• 28 كانون أول 2019
  • مقابلة خاصة

 

 إسطنبول – أخبار البلد -  تحي تركيا هذه الأيام  ذكرى وفاة شاعر تركيا الأول "محمد عاكف آرصوي "  والذي يعد من اهم الشعراء الأتراك الذين أرسوا دعائم الشعر التركي والثقافة التركية الحديثة في بلاد الأناضول والعالم الإسلامي ، فهو الملقب بشاعر الإسلام وشاعر الأمل، وصاحب أعظم قصيدة إنسانية في الأدب التركي ، وهي قصيدة (نشيد الاستقلال) ، والمساهم في بناء الشخصية التركية من خلال نصوصه الشعرية ومقالاته وترجماته المتعددة، مما جعله شاعر تركيا الأول، وباعث نهضتها في القرن العشرين، وتتميز قصائده بالحس الإنساني الصادق الذي يعبر عن الضمير الحي للأمة الإسلامية في كل مكان، وتومئ نصوصه إلي ذلك الوعي القومي الخالص، من خلال أفكاره وقضاياه التي تبناها وضحي لأجلها، واغترب وذاق مرارة ضيق العيش، مما جعله فيما بعد مثقفا مهما وشاعرا مناضلا من أجل خلود كلماته عبر الأزمان والأماكن، مخترقة صدور محبيه ومحبي الإنسانية، 

من هو محمد عاكف؟ 
ولد الشاعر محمد عاكف أرصوي في اسطنبول سنة 1873 وتعلم العربية على يد والده وهو طفل صغير، وأكمل الابتدائية والمتوسطة فيها، ولكنه اضطر إلى اختصار فترة دراسته بعد وفاة والده، فدخل مدرسة البيطرة وأكملها عام 1893 ليعمل مفتشاً في وزارة الزراعة. وبحكم هذه الوظيفة تجول في مناطق مختلفة من الأناضول وسوريا وتعرّف على أوضاع الأهالي ومعاناتهم. ثم عمل مدرساً في اسطنبول (1906-1907).

 وبعد إعلان الحكم الدستوري (1908م) ساهم في إصدار مجلة الصراط المستقيم التي لعبت دوراً كبيراً في الحياة العلمية والفكرية في ذلك العهد، ونشر فيها معظم أعماله التي كان يكتبها تباعا. وفي نفس السنة عيّن مدرساً للأدب في دار الفنون (جامعة اسطنبول)، وبلغت كفاءته في اللغة العربية إلى درجة بحيث أُسند إليه تدريس الأدب العربي وأصول الترجمة بين العربية والتركية. ويبدو أن شهرته في التدريس قد انتشرت فتهافتت عليه الطلبات من معاهد مختلفة للتدريس فيها. 

 

تولى بعض الوظائف المدنية في القسم البيطري بوزارة الزراعة العثمانية، ثم في البلقان وشبه الجزيرة العربية بين أعوام 94 – 1898م. أخرج مع صديقه أشرف أديب مجلات أدبية وسياسية، مثل “صراط مستقيم” و”سبيل الرشاد” باللغة التركية العثمانية. عمل مدرساً في المدرسة الزراعية العالية بهالقالي، وكلية الآداب بإسطنبول، وفي عام 1915م ذهب لألمانيا في عمل تفتيشي. أيضاً زار عدداً من البلاد العربية. انتخب عضوًا بالبرلمان العثماني عن محافظة بوردور التركية بين أعوام 20 – 1923م. كتب قصيدة نشيد الاستقلال في عام 1921م وقت وقوع محاولات الغزو الأوروبي لتركيا في أعقاب الحرب العالمية الأولى، دعاه الخديوي عباس حلمي لمصر في نهاية عام 1923م بعد وقوع انقلاب أتاتورك ضد الدولة العثمانية وإعلانه الجمهورية. 

في مصر عمل مدرساً للأدب التركي بين أعوام 23 – 1936م في جامعة فؤاد (جامعة القاهرة الآن). التقى في مصر مع الكثير من رجال الثقافة والأدب والسياسة، وكانت له علاقة طيبة مع الأمير عزيز حسن وعائلته، وفي القاهرة أقام في ضاحية “المرج” الواقعة في الشمال. عاد لتركيا للعلاج من مرض الاستسقاء ثم توفي في 27 ديسمبر عام 1936م في إستانبول. 

حياته وكفاحه: 
نشأ محمد عاكف في بيئة إسلامية تكّن احتراماً كبيراً للمشاعر الإسلامية والوطنية وتبذل الغالي والنفيس من أجل الوطن، ويعرف محمد عاكف بانه لم يكن رجل سياسة وإيديولوجيا، بل كان ميالاً إلى نظام دستوري غير استبدادي يستند إلى حرية وتضامن ينسجمان مع التقاليد الإسلامية، ولهذا كان يعترض على النظام العرفي للسلطان عبد الحميد الثاني، ولكن لم تكن له أية صلة بالنشاطات السرية التي شاعت بين المثقفين ضد حكم هذا السلطان. 

كان الشاعر محمد عاكف يرى أن الشرق هو المصدر الحقيقي للمدنية والحضارة، وأن عوامل مثل الجهل والتعصب الديني وعدم الثبات والاتزان واللامبالاة وعدم الثقة في النفس، هي الأسباب الأساسية لحالة تأخر الشرق الإسلامي. وقف عاكف بكل قوة عَبْرَ كلمات شعره يلهب حماس الأتراك للدفاع عن الدولة العثمانية، حين تعرضت لمحاولات الاحتلال على يد الإنجليز والفرنسيين واليونانيين بعد الحرب العالمية الأولى (14 – 1919م). 

 

يقول المؤرخ الأدبي التركي “سيد كمال قرا علي أوغلو” – في  كتاب:Turk Edebiyat Tarihi  – إن محمد عاكف صُدم من التخلي عن الدولة العثمانية وفكرة الوحدة الإسلامية، بينما كان هو يدعو لها في كتاباته وأشعاره، وذهب لمصر والجزيرة العربية من أجل بحث الوحدة الإسلامية. 

كما أن إعلان الجمهورية العلمانية في تركيا (1923م) كان بمثابة الضربة المعنوية الرئيسية لعاكف ولمشاعره الإسلامية. وفي نفس المصدر المذكور آنفاً، يقول المؤلف بأن الشاعر الكبير كان يرى أن واحداً من أسباب تخلف العالم الإسلامي كَوْن الأدب يخاطب الطبقة المثقفة فقط ولا يخاطب الجماهير. 

رفض عاكف العلمانية اللادينية بكل شدة، كما رفض تقليد الغرب في الملابس ولم يتخل عن الطربوش – أصدر آتاتورك قراراً بإعدام كل من يرتدي الطربوش – فكان عليه إمّا الاصطدام مع العسكر والتعرض لعقوبة الإعدام مثل غيره، أو الهجرة الاختيارية، فكان قرار الهجرة على إثر تَلَقِّيْه دعوة من خديوي مصر عباس حلمي الثاني. 

رأى الشاعر الإسلامي التركي محمد عاكف أرصوي، تمزق الدولة العثمانية على يد الإمبريالية الغربية وشهد احتلال إسطنبول فما كان منه إلا أن اعتلى منابر المساجد يدعو الشعب التركي إلى مقاومة الاحتلال الفرنسي والبريطاني والإيطالي واليوناني، وتواصلت كتاباته التي تخص شعبه على الكفاح ضد قوات الاحتلال في مجلة “سبيل الرشاد” كان محمد عاكف أرصوي الشاعر والعضو والمؤسس في البرلمان الوطني التركي مثقفًا وطنيًا يناضل ضد الرجعية والتعصب والتخلف والخرافات، ويعطي الأولوية للمعرفة والتكنولوجيا وفي عام 1921 كتب الشاعر محمد عاكف أرصوي النشيد الوطني التركي، الذي اعتمده البرلمان التركي نشيدًا وطنيًا لتركيا بعد عزفه ثلاث مرات أمام أعضائه.

وخلال حرب البلقان (1912- 1913) التي خاضتها الدولة العثمانية انتسب إلى الجناح الثقافي لجمعية الدفاع الوطني، وهذه الجمعية لعبت دورا كبيراً في النضال الوطني، وأخذ محمد عاكف على عاتقه توعية الأهالي وتنويرهم إلى جانب بعض كبار الأدباء. واستغل قلمه في مجلة الصراط المستقيم التي تغيّر اسمها إلى سبيل الرشاد فنشر مقالات وأشعارا أدبية مختلفة في توعية الناس وسعى إلى زرع الأمل في نفوسهم محذراً إياهم من الوقوع في اليأس جراء الأزمات التي عاشتها الدولة. 
كلّف محمد عاكف، في سنة 1920 بشكل رسمي بكتابة نشيد وطني للجمهورية التركية الفتية وذلك بعد فشل 700 متسابق شاركوا في كتابة النشيد إثر إعلان وزارة المعارف، ولم يفز أي عمل من أعمالهم. وفي 12 مارس 1921 أُقرت قصيدته من قبل البرلمان نشيداً للجمهورية، وسمي “نشيد الاستقلال”. وفي 4 مايو 2007 اتخذ مجلس الأمة التركي قراراً يقضي باعتبار يوم 12 مارس من كل سنة يوماً وطنياً للاحتفال بشكل رسمي بذكرى قبول النشيد الوطني التركي والاحتفاء بشاعره. فأصبحت اعمال محمد عاكف، معروفة لكل المثقفين، وبخاصة طروحاته الإسلامية، وغدا هو على كل لسان بل أصبح في مقدمة من يمثل الشخصية الوطنية الإسلامية في تركيا. كما أصبحت كلمات محمد عاكف على كل لسان لسلاسته ومداعبته مشاعر الجماهير العريضة بلغة بسيطة وشفافة وواقعية، ومما جاء فيه: 


لا تحسبنّ الأرض التي تطؤها ترابا واعرفها 
فكّر بالآلاف الذين يرقدون تحتها بلا كفن 
أنت ابن شهيد، حذار من أن تؤذي أباك 
لا تتخل عن هذا الوطن الجنة وإن امتلكت العوالم 
كلّف ارصوي عام 1920 بشكل رسمي بكتابة نشيد وطني للجمهورية التركية الفتية ، وذلك بعد فشل  700 متسابق شاركوا في كتابته.
زار محمد عاكف مصر تلبية لدعوة تلقاها من الأمير المصري عباس حليم باشا الذي كان على علاقة وطيدة معهن وذلك في عام 1914. وفي السنة التالية زار مصر مرة ثانية ثم توجه إلى المدينة المنورة، وكتب انطباعاته عن هذه الزيارة في قصيدة تحمل اسم “من صحراء نجد إلى المدينة المنورة”، وتعد هذه القصيدة من روائع الأدب التركي. وفي أواخر السنة نفسها أوفد بمهمة رسمية خاصة إلى برلين حيث مكث ثلاثة أشهر، وتعرّف على الحياة الغربية عن كثب، وتفقد أحوال الأسرى المسلمين من التبعة إلى إنجليزية والروسية المعتقلين في المعسكرات الألمانية. ثم تكالبت على الدولة العثمانية المشاكل تلو المشاكل إلى أن خرجت مهزومة من الحرب العالمية الأولى. ودخلت قوات الحلفاء اسطنبول، فبدأت معركة الاستقلال بقيادة مصطفى كمال، وعمل محمد عاكف كل ما في وسعه من أجل تحرير بلاده. ويبدو أنه أصبح من الشخصيات الوطنية المهمة في الجمهورية الفتية فتم ترشيحه عضواً في البرلمان فدخل في أول مجلس للنواب في تركيا. 

وأصبح اسم محمد عاكف على كل لسان، وغدا زعيماً روحيا ومعنوياً في النضال الوطني، وفي مايو 1923 عاد إلى اسطنبول بعد فض المجلس، ولم يُدع من الحزب الحاكم لخوض الانتخاب مرة ثانية. وفي أواخر سنة 1924 زار مصر للمرة الثانية استجابة لدعوة عباس حليم باشا وعاد إلى اسطنبول في ربيع 1925م. ولكن لم يمض على عودته إلا بضعة أشهر حتى حزم حقائبه وعاد إلى مصر من جديد، دون أن يفكر بالعودة إلى وطنه مرة أخرى. فماذا حدث له ليترك أعز ما يمتلك: الوطن، الأهل والأصدقاء؟ 

ربط معارضوه ارتحاله بمعارضته للقبعة التي فرضت الحكومة التركية ارتداءها، ويربط محبوه بان السبب هو فيما ما وصل إليه الحال في وطنه، الذي لطالما حزّ في نفسه والمها، فعند عودته من مصر فوجئ بأن الحكومة وضعت كل من يخالفها سياسيا وفكريا ودينيا في قائمة الإرهاب، وأغلقت الحزب المعارض، واعتقلت الصحافيين وساقتهم إلى محكمة الاستقلال التي أعطتها مطلق الصلاحية في إصدار الأحكام وتنفيذها بما فيها حكم الإعدام، كما أغلقت صحيفة سبيل الرشاد التي كان محمد عاكف رئيساً لتحريرها. وفي هذا الوقت أصدر مصطفى كمال رئيس الجمهورية قراراً ينظم الزي فرض بموجبه ارتداء القبعة على جميع موظفي الدولة، واعتبر كل معارض لها معارضاً للثورة، فقُدّم الكثير من رافضي القبعة إلى المحاكم وشنق الكثير منهم. 
وافته المنية في إسطنبول عام 1936 ، وشارك في تشييع جنازته حشد هائل من محبيه ، دون أن يكون بينهم أحد يمثل الحكومة التركية


لم يبق أمام محمد عاكف إلا ترك وطنه والتوجه إلى مصر لتكون منفاه الاختياري..  توطدت علاقته في مصر بالأديب المصري عبدالوهاب عزام الذي هيأ له تدريس اللغة التركية في جامعة القاهرة، وعن طريق عزّام تعرّف على مثقفي مصر، كما لم يتخل عنه الأمير عباس حليم باشا، إلا أنه عاش وضعاً نفسياً صعباً وبخاصة بعد أن أصبحت زوجته عصبية المزاج، كما عانى من أزمة مادية خانقة ومن الوحدة، إلا أن حسرته للوطن فاقت كل معاناته، وتمنى الموت في ربوع وطنه، وتضرع إلى الله لأجل ذلك كثيراً. وفي السنة الأخيرة من إقامته في مصر مرض فسافر إلى لبنان للاستجمام، غير أن المرض اشتد به، وكأنه كان يعرف أن أجله المحتوم قد اقترب، فعاد إلى اسطنبول وأقام في بيت خصصه له صديقه الوفي عباس حليم باشا، ولم يمتد به العمر طويلا، بل وافته المنية في 27 يناير 1936. وشارك في تشييع جنازته حشد هائل من محبيه دون أن يكون بينهم أحد يمثل الحكومة.