهداً على تجربة مرور والدته من الأراضي المحتلة إلى شرقيّ القدس للقاء أولادها الذين تشتّتوا بعد النكبة، وتفرّقوا عنها، بعد أن حصلت على موافقة وزارة الداخلية الصهيونية.

وكما لوالدة إميل حبيبي حكايةٌ، فللفلسطينيين الآخرين أيضاً حكاياتٌ وذكرياتٌ كثيرةٌ مع هذه البوابة، وما ترمز إليه من مأساة التشتيت والاستعمار. سنعرض هنا زوايا مركّبةً من تلك الحكايات؛ كيف أن بعضاً من الباقين في الأحياء الغربية من القدس قد حاولوا "حتى الموت" في سبيل لقاء أشقائهم وأقربائهم على الطرف الآخر من خطّ "الهدنة"، منهم من نجح ومنهم من تم قتله. أما الزاوية الأخرى فهي عذابات الفلسطينيين في الحصول على تصريحٍ إما لزيارة الأهل أو من أجل الحج إلى المدينة المقدسة والاحتفال بأعياد الميلاد.

 

 

في كتاب اوراق عائلية ، يطرح عصام نصار مذكرات جريس السلطي، والذي بقي مع قلّةٍ قليلةٍ في حي البقعة غرب المدينة بعد سقوط الحي بيد العصابات الصهيونية عام 1948. تحكي لنا هذه المذكرات كيف مثّل السلطي مع غيره من السكان نموذجاً لعدم التسليم بواقع الحصار. يذكر السلطي كيف أن بوابة مندلبوم مثّلت لمن تبقى من الفلسطينيين هاجساً، إذ إنها ترمز إلى إمكانية طردهم من خلالها من حيّهم المُحتَّل إلى الشطر الشرقي من المدينة. تبعاً لتلك الهواجس، لم يخرج الفلسطينيون كثيراً من بيوتهم هناك إلا للضرورة القصوى بحثاً عن الغذاء والماء، وضرورات التواصل مع المحامين بخصوص أوضاعهم وأملاكهم التي نُهبت.

نتيجةَ ذلك، نحن أمام قصةٍ مثيرةٍ تمتلئ بالتحدي في "تهريب" البضائع من الشطر العربي للقدس، بالإضافة إلى تمتّع الأعين وملئها بمشاعر لقاء الأقارب في ساعات الصباح الباكر، لكنها بعيدةٌ كل البعد عن إجراءات بوابة "مندلبوم"، إذ إنّ تلك الزيارات لم تكن تحتاج إلى إجراءات "مندلبوم" المعقدة، والتي تبدّد الأمل للفلسطيني خلال انتظاره التصريحَ في لقائه الأهلَ. غير أن هذا المكان المُتحايل على البوابة كان ذا خطورةٍ عاليةٍ قد تودي بصاحب اللقاء بحتفه، هذا المكان كان قرية بيت صفافا التي قُسمت بين دولة الاحتلال والأردن، ما جعل القريةَ قسمين: القسم الشمالي الذي تسيطر عليه دولة الاحتلال، والقسم الجنوبي الذي يسيطر عليه الأردن.

لقد اعتاد السكان العرب على اللقاء هناك للحصول على المؤونة التي يحتاجونها، بالإضافة إلى لقاء الأهل بالدرجة الأولى. يذكر السلطي قصة السيدة ديب بشير التي فتشت سلطات الاحتلال الصهيوني بيتها، لعلمها بوجود اتصالات لها مع الشطر الآخر من القدس من خلال السلك الشائك الفاصل بين شطري بيت صفافا.

إلى جانب قصص النجاح في مقاومة قطع التواصل بين الفلسطينيين بين شطري المدينة، كانت هناك بعض القصص المحزنة، والتي فيها تعرض البعض للاعتقال على يد شرطة وجيش الاحتلال الصهيوني، أو مواجهة المصير الأسوأ؛ الاستشهاد بسبب الألغام الموضوعة على طريق بيت صفافا، فيذكر السلطي الحادثة التي راح ضحيتَها عددٌ من أفراد عائلة أبو خليل، بعد أن خَطَوا على لغمٍ بالقرب من منزلهم على طريق بيت صفافا، ما أدى إلى استشهاد ابنتين من بنات العائلة الخمس.

بالمقابل، يتمسّك أرشيف دولة العدوّ بسردية السيادة والسيطرة على الفلسطيني في حركته، مقابل نزع الفعل عنه في المواجهة، إذ يوثّق الأرشيف حالات انتظار الفلسطيني تصريحاً من الاحتلال للمرور عبر "مندلبوم"، وتصويره كامتيازٍ حلم به العديدون، لكن قلةً منهم تحقق حلمهم بالعبور عبرها؛ هذه البوابة التي وقفت لمدة 18 عاماً سداً منيعاً أمام الأهل والأقارب.

يتضح من خلال الوثائق الأرشيفية أنه كان يُسمح بدخول فئاتٍ محددةٍ دون غيرهم، مثل الدبلوماسيين، والفلسطينيين المسيحيين من أبناء الأراضي المحتلة عام 1948، ورجال الدين المسيحي. لكن ربما لا يُخيل لأحدٍ أن يكون تحقيق أمل الانتقال بين طرفي المدينة صعباً أو معقداً، فكلّ من أراد المرور إلى شرقي القدس، كان عليه تقديم طلب بالحصول على تصريح إلى "الحاكم" أو "اللواء" المسؤول عن منطقته/ مدينته. وكان احتمال الرفض بمقدار احتمال القبول أو أكثر.

 وهنا تنعكس جوانبُ أخرى لعلاقة الفلسطينيين بهذه البوابة والمرارة التي سبّبتها لهم. نجد في الأرشيف الصهيوني رسائلَ بُعثت إلى ضباط المناطق المختلفة لطلب التصاريح، ومنها الرسالة التي كتبها السيد إلياس لطلب حضور زفاف ابنته في عمان عام 1959. رُفِضَ طلب إلياس حينها، ولكنه عاود في العام التالي تقديم طلب ثانٍ للحصول على تصريح لمفوض منطقة تل أبيب "يوسف كوبرمان". قال فيه: "في العام الماضي، خلال فترة عيد الميلاد المجيد، تزوجت ابنتي من رجل أردني وذهبت للعيش في عمان. تم السماح لزوجتي بحضور الزفاف، لكن تم رفضي، وبذات الوقت أُعطيتُ وعداً بمنحي تصريحاً لزيارتها هذا العام خلال فترة عيد الميلاد. لقد تقدمتُ بطلب الحصول على تصريح للزيارة منذ مدة، لكن للمفاجأة وخيبة الأمل حصلت على رفض الزيارة الأسبوع الماضي. بدون تحديد (السبب). أنا وزوجتي أشخاصٌ بدون أي توجّهٍ/ تبعيةٍ سياسيةٍ أو مصالح. نحن تحت سقف القانون، ومواطنون منتمون لدولة إسرائيل. نحن مقتنعون أن الرفض يعود إلى سوء فهمٍ في مكانٍ ما". ربما يمكن تفسير إيراد مثل هذه الجملة الأخيرة بمنطق التحايل الذي انتهجه عددٌ من الفلسطينيين على سلطات الاحتلال لكي يحظوا بفرصة اللقاء بأقربائهم وأحبائهم، بعد فترةٍ من الغياب عنهم.

يختم إلياس رسالته بالقول: "هل لك سيدي بلطفك أن تحقق في هذه المسألة، وأن ترى إن كان بإمكاني الحصول على التصريح اللازم لزيارة ابنتي وزوجها، هل بإمكاني الحصول على شرف معرفة السبب (سبب منعه من الحصول على تصريح الزيارة).
مع إخلاصي، أسعد إلياس".

 

وكما نسمع اليوم عن "القوائم السوداء"، كانت شرطة الاحتلال الصهيوني في لواء القدس تُحضِّرُ بالتنسيق مع السلطات الأردنية قائمةً بأسماء الأشخاص الممنوعين من العبور. جاء في رسالة باسم "رفال ليفي" من مفوضية لواء القدس إلى مفوضية لواء تل أبيب مع نسخة إلى وزارة الداخلية: "استمراراً لحديثنا الهاتفي خلال هذا اليوم، في ما يلي قائمة الأشخاص الذين تم منعهم من السفر من قبل السلطات الأردنية. ومن أجل المحافظة على النظام ومنعهم من الإزعاج أطلب بشكل خاص أن يتم إبلاغهم بهذا الأمر، وألاّ تزودهم بالتصاريح اللازمة.مع التحية، ر. ليفي. مفوضية لواء القدس"

 

في الخامس من حزيران من عام 1967، اشتعلت الحرب على جبهاتٍ عدةٍ: الجبهة الصهيونية من جهةٍ، والجبهة السورية والأردنية والمصرية من جهةٍ أخرى. ستة أيامٍ من الحرب واستخدام الأسلحة المختلفة (خاصةً سلاح الطيران) كان خلالها الكيان الصهيوني قد سيطر على عدة مناطق، وهي: الضفة الغربية وقطاع غزة (أصبحت مسيطِرة على كامل مساحة فلسطين الانتدابية)، بالإضافة إلى هضبة الجولان السورية وشبه جزيرة سيناء المصرية.

ومنذ اليوم الأول، اشتعلتْ جبهةُ القدس في عدة مواقع كانت مسرحاً للاشتباك بين الجيش الصهيوني والجيش الأردني؛ أهمها مناطق التحصينات الأردنية في تلة الذخيرة بالقرب من حي الشيخ جراح، إذ أفضت المعارك إلى سيطرةٍ صهيونيةٍ كاملةٍ على القدس، الأمر الذي أسقط رمزية التقسيم التي مثلتها بوابة مندلبوم خلال 18 عاماً من وجودها. لكن التساؤل الذي يطرحه المقال؛ لماذا تم محو البوابة بدلاً من إبقائها رمزاً مَتْحفياً لفترة "تقسيم القدس"، كما حدث في موقع معبر نقطة "تشارلي" في برلين على سبيل المثال،  وبدلًا من بوابة "مندلبوم"، أصبح المنزل الفلسطيني هو المكان "الأنسب" كرمزيةٍ متحفيةٍ تمثل تلك الحقبة التاريخية من القدس؟ لكن خلافاً لذلك، تم تحويل منزل عائلة برامكي  إلى متحفٍ تمت تسميته ب متحف على خط التماس ـ 

 

لا يمكن فصل العلاقة بين "بوابة مندلبوم" التي مثّلتْ رمزية التقسيم وبين هدمها بشكلٍ نهائيٍّ من جهةٍ، وبين اعتبار دولة الاحتلال "القدس الموحدة" عاصمةً لها من جهة أخرى، إذ شكّلت بوابة "مندلبوم" عائقاً يقبع في الوعي الصهيوني حول القدس؛ بكونها المدينة المقسمة غير المتجانسة، بين أحياء لليهود وأخرى للعرب، عدا عن كونها النقطةَ التي كان من الممنوع عليهم أن يعبروا من خلالها إلى الجزء الآخر من المدينة، خاصةً البلدة القديمة.

هذه بعض الأسباب التي جَعَلَتْ من مَحوها الفيزيائي أمراً ضرورياً ومُلِحاً من أجل مَحوِها من الوعي الصهيوني كرمزٍ لفقدان السيطرة على كامل القدس. كما حَوّل الاحتلال تمثيل البوابة إلى متحفٍ يحتل منزلاً فلسطينياً - منزل عائلة برامكي المُهجّرة - ذا إطلالةٍ مباشرةٍ على محيط "بوابة مندلبوم"، إذ يمكن زيارته والتعرف من خلاله، عن قربٍ، على تلك الحقبة الزمنية التي تم محوها بمحو رمزية بوابة مندلبوم بعد عام 1967.

بالمقابل، يمكن رؤية تلك الرمزية في الأدبيات التي تمت كتابتها حول بوابة "مندلبوم"، وبشكلٍ خاصٍ الروايات حولها التي تصور معاناة وجود البوابة، وهنا يقتبس المقال بعضاً من تلك الأدبيات بقولها: "في يومٍ خريفيٍّ وماطرٍ، زرتُ أنا وعشتار في مركز الاحتجاز للمفوض الذي لا يبعد الكثير عن بوابة مندلبوم- ذات البوابة التي توجد بالمدينة وتفصل بين الشرق والغرب، فرّقت بين العائلات، ويذهب إليها الحجاج من بحيرة طبريا إلى البلدة القديمة وبالاتجاه المعاكس. تذكرتُ اللقاءات الأولى لعشتار وجاكلين، ومن يتوقع الآن زيارتنا في مركز الاحتجاز.

استحال منزل عائلة برامكي، هذا المنزل المطلّ على "بوابة مندلبوم"، صورةً عن تقمّص الحرب والدمار، إذ تم تمثّله باعتباره رمزاً للتقسيم على حساب رمزيته عن سلب الأملاك الفلسطينية، وذلك من أجل خلق حالةٍ من شرعنة سلب البيوت الفلسطينية التي لوهلة كأنها كانت هي المسبب في جعل المدينة مقسمةً، بينما الصورة الأخرى هي على النقيض تماماً، فهذه البيوت- وعلى رأسها منزل عائلة برامكي- قد دفعت فاتورة التقسيم مرتين: الأولى باستخدامها جزءاً من خطّ الجبهة على حدود الهدنة (إذ كانت نقطةً عسكريةً صهيونيةً بعد النكبة)، والثانية بعرقلة دلالة سلب البيت، بتحويله إلى متحفٍ "حداثيٍّ" يدّعي اختزانه لقصة التقسيم وأصحاب البيت، لتصبح التغطية على السلب مزدوجةً؛ ماديةً ورمزيةً. هذه الحالة هي التي تمثل رمزية البيوت الفلسطينية بالقدس، خاصةً البيوت الموجودة عند خط الجبهة.

يستذكر جابي برامكي ابن انضوني برامكي قصة منزل والديه حول كيفية تحول المنزل الفلسطيني إلى مكان يتجذر فيه المتحف الاستعماري، هذا المتحف الذي يستعرض "مآسي الحروب"، ليس في القدس فقط، إنما في العالم أجمع، وقد تناسى مسؤولوه أنهم مسؤولون عن مأساةٍ واحدةٍ على الأقل؛ وهي سلبهم لمنزل قد حصلوا عليه من خلال قانون "أملاك الغائبين" في زمن وجود أصحاب المنزل على بعد أمتارٍ منهم. 

إنّ وجود المتحف في بيتٍ فلسطينيٍّ هو دعامةٌ أساسيةٌ في بناء منظومة المنتصر الدائم لدى العدوّ، وهذا ما دعاهم إلى محو "مندلبوم" من الوجود؛ لكونها شكلت حالةَ هزيمةٍ في حقبةٍ من حقب التاريخ لديهم، هي الحقبة التي كانت تفرض عليهم المرور من بوابة مندلبوم عبر قافلةٍ للأمم المتحدة للتوجّه إلى حرم الجامعة العبرية في جبل المشارف الذي كان يقبع في الشطر الذي تسيطر عليه الأردن، وذلك مرةً كل أسبوعين. هي الحقبة، أيضاً، التي كانت فيها البلدة القديمة في القدس محظورةً عليهم. 

كل ذلك جعل من المتحف أداةً أساسيةً في محو الهزيمة مقابل تكريس النصر بوضعه في منزلٍ إذا تم استرجاعه، سيشكل بدايةً لاسترجاع فلسطينية المدينة؛ سواءً في شرقها أو غربها. لم يعد قلم عبد الله التل أو موشيه ديان موجوداً لتقسيم المدينة مرةً أخرى، لأن الطرفين قد فهما قواعد اللعبة جيداً؛ إما نسيطر على المدينة بكاملها أو نخسرها بكاملها.