• 7 تشرين الثاني 2018
  • مقابلة خاصة

 

   

القدس - أخبار البلد -  خصص الكاتب  محمد الارناؤوط مقالة مطولة  في صحيفة القدس العربي قبل فترة طويلة للحديث عن رائد الصحافة  في فلسطين عيسى العيسى ، والذي كان الكاتب ” ناصر الدين النشاشيبي قد تعرف عليه عن قرب وكتب في صحيفة فلسطين مقالة يومية تحت اسم مستعار ، واليكم المقالة كما نشرت : 

 كُلّ من اشتغل على تاريخ  فلسطين الحديث يقدّر جريدة "فلسطين"، التي هي أول جريدة يومية منتظمة تصدر في فلسطين (يافا 1911)، وكانت تحفل بأخبار تلك الفترة الانتقالية المهمة في تاريخ البلاد عقب الثورة الدستورية في 1908 وعزل السلطان عبد الحميد الثاني وصولاً إلى الحرب العالمية الأولى وإعلان وعد بلفور. كانت تلك سنوات الشد والجذب بالنسبة إلى المشروع الصهيوني الجديد، حيث عُرفت "فلسطين" بمعارضتها القوية لهذا المشروع منذ انطلاقتها، ولذلك تعتبر مصدراً مهماً لتلك السنين الحافلة بالأحداث.

ولكن ماذا عن مؤسسها عيسى العيسى (1878-1950) الذي ولد في يافا وتوفي في بيروت واستمرت جريدته تصدر حتى 1967؟

كانت دعوة المعهد الفرنسي لدراسات الشرق الأدنى في عمان مغرية لحضور قراءة د.نهى تادروس خلف في مذكرات جدها المخطوطة في العربية. كانت هناك أكثر من مناسبة: الذكرى الـ 140 لولادته والذكرى الـ 70 للنكبة التي عايشها العيسى في لبنان بعد أن استقر فيه لاجئا من ملاحقة سلطات الانتداب في ذروة الحركة الوطنية (1938)، حيث كتب مذكراته في السنوات الأخيرة التي سبقت وفاته.

كانت قراءة الحفيدة للمذكرات مشوّقة لأنها كانت تكشف من ناحية عن تكوين جدها ومعاناته في السنوات التي سبقت تأسيس الجريدة ثم عن معاناته بعد تأسيسها من عدة جهات كانت منزعجة لاتجاه الجريدة وما تنشره. فقد كانت هناك الرقابة العثمانية، بعد أن خُيل للعيسى أن عهد الحرية قد حلّ في 1908، والملاحقة الصهيونية له بالترغيب والترهيب بسبب ما كان ينشره ضد المشروع الصهيوني الجديد ، كما كانت هناك الكنيسة الارثوذكسية برئاستها اليونانية التي كانت منزعجة من دعوة العيسى لتعريب الكنيسة ورئاسته للاجتماعات والمؤتمرات التي كانت تعقد آنذاك.

ولد عيسى العيسى في يافا في السنة التي تمّ  فيها تعطيل الدستور العثماني، بعد الحماس الذي أثاره الإعلان عنه في 1876 ، حيث درس أولا في مدرسة الفرير ثم تابع دراسته في مدرسة كفتين بلبنان والتحق بعدها بالجامعة الأمريكية في بيروت حيث درس اللغات وعاد إلى فلسطين ليعمل أولا ترجمانا لدى دير الأحباش ثم عمل وكيلا لقنصل ايران في القدس، حيث أصبح يحظى بلقاء متصرف القدس، ثم قرر الذهاب إلى القاهرة التي كانت جاذبة لـ"الشوام" الراغبين في الحرية والصحافة. ولكن هناك فوجىء بحضور صهيوني في جريدة "المقطم" ولما حاول الرد عليه لم تنشر الجريدة ما أرسله، ثم حاول مع جرائد أخرى كـ"اللواء" و"المؤيد" إلا أنه فوجىء بردّهم في أنهم غير مهتمين بهذه المواضيع.

في 1910 توفي والده فعاد إلى يافا لتولي شؤون العائلة والاستقرار هناك مع المستجدات  بصحبة ابن عمه يوسف العيسى. كان عيسى العيسى يعاين ما استجد في فلسطين في غيابه بمصر. كان قد احتفى كغيره بالثورة الدستورية في 1908 ، ولكنه يدوّن في مذكراته أن ابن عمه كان منحازا للاتحاديين بينما كان هو مع اللامركزيين. وهنا يكشف أن المشروع الصهيوني انتعش في تلك السنوات نظراً لأن بعض الاتحاديين كانوا يتعاطفون معه و"يسعون لتحقيق آمالهم تحت تأثير الضغط المالي أو السياسي".

 في هذا السياق انطلقت جريدة "فلسطين" في 1911 بمعارضة قوية للمشروع الصهيوني ، ولكن ما يكشفه في المذكرات يُظهر أن الجهات الصهيونية حاولت أولا استمالة الجريدة ثم اكتفت بالمطالبة بـ"تخفيف شدتها" باستخدام "وسائل المال والجمال" . ومع رفض العيسى لكل هذه الإغراءات أصبحت الجهات الصهيونية ترفع القضايا ضده بتهم "التفرقة بين العناصر" و "الذم والتحقير" مع المطالبة بالتغريم أو التعطيل . ومع استمرار موقفه ضد المشروع الصهيوني جاء في زيارة إلى فلسطين السفير الأمريكي في استانبول هنري مورغانتو، الذي يبدو أنه حمل رسالة من الجهات الصهيونية الى الصدر الأعظم كامل باشا الذي أرسل برقية مفاجئة بتعطيل الجريدة في 1912.  ومن هنا فقد استغرب العيسى حين طلبه متصرف القدس ليبلغه بقرار التعطيل الذي كان يشكّل سابقة ، ولكن عندما نشرت الخبر صحافة القاهرة تم التراجع عنه والسماح له بإعادة إصدار الجريدة.
في السنوات اللاحقة (1912-1914) تكشف المذكرات عن استمرار المواجه على ثلاث جبهات: مع الرقابة العثمانية والحركة الصهيونية والكنيسة الارثوذكسية برئاستها اليونانية . كانت المشكلة مع الرقابة العثمانية أكبر مع اقتراب الحرب العالمية الأولى . فمع أنه ابن عمه يوسف العيسى "من أركان الاتحاد والترقي" كما يصفه ، كما أن عيسى العيسى نفسه كان يشعر بالانتماء للدولة العثمانية مع كونه معارضا للاتحاديين وميله إلى المعارضة اللامركزية ، ومن هنا كان يرى أن تبقى الدولة العثمانية على الحياد وألا تتورط في الحرب العالمية. كان عيسى وابن عمه يوسف وراء المطالبة بتعريب الكنيسة الارثوذكسية أو المطالبة بحقوق العرب، ولأجل ذلك ذهب ابن عمه إلى استانبول . من استانبول كان يوسف العيسى يكتب رسائل إلى ابن عمه في يافا ، دونما أن يعرفا أن الرسائل تخضع للرقابة التي استشمّت منها رائحة معارضة لدخول الدولة في الحرب إلى جانب ألمانيا والنمسا فاعتقلت الاثنين ونفتهما إلى الأناضول .

 في نهاية الحرب عاد عيس العيسى إلى بلاده فالتقى الأمير فيصل في درعا في أول تشرين الأول 1918، حيث كان في طريقه إلى دمشق مع قوات الثورة العربية، فطلب منه الأمير أن يذهب معه إلى دمشق حيث أصبح هناك سكرتيرا في الحكومة العربية التي أعلنها الأمير فيصل في 5/10/1918 . وبقي العيسى في دمشق ليشهد في 8/3/1920 إعلان الاستقلال ثم سقوط هذه الدولة العربية مع تقدّم الجيش الفرنسي لاحتلال دمشق بعد موقعة ميسلون في 24/7/1920 . ومع مغادرة الملك فيصل والنخبة العروبية دمشق رجع العيسى إلى يافا ليعاود من هناك إصدار جريد "فلسطين"وخوض معركة جديدة مع سلطات الانتداب البريطاني حتى اندلاع ثورة 1936، التي اضطر بعدها للجوء إلى لبنان . ومع ذلك بقيت "فلسطين" مستمرة في الصدور بعد أن تولاها ابنه رجا وابن عمه يوسف العيسى .

 مذكرات عيسى العيسى ، التي تكشف أيضا عن موهبته الشعرية والكثير من الخلفية السياسية والثقافية للقيادة الفلسطينية ، اشتغلت عليها الحفيدة وأصدرتها مترجمة إلى الفرنسية مع دراسة مطولة عنها، وهذه فرصة لنتمنى عليها إصدارها في العربية أيضا لكونها مصدرا مهما لتلك الفترة الانتقالية من نهاية الحكم العثماني إلى بداية الانتداب البريطاني وصولا إلى انطلاقة الحركة الوطنية الفلسطينية .

عن القدس العربي