• 19 كانون أول 2018
  • مقابلة خاصة

 

 

 قونيا - اخبار البلد - كتب فراس الراعي - " ما تبحث عنه يبحث عنك" هذا ما قاله مولانا جلال الدين الرومي. بينما كنت اتصفح الانترنت قرأت خبراً عن تنظيم مناسبة الذكرى السنوية 745 لوفاة مولانا جلال الدين الرومي في مدينة قونيا وسط تركيا.  أحسست أن هذا الخبر كان بمثابة دعوة لي، ومناجاة من أجل استحضار المشاعر الروحية السامية لمولانا التي ترقى بالنفس إلى مرتبة الصفاء  لعلِّي أجد الحكمة التي أبحث عنها، يقول مولانا: "لا تبحث عن قبرنا في التربة بعدما نموت، بل ابحث عنا في قلوب العاشقين"

 وفي اليوم التالي  حزمت حقائبي واستقليت القطار صباحاً من إسطنبول حيث أقيم متوجهاً إلى قبلة العشاق ومنشأ قواعد العشق الأربعون مدينة قونيا.

يتم أحياء ذكرى وفاة مولانا كل عام خلال الفترة من 7 وحتى 17 ديسمبر/كانون الأول فيما يعرف بـ "شب عروس" بالفارسية أو ليلة العرس والتي كان ينتظرها الرومي  ليعود إلى الذات الإلهية بحسب الرؤية الصوفية.

وصلت إلى قونيا بعد ظهر ذلك اليوم وما أن خرجت من المحطة حتى وجدت مولانا يستقبلني بوجه بشوش وألفة ومواساة وقال لي: " السلام على الضاحكين وفي قلوبهم سنين بكاء، أولئك الذين قرروا العيش ولم تحالفهم الحياة بعد"

أمسكني من يدي وربت على كتفي ودعاني لنلحق بالمسيرة الضخمة التي يشارك بها المئات من المواطنين المحليين ومن دول العالم في هذه المناسبة التي حملت هذا العام شعار "وقت السلام"  قال لي مولانا:" سلامٌ على أولئك الذين رأوا جدار روحك يريد أن ينقض فأقاموه، ولم يفكروا أن يتخذوا عليه أجرا."

وبعد ذلك ذهبنا معاً إلى مركز مولانا الثقافي  لنشاهد رقصة "المولوية" الصوفية، التي يقدمها عدد من الدراويش على أنغام الناي والدف واشتهرت الرقصة المولوية بما يعرف بالرقص الدائري لمدة ساعات طويلة سألته عن سر هذه الرقصة فقال لي:
يرى الصوفي أن القلب مركز الحب الإلهي، وهذا ما أوحى لي بالرقصة الصوفية عندما خرجت لصلاة الفجر، فرأيت الورد والزهور والربيع والندى والجمال والنقاء، وسمعت زقزقة العصافير، ففتحت قلبي للدنيا ورحت أدور وأنا أقول "مجرات النجوم تدور، وجميع الكواكب تدور، والدورة الدموية في الجسم تدور، وحجاج بيت الله الحرام حول الكعبة يدورون، وقطرات الماء في الدنيا من البحار إلى السماء فالأرض عائدة إلى البحار إنها تدور"

  حضرنا العديد من المعارض التي تعرف بالمتصوف الكبير، والعديد من الندوات والمحاضرات وورشات العمل، ودروسا في كتاب المثنوي الذي ألفه الرومي
 وهو عبارة عن مجموعة أشعار وحكم في العشق والفلسفة تتمحور مواضيعها حول علاقة الإنسان بخالقه من ناحية، وعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان من ناحيةٍ أخرى، وقد قال لي الرومي بعضاً من حكمه التي أوردها في هذا الكتاب:
"ـ إذا كان الظامئون يبحثون عن الماء في الدنيا، فإن الماء في الدنيا يبحث أيضاً عن الظامئين.
ـ ما كان ذا معنى يبدو طيباً حلواً، وما لا معنى له فضيحة في حد ذاته.
ـ الروح الخالية من المعنى هي لا شك في هذا الجسد، كأنها السيف الخشبي في الغمد.
ـ إن كنت صخرة أو حجر مرمر، عندما تلحق بصاحب قلب تصبح جوهراً.
ـ إن المال بمثابة البذور فلا تغرسه في كل أرض خراب، ولا تضع السيف في يد كل قاطع طريق.
ـ عندما لا تجازي صنم النفس بما يستحق، يتولد من صنم نفسك صنم آخر، وإن صنم نفوسكم يعد أم الأصنام، فالصنم حية، لكن صنم النفس تنين.
ـ أنج يا أخي من أبي جهل الجسد.
ـ من عشق الحبيب، ينقلب إلى حلو كل مر.
ـ إن تسبيحك يكون بخاراً حاوياً للماء والطين، لكنه صار طيراً من طيور الجنة بنفحة صدق القلب."


وبينما نسير معاً في شوارع قونيا التي تحتفل بذكراه  قلت له: لقد جذبت أفكارك الناس من كل المِلل والأديان لأنك تشجع التساهل مع كل الأفكار والمعتقدات الأخرى أنك لحكيم عظيم!
قال لي :"فيما مضى كُنت أحاول أن أُغير العالم ، أما الآن وقد لامستني الحكمة، فلا أحاول أن أُغير شيئاً سوى نفسي" غير نفسك.

ثم اصطحبني لزيارة مقامه الذي يستدل علية الزائر بسهولة وسط مدينة قونيا، وما أن تدخل المقام  حتى تشعر أن روحك تهيم شوقاً ومحبة وتدفع عنك الكره وتسمو بروحك مع الموسيقى التي تنبعث في كل مكان.
تحت قبة المقام هناك قبر جلال الدين الرومي، مزخرف بالذهب ومغطى بقماش ذهبي، رافقني مولانا إلى غرفة كبيرة داخل مقامه توجد فيها معروضات من التحف التاريخية المولوية منها: آثار الرومي الشخصية بما في ذلك القبعات المخروطية وسجادة صلاته، ملابس، وآلات موسيقية قديمة كالناي المصنوعة من الخيزران. هذه التحف تعود إلى أكثر من سبعة قرون مضت.


عاش جلال الدين البلخي المعروف بـ(الرومي)، والملقب بـ”مولانا”، ما بين (604هـ/1207م -672هـ/1273م)، في عصر التحول في الشرق الإسلامي وهو القرن السابع الهجري.
 اسمه الحقيقي محمد بن محمد بن حسين بهاء الدين . ولد في "بلخ" الأفغانية التي عرف عنها بأنها مدينة العلم والعلماء، والتي شكلت مركزاً مهماً من مراكز التصوف الإسلامي، وساهمت في ظهوره وبلورته. توفي في قونيا. يقال إنه لقب بـ"مولانا" بعد وفاته عن 68 عاماً، وهو اللقب الذي اختاره له مريدوه الذين ينسبون إليه الطريقة "المولوية".

وكان جلال الدين الرومى مثالاً عظيما للتسامح، متّبعا تعاليم الدين، وأُحيط بأشخاص من الديانات والملل الأخرى، وضرب مثالا للتسامح معهم، وتقبلا لآرائهم وأفكارهم، وكان كل من يتبع مذهبه، يرى أن كل الديانات خير، وكلها حقيقية.

مضى الوقت سريعاً بصحبة مولانا ولازالت موسيقى الناي وصوت ابتهالات الدراويش وهم يرقصون المولوية في أذني، وكما استقبلني في محطة القطار ودعني هناك ولولا التزامي ببعض الأعمال في إسطنبول لأقمت مدة أطول في حضرته. لقد لاحظ مولانا الوجوم والهم يبدو على ملامحي حزناً على فراقه، فقال لي آخر جملة وهو يبتسم مودعاً: "أيها المسافر، لا تضع قلبك في أي منزل، وإلا أصبحت مهموماً عند الرحيل عنه".