• 27 نيسان 2019
  • مقابلة خاصة

 

 القدس – أخبار البلد – نشر موقع "حبر" الأردني المعروف للكاتبة " عروبة عثمان"   تقريرا عن كتاب  أوراق عائلية الصادر عن مؤسسة "الدراسات الفلسطينية" ، هذا التقرير يروى حكاية من تاريخ الفلسطينيين ، حكاية لم تروى بكاملها حتى الان ، ويسعدنا في  شبكة " أخبار البلد" ان تعيد نشر التقرير كما هو ايمانا منا بضرورة نشر المعروفة والمساعدة بإيصال الرسالة لأكبر عدد ممكن من الباحثين والمهتمين والقارئ العربي أينما وجد .

ثمّة تاريخ «استعادي» أو ما يُسمى بغير الرسمي بدأ بالنهوض فلسطينيًا في العقود الأخيرة، كنوعٍ من الجهر بهوية «مَنْ هم تحت» في ظلّ تعالي التاريخ النخبوي التقليدي عليهم، وكردٍ على المركزية البحثية في التاريخين السياسي والنضالي. وبعد أن فرضت السلطة احتكارها على التاريخ وعملية التذكّر والنسيان إجمالًا، بل واعتبار تاريخها معياريًا يمكننا من خلاله محاكمة أي حدث تاريخي، جاء التاريخ الاجتماعي ليقاوم محاولات تجميد التاريخ، وحوّله إلى فعلٍ اجتماعي بامتياز، لم يكن ليتشكّل لولا التفاعلات الاجتماعية التي يصوّرها كثيرون وكأنها ذات صوت خافت في الخلفية، لا في المقدمة.

يعيد ذاك التاريخ للصوت المُقصى ألقه، ويعيد الاعتبار إليه بصفته صاحب تجربة أفضت بالنهاية إلى تجربة أعمّ، لنستعيد بذلك مجتمعًا مُفعمًا بالتفاصيل والظلال. يُصطلح على هذا التاريخ ما يُعرف بـ«المايكرو هيستوري»، بمعنى التحوّل في استقصاء خط السرد من الأرض إلى «الدولة» وصولًا للمجتمع، إذ نتمكّن عبره من دراسة موضوع جزئِي قد يبدو غارقًا في محلّيته، أو دراسة تجربة فرد بعمق عمودي لا توفره الدراسات الشاملة الأفقية (الماكرو هيستوري) التي تفرز بطبعها سياسات الهوية، وتتجه في منطقها نحو التصنيف ودمج بعضها وإقصاء أخرى.

المنطق الخاص بفلسطين

في السياق الفلسطيني، يبدو الاندفاع نحو هذا النوع من التاريخ أكثر إلحاحًا وخصوصيةً، وفي ذات الوقت أكثر إرباكًا، وذلك لعدة اعتبارات؛ أهمها النكبة وما نتج عنها من سردية الأولوية والهوية التي لا تعي نفسها إلا بوجود «الآخر»؛ بمعنى تقديم الحاجة إلى صناعة ذاكرة جماعية عن المجازر والتهجير على أي موضوعة أخرى، وهو ما نمّط، مثلًا، منهجية التاريخ الشفوي، ولم يدفع بها كثيرًا نحو مناطق أخرى سابقة على النكبة في نطاقها الاجتماعي.

كما لا يمكننا نسيان لعبة الخيارات التي يفرضها الاحتلال على الفلسطينيين، بمعنى دفعهم نحو خيارٍ قاسٍ لتجنب احتمال أكثر قسوة، وهو ما دفع كثيرين إلى حرق وإتلاف أرشيفاتهم وأوراقهم الخاصة، مثلما حصل مع أوراق الشهيد عبد القادر  الحسيني  ومقتنياته التي بقيت في منزل داود الحسيني، إذ إنها أُحرقت كاملًا عام 1967. تبدو بذلك الوصاية الأرشيفية كعملية لا تتمّ دومًا بمنطق السلب المباشر، بل تدفع الفلسطيني أحيانًا إلى خنق وسلب صوته الحميمي بنفسه، وصولًا إلى بنية خطابية أرشيفية تُعتبر مرساة السيادة الوطنية للمستعمِر، وتمتلك وظيفةً رمزيةً بتوحيد مجتمعها وتعزيز جماعتها من جهة، وتخلق شعورًا لدى الفلسطيني بعجزه تمامًا عن الاشتباك مع روايته دون الاشتباك مع تلك البنية من جهةٍ أخرى.

بتعبيرٍ آخر، ثمّة تاريخ اجتماعي فلسطيني هائل داخل الأرشيفات الصهيونية، بيد أنّ شدّة التحفظ على بعض ملفاته تخفي من ورائها نهمًا شرهًا باستكشافه الدائم، ففي كل مرة تطفو على السطح هذه الملفات بفعل أحد الباحثين الإسرائيليين، يتخذ الأمر شكل الاكتشاف الخارق دون حقوق ملكية للأصل، مثلما حدث مع الباحث سليم تماري حينما تمكّن من الحصول على مذكرات جندي عثماني مقدسي يُدعى إحسان الترجمان التي وظفها في كتابه التاريخي الاجتماعي «عام الجراد»، إذ اتهم حينها بسرقة هذه المذكرات من الأرشيف الصهيوني، وكأنّ المسألة استحالت تفصيلًا أخلاقيًا مرتبطًا بمظلومية إسرائيلية من جهة، وخرق أخلاقي للفلسطيني من جهة أخرى، رغم أنها في حقيقتها تحويرٌ لفعل السلب والمصادرة الحقيقي لمذكرات الترجمان وغيرها من الأرشيفات الفلسطينية.

هنا، يبرز لدينا سؤال إشكالي، خاصةً لو استعدنا «ملفات القرى» داخل الأرشيف، التي تحوي معلوماتٍ تفصيليةً عن 380 قرية فلسطينية، كتبتها مجموعة من المخبرين العرب والمستعربين اليهود، باعتبارها مادةّ ثريةً للتأريخ الاجتماعي المعاصر لفلسطين قبل النكبة. يحمل هذا السؤال توترًا على صعيد النتيجة التي تُفضي إليها احتمالية تعطيل النظرة الكولونيالية في هذه الملفات، وردّ الخطاب إلى معقله الأساسي، مُنحّيًا الطابع الاستخباري جانبًا؛ ومُعيدًا إليها ضرورتها الاجتماعية (مثل التركيبة السكانية والعلاقات بين السكان على مستوى الحمولة والطائفة، وملكية الأراضي ومصادر المياه، وناشطي الحركة الوطنية)؛ بمعنى هل نحن بذلك نبني فعلًا تحرريًا، أم نعيد التوكيد على سطوة الأرشيف علينا ولو بطريقة مختلفة وفقًا لمنطق الانفعال به أولًا وأخيرًا؟ وهو ما يتقاطع مع ما تطرحه الباحثة جانيت باستيان حول ما تسمّيها «همسات في الأرشيفات»1، المبنية على أساس اكتشاف كلمات أو أعمال المستعمرين داخل الأرشيف، وبالتالي إعادة قراءتها بما هو أسفل من السطح وتعطيل النظرة الكولونيالية فيها.

هَدِفتُ من هذا الاستعراض إلى الوقوف عند بعض المعضلات التي تحرّضنا، بالضرورة، على محاولة الإمساك بزمام التاريخ الاجتماعي من ألفه إلى يائه بمصادرنا الأولية. دون أن نستحيل دائمًا رهائن نظرية استباقية مرتبطة بأرشيفات المستعمِر التي تنطوي على الرقابة بخصوص هوية المتلقي وفقًا لقانون الأرشيف الذي تم تنظيمه عام 1951 وتزوير بعض الوثائق، إضافةً إلى الرقابة الذاتية من نوع تحويل المجازر في الأرشيف إلى نوعٍ طاغٍ من «التصرفات الشاذة خلال الحرب» التي لا تعبّر عن القاعدة. الهدف من ذلك هو إحياء تاريخنا المحلي كلبنة أساسية في فهم التغيرات الهيكلية التي أصابت المجتمع، وعلاقته بالسلطة، دون أن تكون الأخيرة من تقصّ علينا التاريخ من أعلى، بل يكون الإنسان العادي خزان المعرفة هنا ويعكس ما هو أعلى، لكن دون أن يعني ذلك دومًا أن تجاربه قابلة للتعميم والنمذجة أو القولبة والأدلجة.

أوراق عائلية نموذجًا

من المهم النظر إلى كتاب «أوراق عائلية: دراسات في التاريخ الاجتماعي المعاصر لفلسطين»، الصادر عن مؤسسة «الدراسات الفلسطينية»، كأحد أهم النماذج التي تستوفي الشروط السابقة بانتماءٍ عالٍ للجذور السفلى. يجمع الكتاب ثلة من الباحثين باعتماده على مصادر محلية وغير تقليدية، كالمذكرات الشخصية، واليوميات، والأوراق العائلية، وسجلات المحاكم الشرعية الإسلامية، وسجلات الكنائس والذاكرة الشعبية الشفوية، والصور الفوتوغرافية، والتراث المادي المعماري. وقبل التوقف عند الكتاب، لا بد من التأكيد على أن المقالة لا تدعي مراجعتها لكل الدراسات -16 دراسة- التي وردت في الكتاب، إذ إن هدفنا ليس استعراضيًا لفصول الكتاب، بقدر ما هو محاولة لتأصيل الكتاب في سياقه الفلسطيني الأكبر، بهدف الدفع بالتاريخ الاجتماعي إلى مناطق أكثر مجهوليةً لدينا، فضلًا عن رفع مستوى الوعي بكثير من الأوراق التي نمتلكها اليوم، دون أن نمتلك بَعد استدراكَنا لقيمتها الحقيقية التي قد تتكشّف لنا مع تقادم الزمن، مثلما حصل مع كثير من اليوميات والمفكّرات الشخصية التي اعتمد هذا الكتاب عليها، محاولةً منه لخلق أرشيف ذاكرة فلسطيني في مواجهة المحتل، خصوصًا أن التأريخ الاجتماعي لفلسطين لا يزال في بداياته، وهو مقتصر على باحثين بعينهم.

الجميل في هذا الكتاب أن منهجيته البحثية هي الخيط الناظم بين مختلف الدراسات، غير أنها تحمل طيفًا واسعًا من الموضوعات، لكن كلها بالضرورة على نسق التاريخ الاجتماعي في الحقبة المعاصرة لفلسطين. يتكوّن الكتاب من أربعة أبواب، تحمل مثلًا: نبشًا في يوميات موظف انتدابي بين دورا الخليل وبيت المقدس، وحديثًا عن التغيّر الذي حل بملكية الأراضي في البيرة ونشوء زعامات جديدة فيها إثر ظاهرة هجرة أهلها إلى الولايات المتحدة، واستقصاءً لـ«ناقة الله في سيبريا: جندي عثماني مقدسي في المنفى»، ووقوفًا عند يوميات النخبة في عهد الانتداب البريطاني، بما شهدته من التباس المواقف وتضارب الرؤى إزاء الانتداب والحركة الصهيونية، واكتشافًا لكريمة عبود بوصفها أول مصورة فوتوغراف في فلسطين، وبحثًا في تحييد العمارة كوثيقة تاريخية لصالح النزق الكتابي الفلسطيني، على الرغم مما يتيحه الانفتاح على العمارة من تجميع شظايا التاريخ التي لا تشير إلى أعقاب الخراب وبقاياه فحسب، وكذلك استعادةً لأثر فجيعة الفقد للقدس عام 1948، اعتمادًا على أوراق واحدٍ ممّن رفضوا مغادرة حي البقعة والعيش في هامش الزمن، على الرغم من أن أحياء البقعة الفوقا والتحتا والطالبية والقطمون أُفرغت بشكل كامل من سكانها الأصليين في عام النكبة.

يبدأ الكتاب بمداخلة منهجية هامة عن ماهية الأرشيف في «أرشفة فلسطين والفلسطينيين: إرث إحسان النمر» لبشارة دوماني، صاحب كتاب «إعادة اكتشاف فلسطين: أهالي جبل نابلس 1700-1900»، إذ يعتبر أن الأرشيف هو ميدان الإجازة المنطقي الذي «يطبعن» بعض الروايات عن الماضي، ويسكت بالتالي، ضمنيًا، عن رواياتٍ أخرى. كما يستهدي بمنظور نقدي للأرشيف يركز بالضرورة على التبعات المترتبة على الاختيار والأسلوب في عمل الباحث، فلماذا يُنظر إلى بعض المواد على أنها تشكّل مواد أرشيف من دون غيره؟ وما هي أنواع الأرشيفات التي تظهر إلى الوجود كنتاج لتوجهات بحثية محددة للتحقيق؟ ما يميّز دوماني في دراسته هذه الضرب على وتر ثلاث قضايا في غاية الأهمية والتي تكتنف الأرشيف بالضرورة؛ أولها حول اللحظتين المفتاحتين في تشكّل الأرشيف: لحظة إنتاج النص نفسه، ولحظة استخدام النص من الباحثين في نقطة ما في المستقبل كمصدر أرشيفي وكيفية استقباله، محيلًا هاتين اللحظتين إلى لحظة أيقونية ثابتة؛ وهي تشكّل الأمة والهوية الجمعية، خاصةً في سياق الأيديولوجيات القومية التي تشهد توترات مع ذاكرة منافسة لها، وتقدّس مفهوم الأرشيف، بدافع الحرص على إثبات أن هناك أسسًا «علمية» لادعاءاتها. أمّا القضية الثانية، فتتمثّل في كيفية اختلاف استقبال الأرشيف الواحد وقراءته وتوظيفه، تبعًا لشروط الفاعل والهوية السياسية التي يحملها، والسردية التي يمضي بها. فيما النقطة الثالثة تقارب النزق الأرشيفي، باعتباره مسألة تظهر وتختفي، تبعًا للمعايير الأكاديمية والأمزجة الأيديولوجية. يتبع دوماني ذلك بمثال سريع للأوراق العائلية، كي يُمنطق ما ذكره في مداخلته النظرية، بأمثَلة المجموعات التي جمعها إحسان النمر (1905- 1985) الذي عاش كسليل عائلة حكمت مطوّلًا في نابلس، مكرسًا طاقته كلها للكتابة والنشاط السياسي، ليصبح تاريخه هو تاريخ جبل نابلس من الداخل في اتجاه الخارج، خصوصًا تاريخ العائلات المهمة التي حكمت الفضاءات الاجتماعية، وكانت مركزيةً لتاريخ المناطق الجبلية في فلسطين إجمالًا.

في الباب الأول من الكتاب الذي يحمل عنوان «دراسات عن السجلات»، يدعو موسى سرور إلى توظيف سجلات محكمة القدس الشرعية، التي تُعتبر أقدم المحاكم في بلاد الشام، في معركتنا المحتدمة على جبهة كتابة التاريخ الاجتماعي، خصوصًا أنها تنكشف على سيرورة تشكيل تاريخ المجتمعات المحلية العثمانية بمختلف طبقاتها وطوائفها وملكيّتها للأراضي، بفعل البنية الحدثيّة التي تأثرت بها أو جملة القضايا التي تفاعلت معها. تنبع أهمية الدراسة من كونها تستدعي مخالفة المنطق الذي يطبّع الحقبة العثمانية في أذهان كثير من الباحثين، باعتبارها قائمة على حدث سياسي فحسب، ومتصلة عضويًا بأوضاع دولية وقضايا خارجية، بعيدًا عن تطورات داخلية أكثر ضيقًا في مسافاتها المحلية، لكنها قد تكون أحيانًا أكثر رحابةً في الدلالة والتجربة. الحال نفسها تنسحب على مداخلة جورج هنطليان في هذا الفصل بعنوان «سجلات الكنائس».

كما تأخذنا سامرة إسمير، عبر هذا الباب، إلى عالم تصنيع فئة المتسللين الذي يتم داخل الأرشيف الصهيوني، في دراستها «العودة والمواطنة بين أرشيفات الذاكرة والقانون»، إذ تقول إسمير إن غياب مفهوم المواطن حتى 1952 استدعى غياب توأمه؛ أي اللاجئ الذي كان يُبعث كل يوم، ليسترد الأرشيف مقابله مفهومًا طغى عليه، وهو «المتسلل»؛ اللاجئ الذي لم يستطع العودة إلى وطنه. لكن السؤال هنا: من هو المتسلل، ومن هو توأمه الآخر الذي حضر في وطنه وغاب كمواطن عن الأرشيف؟ تأخذنا إسمير بذلك إلى ما يُعرف بـ«أرشيف القانون» الذي صاغ، بقرارات المحاكم، هذه التوأمة بالضرورة بين 1948-1952، ووضع بديلًا عن المواطن الذي له حق البقاء في «الدولة الحديثة» بأنه «الشخص الذي لم يثبت تسلله» بوجه الآخر المتسلل. الفكرة من الإضاءة على هذا الأرشيف هي تبيان مثلث العلاقة بين القوى العسكرية والبيروقراطية والقانون، وتصديره لسلطة خطابية تطغى على ممارسات المستقبل.

البقعة: حكاية الشاهد الصادق

حينما تقرأ الكتاب، لا تشعر أنك أمام تاريخ غير نخبوي فقط، بل أمام تاريخ حقيقي من لحمٍ ودم، وقصص لا تبدّل الحقيقي بالرمزي، أو تتعالى على المس الفظيع بالبشر، بل تدخل نطاقه وتحوّل الأشخاص الذين عاشوا في هامش الزمن وكانوا خارج الرواية لسنواتٍ طويلة إلى أبطالٍ لا تكتمل الرواية الفلسطينية دونهم. تعتبر دراسة عصام نصار «سنة عصيبة في البقعة» في باب «دراسات تستند للأوراق العائلية» إحدى النماذج على ما أقول، متسلحًا باليوميات التي دوّنها جريس السلطي الذي رفض مغادرة حي البقعة الواقع في الجهة الغربية الجنوبية للقدس، بعد سقوطه عام 1948.

«في مثل هذا اليوم من السنة الماضية أول مرة طلعت على الشارع ورحت عند أم جورج ولمّا شافتني صارت تبكي وقالت الحمد لله إني شفت ناس من جماعتنا». كانت هذه كلماتٍ دونها السلطي في مفكّرته بتاريخ 14 يونيو 1949؛ ليدخلنا عالمًا لم نقترب منه، وإن اقتربنا، «فقد قررت ذاكرتنا الجماعية وخطابنا التاريخي السائد تناسيه»؛ بمعنى سحق التجربة الشخصية لصالح تجربة أعم كتجربة اللجوء، على الرغم من أن الشخصي، في كثير من الأحيان، يكون مرآةً للحيز العام ونتاجه التاريخي. هذا بجانب أسباب طبقيّة نحّت تجاربَ مهمةً لسكان المدن من الطبقة الوسطى جانبًا، على اعتبار أن القرية هي الأكثر جدارة في صوغ سؤال الفقد المادي للأرض باعتبارها رمز الحنين إلى المفقود والعودة المجازية لها بعدما استعصى الواقع على ذلك، وذلك على الرغم من أن المدينة الفلسطينية، التي قطعت النكبة حداثتها المحتملة، كانت مركزًا للأنتلجنسيا العربية التي سُرقت مكتباتها وأرشيفاتها الخاصة، وعلى الرغم كذلك من وجود ملفات خاصة بالمدن جمعها المخبرون داخل الأرشيفات الصهيونية.

سرعان ما التقط نصار هذه المفكرة، ووضعها في سياق أرشفة مضادة تنازع البقاء، وبوحٍ علني يحكي قصة عائلة لم تغادر منزلها طيلة عام كامل إلا للضرورة القصوى. كان الخوف من اللاعودة مقنعَا لدى العائلة في زمنٍ انتظم فيه اللامنطق. اللامنطق هنا مثّلته بوابة مندلبوم، الواقعة في المنطقة الحرام في حي الشيخ جراح، وكانت تفصل بين شطري المدينة، فكان عبور أو طرد الفلسطيني عبرها يعني نقطة اللاعودة إلى منازلهم، وتأبيد بقائهم في الجزء الآخر من المدينة المحتلة، إلا في حالة إصدار التصاريح للتنقل. ذلك يحيلنا إلى نقطة مهمة، وهي أن هذه المذكرات كان سيبدو إيقاعها رتيبًا وعديم القيمة، لو دوّنت في زمانٍ ومكانٍ آخرين. غير أنها «كُتبت في زمن منسي، وفي هامش غير مألوف، وهو ما يعطيها قوة الصوت الآتي من المجهول بعد أن غمرته الأيام، وتناساه الخطاب الرسمي والنص التاريخي»؛ في زمن شكّلت فيه اللحظة الطارئة قاعدةً، فأخذ السلطي يكتب حزنه الشفيف واغترابه، ويبكي حاله على وجوده العتبي، بعيدًا عن التطرّق لقرار سياسي هام ومن دون ادّعاء امتلاكه حسًا قوميًا في الكتابة.

كانت هذه الدراسة من أكثر الدراسات التي تفاعلت معها، وشعرت أنها قريبة من جلد الإنسان إلى أبعد حد، ولا تسائل مناطقَ عاليةً في النقاش، بل تُرخي آذانها إلى مفكّرة كتُبت قبل سبعين عامًا، تقريبًا، وكادت أن تتلاشى في زحمة التأريخ الذي لم يكن يومًا عملية موضوعية، بل هو عملية ذاتية. يعيد الكتاب، في هذه الدراسة وغيرها، التذكير بأنّ المؤرخين لا ينفصلون أبدًا عن غاياتهم، على الرغم من ادعائهم بالتزامهم الشخصي بسيرورة المعرفة، إلا أنهم يخضعون في النهاية لالتزامهم الاجتماعي أو بمعنى أدق المؤسساتي، وواجب الباحث، بالتالي، أن يُخضِع هذه الأرشيفات للمساءلة التاريخية ويعمل على الوثيقة من داخلها ويطورها. كما تكسر هذه الدراسة الميل إلى رؤية التاريخ كعملية تطوّر تصاعدي يتجه دومًا نحو التهذيب الحضاري والمسحة الأكثر إنسانيةً، إذ إن مسرد السلطي يشير إلى عكس ذلك تمامًا، فالأحدث هو ما يقول عنه صلاح عبد الصبور: «رعبٌ أكبر من هذا سوف يجيء».

على التخوم بين الخاص والعام

وفي دراسة لسليم تماري بعنوان «ناقة الله في سيبريا»، يكشف لنا المؤلّف عن أزمة الهوية التي كان يعيشها عارف شحادة أو المعروف بـ«عارف العارف»– أشهر من وثق يوميات النكبة ومعاركها- قبل أن يحسم موقعه من عدّة هويات تشكّلت آنذاك، وكانت بمثابة خيارات أيديولوجية وسياسية. قَارَبَ تماري ذاك التحوّل الهوياتي، مستيعنًا بأوراق عدد من الضباط والجنود، فضلًا عن أوراق مختلفة لعارف العارف. لا تعتبر هذه المداخلة مهمة لاعتبارات المنهج البحثي فحسب، بل لاعتبارات سياسية شكلت وعيًا بفصل القضايا عن بعضها، والمفاضلة بين الحكمين العثماني والإنجليزي؛ بمعنى تحوّل الثقافة العربية إلى جزءٍ من أيديولوجية عارف القومية، بعدما كانت مجرّد نبتةً في تكوينه النفسي، وذلك لم يكن ليكون ممكنًا لولا تغيّر في الخارطة السياسية من حوله. يخلص تماري إلى أن انقطاع العارف الجذري عن تيار العثمانية والإخلاص لفكرتها الوطنية سبّبه اعتقاله في جبهة القفقاس ونفيه إلى أصقاع سيبريا. هناك، بدأت الهويتان العربية والتركية تتصارعان، بعد الفصل الإثني بين المعتقلين، ولم يكن الوعي بالهوية العربية سوى انفعال بالهوية الأخرى التي ميّزها أصحابها بإصدارهم صحيفة خاصة بهم من داخل المعتقل، لتأتي صحيفة «ناقة الله» التي حرّرها العارف كإعلان جهري بهوية قومية بدأ المعتقلون العرب باستدراكها، ليشكّل- لاحقًا- الهروب من المعتقل السيبيري في زمن الثورة البلشفية تأسيسًا للتيار العروبي الانفصالي خارج جبهة القتال وحدود الدولة، غير أنّ هذه النزعة القومية «هُذبت» وطأتها بفعل التحالف السوري مع الإنجليز ضد فرنسا، ما سبب عزلًا للسياقات النضالية عن بعضها في الجغرافيا المختلفة. وبعد أن حرّض العارف على الإنجليز، ودعا للتظاهر ضد وعد بلفور، وأُصدر إعدام بحقه بجانب أمين الحسيني، الذي سرعان ما ألغي، أذعن لمبدأ الفصل وتبوأ مناصب عالية في الحكومة الانتدابية؛ منها قائمقام غزة وبئر السبع وحيفا.

أمّا الباب الثالث بعنوان «دراسات تستند للأوراق العائلية وأرشيفات أخرى»، فيعالج، مثلًا، مسألة قوة الشرطة الفلسطينية في عهد الانتداب التي تشكّلت عام 1920، تزامنًا مع إنشاء الإدارة المدنية في فلسطين الانتدابية، ليأخذنا عادل يحيى في دراسته عنها إلى عالم متوتّر بين الحاجة المادية والوجدان الوطني على تخوم المشاركة في تلك القوّة الشرطية التي بلغ عدد أفرادها العرب في العام 1928 1764 شخصًا. فبعد لقاءات شخصية أجراها الباحث مع عدد من أفراد الشرطة السابقين، لم يدّعِ أحدهم بأن عمله الشرطي كان منضويًا تحت المظلة الوطنية، بل كان مجرّد خلاص ذاتي ماديّ، ليس إلا. لكن ذلك لا ينكر أن ثمة فكرة رومانسية إزاء الانتداب عبثت بكثيرين آنذاك؛ ونتجت عنها مسطرة مواقف نظمها العداء من الحركة الصهيونية على حساب الانتداب، فيقول خميس عرار، وهو مجنّد سابق في البوليس الفلسطيني، عن خداع الإنجليز لهم: «كان الضباط البريطانيون الذين دربونا، يقولون لنا: «نحن نريد أن نعد جيشًا فلسطينيًا لأن الانتداب سينتهي يومًا ما، ولذلك يجب أن نقوم بإعداد الناس وتزويدهم بجيش، وقوى أمن، وشرطة، ومدارس، وكل شيء». وبعد أن حُلّت قوة الشرطة الفلسطينية، عاد كثيرون إلى أعمالهم السابقة كمزارعين أو باعة، في الوقت الذي انقسمت فيه آراء الحركة الوطنية حيال أولئك؛ فمنهم من دعا إلى عدم تخوينهم واستيعابهم في الحركة الوطنية، ومنهم من أشهر سكينه بوجههم ودعا إلى تصفيتهم؛ وهو ما تمّ فعلًا في بعض الحالات.

فيما يتوجّه أحمد مروات، في الباب الرابع «دراسات تستند للأرشيفات» إلى استعادة كريمة عبود بوصفها أول مصوّرة فوتوغراف في فلسطين، بيد أن هذه الاستعادة لم تكن مُرتبةً أصلًا، إذ وقع مروات يومًا ما على إعلان خطّه أحد الهاوين الإسرائيليين بجمع المقتنيات القديمة في القدس، يقول فيه إنه يبحث عن أي معلومات حول مصورة فوتوغراف كانت تعمل في الناصرة وعن عائلتها، ليتواصل مروات معه ويلتقيه ليجده حاملًا ثلاثة ألبومات لعبود بواقع 400 صورة، ومذيّلة بـ«كريمة عبود- مصورة شمس»، ليبدأ مروات صراعه مع أسئلةٍ متواترةٍ: كيف وصلت هذه الألبومات لهذا الشخص؟ ومن هي كريمة عبود؟ وهل ثمّة إرث آخر لها لا يزال مجهولًا؟ استلهم مروات من هذه الأسئلة مسار بحثه، ليتوصل إلى أن عبود لبنانية الجذور وفلسطينية المولد، عاشت عائلتها الكبيرة في الناصرة، فيما شبّت هي في بيت لحم وافتتحت معملًا خاصًا بها هناك.