• 12 أيلول 2019
  • مقابلة خاصة

 

بقلم : تحسين يقين

 

كنا نطمئن للاسم، نربطه أطفالاً بالصحابي عامر بن الجراح، لكن ثمة آخرين جراحين أطباء على الحقيقة؛ فقد سُمي الحي نسبة إلى الطبيب الشّخصيّ للقائد صلاح الدّين الأيوبيّ، قبل 9 قرون، وهو الشّيخ حسام الدّين بن الشرافي، الذي لُقب بـ"الجرّاح". وهو حيّ يكثر فيه الخواجات خصوصاً في القسم العلويّ، حيث الذي يحوي الفنادق والمطاعم والمقاهي ومكاتب القنصليات ومؤسسات المجتمع الدّولي. كما يحوي مستشفى سان جورج الشهير للعيون. كنا نهتم بجنوب الحي نزولاً إلى البلدة القديمة من خلال باب الساهرة، مروراً بشارع المحافظة وشارع صلاح الدين فالفنادق الصغيرة التي كنا نراها كبيرة.
ظل الحي منذ أربعة عقود وأكثر، كما هو لم يتغير، سوى من مظاهر التهويد، وازدياد الأعلام الإسرائيلية، والمتدينين اليهود بملابسهم المميزة، وانتشار رجال ونساء شرطة الاحتلال؛ فحيّ الشيخ جراح والقدس بشكل عام تذكرنا بطفولتنا، فكل المدن تكبر استجابة لتكاثر البشر، ما عدا القدس، التي حرّم عليها التوسع.
تاريخ الحي، كما تاريخ القدس وفلسطين أكبر من جغرافيتها، كما اعتاد الشاعر محمود درويش أن يصف بلاده؛ فهنا في هذا الحي الصغير، الكثير من التاريخ، الذي مرّ تاركاً أثره.
يبدو أن للمكان تاريخا قديماً، فليس بعيداً قبور السلاطين، التي تنظم فيها مؤسسة يبوس مهرجاناً سنوياً للغناء والموسيقى؛ وبالطبع لم تهتم مصلحة الآثار الصهيونية إلا بمغارة صغيرة إيماناً منها بالارتباط بالعهد القديم، حيث تنفي تلك المصلحة وتتجاهل أي آثار أخرى.
قبل 9 قرون، كان على ما يبدو المكان معسكراً للجنود، وفيه لربما مارس الطبيب حسام الدّين مهنته كمداو للجنود والأهالي الوافدين من القدس. وعلى ذلك فقد تم بناء مسجد سمي على اسمه، وما بينه وبين مسجد سعد وسعيد أول الحيّ مسافة صغيرة، نصلي الظهر هنا والعصر هناك، متأملين مظاهر المعمار المملوكي والعثماني، وما تمت إضافته من تفاصيل عبر القرن الأخير. إنه مسجد صغير، يتميز ببرودته صيفا، بني ليلبي حاجة السكان بعددهم القليل، حيث تم تأسيس الحي حديثاً عام 1865 وأصبح مقراً سكنياً لبعض العائلات المقدسية البرجوازية الثرية البارزة، مثل النشاشيبي، وجار الله، ونسيبة.
ونحن أيضاً، لنا تاريخ شخصي للاهتمام بتاريخ الحي حسب مراحلنا العمرية، ونكبر وتكبر اهتماماتنا ولا نجد أنفسنا قد انتهينا من حيّ واحد هنا.
أختار شرفة قصر إسعاف النشاشيبي الذي تم تحويله لمركز ثقافي، لأتأمل المشهد، حولي القنصليات، والفنادق، إلى الشرق نرى الجامعة العبرية تعلو جبال الطور، جبل الزيتون، إلى الغرب تظهر القدس المحتلة عام 1948، والتي أصبحت بعد هذه العقود لها ميزات عمرانية مختلفة، أقرب للحداثة، كونها أبنية كولينالية من العصر البريطاني.
أدهشنا واصف جوهرية في مذكراته بوصفه الدقيق لنمو الأحياء خارج السور، إنه يحفظها حياً حياً وبيتاً بيتاً، وهو يأتي على سنة الجراد التي رعت الحدائق والبساتين هنا عام 1914، حين حجب الجراد عين الشمس، وكيف استطاع أحد الأثرياء من المحافظة على حديقته حين وضع أجراساً طردت الجراد، ترى أين تلك الحديقة؟ أين ذلك الزمان الجميل؟
يدخل الإنجليز القدس بالقوة، فيفرضون الحكم العسكري لبضع سنوات، ليتحول شكلياً إلى انتداب على فلسطين، وبرغم المخططات السيئة، تستطيع القدس البقاء، فتتمدد قليلاً هنا، فيتم بناء الفلل والقصور، ومنها قصر الأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي الملقب بأديب العربية، وهو الذي تم اختياره عربيا ليلقي كلمة الأدباء العرب في منح لقب أمير الشعراء أحمد شوقي.
عراقة القدس وحداثتها التي بدأت في القرن الثامن عشر كحاضرة عربية تجذب الزوار، حمت المدينة من التهميش، من خلال جهود الشخصيات المقدسية الوطنية مثل موسى كاظم الحسيني والحاج أمين الحسيني وعبد القادر الحسيني. ظلت حياة النخبة تسير كأن شيئاً لا يحدث، حيث واصل المقدسيون إبداعاتهم.

فن وأدب
تأمُّل تاريخ المدينة المعاصر يخلصها من صورتها النمطية كمدينة دينية، حيث ظهرت هنا الإذاعة الفلسطينية في مرحلة مبكرة من الثلاثينيات، فالمدينة صارت محطة مهمة لأهل الطرب خصوصاً في مصر، مثل نجيب الريحاني وزكي مراد وابنته ليلى مراد، وأم كلثوم وعبد الوهاب.
هنا على هذه الشرفة استقبل أديب العربية الأدباء والفنانين العرب والعربيات، وإنه لو كان بإمكان الجدران أن تروي لروت عن أجمل الليالي الثقافية.
من التنوير الثقافي للاجتماعي، ظهر ميل النخبة للاتجاه نحو المساواة ومنح المرأة حقوقها، فهذا واصف جوهرية من مطربي القدس يغني أمام إحدى الشخصيات الثقافية الوافدة لزيارة القدس في بداية الأربعينات الا وهو د. منصور فهمي أغنية بداياتها:
أشقيقتي هبي لننصر قومنا    سنعيد مجد العرب إن سرنا معاً

أيام المملكة
بعد نكبة العام 1948 وحتى نكسة حزيران العام 1967، تشكلت المملكة الأردنية الهاشمية من خلال وحدة ضفتي نهر الأردن، فشهدت القدس الشرقية حالة من التوسع في العمران خارج سور المدينة، حيث تأسست القدس الجديدة خارج نطاق القدس العثمانية والانتدابية؛ والتي شكلت هوية اجتماعية واقتصادية، فقد ظهرت مجموعة من الضواحي السكنية التي انتشرت حول المدينة، خصوصاً من جهة الشمال، حيث الشارع الرئيس الذي يربط القدس برام الله. هناك، كبر حي الشيخ جراح وظهر حي التلة الفرنسية القريب من قرية شعفاط التي تحولت بدورها إلى ضاحية من ضواحي القدس.  وعلى جانبي الشارع الذاهب إلى رام الله، ظهر حي  بيت حنينا الجديدة، الذي كان يعتبر قبلة الفئة الأرستقراطية من المقدسيين وموظفي الطبقة الوسطى والتجار. في هذه الفترة، ازدهرت السياحة العربية والأجنبية بشكل خاص في الفنادق القريبة، بالاستفادة من فترة الهدوء التي دامت قرابة العقدين.
هنا، على مقربة من الحي ولدت في حي واد الجوز اللصيق بالشيخ جراح، في مستشفى الهلال الأحمر، بعد حرب حزيران عام 1967، احتلت إسرائيل ما تبقى، واستفردت بالقدس، وراحت تحكم قبضتها. ومن سنوات السبعينيات ونحن نشهد الأطماع الإسرائيلية بهذا الحيّ، وصولاً إلى ما آلت إليه الأوضاع، منذرةً بمزيد من التهويد، من أجل ليس محاصرة القدس الشرقية، بل وتهويدها أيضا، حيث يصغر الغلاف شيئاً فشيئاً، بدءاً بالجدار في قلنديا، والمستوطنات الدائرية، كالنبي يعقوب وبسجات زئيف ورموت وجفعات زئيف وهدشون وغيرها.
مفارقة كبيرة وعنصرية، ففي الوقت الذي تحاول الجمعيات الاستيطانيّة "استعادة ملكية" العقارات التي كانت تسكنها عائلات يهودية قبل النكبة عام 1948 فإنها تحرم سكان الحي من اللاجئين من العودة إلى ديارهم في يافا وحيفا. ولعل حكايات عائلة الكرد الشهيرة قد وصلت إلى أسماع وأبصار العالم كله. لقد زاد عدد المنازل المسيطر عليها من قبل المستوطنين الى12 بيتاً. وهي معرضة للزيادة.
مفارقة أخرى في المكان، وهي مفارقة طبقية، حيث يعتبر الجزء العلوي من الشّيخ جرّاح من أكثر المناطق ازدهاراً في القدس المحتلة، مثل القنصليات والفنادق، وكلية هند الحسيني، وكلية الفنون التابعة لجامعة القدس، ومركز الآثار الإسلامية، وقصر النشاشيبي المزخرف بقطع الفسيفساء الزرقاء الذي نتأمل من خلال شرفته التاريخ والجغرافيا، فيما يعاني الجزء السفلي الذي يؤوي اللاجئين منذ الخمسينات، من نقص في البنى التحتية فالشوارع بدون أرصفة، والبيوت في حالة مزرية. وهو يعيش في حالة مواجهة مع سلطات الاحتلال وجمعيات الاستيطان، إذ يعيش "الشيخ جراحيون" فيه تحت خطر الترحيل الوشيك، وتحت ظروف اقتصادية صعبة، ويتعرضون لاعتداءات متكررة من قبل المستوطنين المحميين من شرطة الاحتلال.
طبيعة السكان الفقراء، في الحي والقدس بشكل عام التي تعرضت لترييف مقصود، جعلت الحاضرة العربية الثقافية تتراجع، بعد أن كانت مركز تنوير. ولم يأت ذلك من فراغ، حيث خطط الاحتلال لهذه الحالة من النكوص الثقافي لصالح القدس الغربية المحتلة عام 1948.
لقد تم تهميش الطبقة الوسطى، وتم إضعاف تأثيرها السياسي والثقافي، لأسباب، منها انسداد أفق تسوية الصراع، وتحول المواطنين إلى بروليتاريا في الورش الإسرائيلية، فتراجعت الثقافة الديموقراطية بتجلياتها العقلانية والتنويرية التي سادت في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات بشكل أقل، حيث مهد الاحتلال لجماعات الإسلام السياسي لكسب تعاطف فئات واسعة من الناس، فملأت الفراغ الناشئ عن تدهور مكانة القوى الثقافية القومية واليسارية.

محاولات لرأب الصدع!
في منتصف الثمانينات بدأت عملية نهوض ثقافي جديدة بتأسيس المسرح الوطني، في مكان سينما النزهة، وهي رغم تأخرها إلا أنها استولدت على ضفافها تأسيس مسارح أخرى، ومراكز ثقافية، قد نفصل الحديث عنها لاحقاً، شكلت بوابة ثقافية من هذا المكان، تذكر بزمن إسعاف النشاشيبي وابراهيم طوقان وسامح الخالدي، والسكاكيني، وغيرهم كثير. لكن ذلك لم يستمر حيث هاجرت جزء من المؤسسات الثقافية إلى رام الله، تاركة المدينة لمصيرها، ليتم تعميق ثقافة الريف والمحافظة، والتي تجعل مناهضة الاحتلال ليس ضمن أولوياتها، في ظل تعلقها بالعمل الأممي؛ وبذلك تراجع العمل الوطني والقومي، وتراجعت الثقافة والنمو الاجتماعي، فعادت معها المرأة أيضا إلى الدور التقليدي.
أهبط درجات المبنى الجميل، وفي رأسي أصوات موسيقى، أتذكر ما حمله واصف جوهرية أحد صعاليك القدس، من حنين معه، حيث ظل متذكراً لأيامه هناك في الفردوس المفقود .. متذكراً ما غناه من شعر احمد سامح الخالدي، التي غناها في الأيام الحلوة في الوطن:
واذا مررت بروضهم     فاقرأه من مضنى سلاما
وانقل إلى ظبي هناك    لواعجا أضحت ضراما
وأحمل إلي عبيره         من بين أوراق الخزامى
وابعث إلي برشفة         من ثغره تطفي الأواما
وامنن إلي بنفخة        من روحه تحيي العظاما
حلو الحديث وكم سقانا    من لواحظه مُداما
ملك القلوب وما درى    أني أذوب به غراما
أتحسس الجدران، أمسح دمعة، القي السلام على إسعاف وأمضي..تاركا الحي والقدس لمبادرة تعيد الأمل وتقرر المصير.

صحيفة الأيام الفلسطينية