• 10 آذار 2020
  • مقابلة خاصة

 

بقلم:  فواز إبراهيم نزار عطية

 

يترتب على الخطأ القضائي تعويض من السلطة الوطنية يحدد القانون شروطه وكيفياته، بهذه العبارة الواضحة وضوح الشمس استهل المشرع الدستوري الفلسطيني نص الفقرة الثالثة من المادة 30 من القانون الأساسي المعدل لعام 2003.

انطلاقا من النص المذكور، تعمّد المشرع الدستوري بإحاطة قضاة فلسطين بسياج من الضمان، يكفل لهم القيام بأعمالهم القضائية بأقصى قدر من الاطمئنان، بشرط عدم التسرع في إصدار الأحكام وتجنب الوقوع في الخطأ القضائي قدر الإمكان.

وبما أن القضاة كغيرهم من الناس يمارسون أعمالهم في ظروف مختلفة، فمن الطبيعي أن يقع القاضي في الخطأ نتيجة ما يصدر عنه من احكام، قد تؤدي إلى اضرار مادية أو معنوية للمتقاضين تمس حياتهم أو حرياتهم أو اموالهم.

لذلك أرسى المشرع الفلسطيني ضمانات محاطة بجوانب قانونية في إجراءات المحاكمات  سواء أكانت أمام القاضي المدني أو الجزائي أو الاداري، إلا أن تلك الضمانات تبقى قاصرة في كثير من الاحيان لتجنب الوقوع بالخطأ، مما يتم الوقوع في الأخطاء نتيجة إصدار الأحكام، الأمر الذي يلحق اضرارا ببعض المتقاضين اضرارا جسيمة وبعضها اضرارا يسيرة، وعليه نأى المشرع بنفسه في وضع تعريف محدد للخطأ القضائي تاركا تحديده للقضاء والفقه.

إذ باطلاعنا على النص الدستوري الوارد في المادة 30/3 من القانون الاساسي الفلسطيني، فيمكن التوصل لصيغة تعريفية للخطأ القضائي بأنه:" تجنب القيام أو الاتيان بفعل ما كان ينبغي القيام به"، وهذا التجنب يحمل صورتين من الخطأ، الخطأ الايجابي والخطأ السلبي، حيث يقصد بالخطأ الايجابي: اخلال القاضي بالالتزامات والواجبات القانونية من خلال ارتكاب أو اتيان فعل يمنعه القانون، كالحكم بعقوبة غير منصوص عليها في القوانين النافذة، أما الخطأ السلبي فيقصد منه: امتناع أو ترك القاضي عما قرره القانون، كالامتناع عن اصدار الحكم بعد اقفال باب المرافعات.

 مما يستدل من جميع ما ذُكر اعلاه أن الخطأ القضائي هو: كل فعل أو نشاط سواء أكان ايجابيا أو سلبيا يصدر عن القاضي نتيجة الاهمال أو الاستهانة بواجباته المهنية اثناء ممارسته للعمل القضائي.

وبالتالي يثور التساؤل التالي حول سبب ارتباط الخطأ القضائي بمنظومة العدالة؟

مما لا ريب فيه أن الخطأ القضائي مرتبط ارتباطا وثيقا بالسلطة القضائية، التي تدير مرفق العدالة لما تمثله من ضمانات اساسية لحقوق الافراد وحرياتهم بصورة مستقلة عن السلطتين التنفيذية والتشريعية، وتكريسا لمبدأ الفصل المرن بين سلطات الدولة، لذلك الخطأ القضائي يتربع على مفهوم واسع يجعل من آثاره تنال جميع القضايا، بحيث لا يقتصر على نوع معين منها، فسبق وأن أشرنا بأنه قد يمس عدة قضايا، منها القضايا المدنية أو الجنائية أو الإدارية، ولكل مجال آثاره واعتباراته بحيث لا يمكن استعراضها في هذا المقال إلا بالجزء اليسير من خلال سياق هذا المقال.

ومن هنا اختلف الفقه حول تلك الاعتبارات، فمبدأ التعويض بمفهومه الواسع للقضايا التي ترتبط بالخطأ القضائي وبما قد يمس المجالات سالفت الوصف، جعل من بروز افكار ومفاهيم حول مبدأ التعويض على النحو الآتي: 1- فكر تبنى وجهة النظر بعدم ربط التعويض بالخطأ وإنما التعويض قوامه مسؤولية الدولة عن جهاز القضاء، 2- وفكر اعتبر الخطأ القضائي موجبا للتعويض على اساس مسؤولية الدولة عن التعويض استنادا إلى مبدأ المساوة امام التكاليف العامة وعلى أساس المخاطر، 3- أما الفكر الحديث يقوم على اساس ما يشوب الجهاز القضائي كمرفق من مرافق الدولة من اخلالات وما يشوبه من عيوب.

 وما بين تلك الافكار يبقى الاتجاه صوب ملائمة التعويض عن الخطأ القضائي، مع الاتجاه السائد في المواثيق الدولية[1]، التي تؤكد الاخيرة بضرورة انشاء محاكمات عادلة ومستقلة ومحايدة لتقرير حقوق وواجبات الافراد وللفصل في أية تهمة توجه للمتهم وللفصل في القضايا التي تقام ضد الدولة أو مؤسساتها.

فتبنى النظام الفلسطيني فكرة ومبدأ التعويض عن الخطأ القضائي، يقوم على اساس الاقرار بمسؤولية الدولة عن اعمال الجهاز القضائي، وهذا الاقرار نابع عن اعتراف الدولة بحق المواطن في الحصول على التعويض نتيجة أي ضرر قد يلحق به جراء العيوب التي قد تنشأ في مرفق القضاء باعتباره احد مرافق الدولة، واعتقد هنا أن تحمل الدولة لهذا الخطأ بما يترتب عليه من آثار نابع عن تحمل التبعة ما بين التابع والمتبوع، بحيث لا يشكل تكريس مبدأ التعويض المنصوص عليه في المادة 30/3 من القانون الاساسي أي تدخل أو تأثير أو انتهاك لمفهوم استقلال السلطة القضائية، لأن النص المذكور لا يتعارض ومبدأ سيادة القانون المنصوص عليه في المادة 6 من القانون الاساسي المشار إليه، حيث اخضعت جميع سطات الدولة وأجهزتها ومؤسساتها واشخاصها للقانون، كما ولا يتعارض مع المادتين 97 و98 من القانون الاساسي اللتين عززتا من مفهوم استقلال السلطة القضائية واعتبرتا القضاة مستقلون في قضائهم ولا سلطان عليهم لغير القانون.

مما نلاحظ من تلك النصوص الدستورية، التي أوكلت مهمة أمر تطبيق القانون بروحه ومدلولاته للقضاة فقط، ومنحتهم حق الاجتهاد في فهم النصوص القانونية، مع مراعاة خصوصية العمل القضائي الذي يقوم بتطبيق قوانين صادرة عن السلطة التشريعية، تلك النصوص التي قد تكون محل خطأ في التطبيق من الجانب القضائي، الأمر الذي سيشكل حدا فاصلا بين ضمان استقلال القضاء وعدم تعرض سلطان القاضي للتهديد بسيف التعويض عن اعماله التي قد ينجم عنها الخطأ، وبين حق الفرد في أن ينال التعويض العادل عن الخطأ القضائي بمقاضاة الدولة عن عيوب مرفق العدالة الذي يُدار من السلطة القضائية.

وبين حق التعويض والخطأ القضائي، هناك فعل ايجابي أو سلبي قد يصدر عن القاضي وقد يؤدي إلى ضرر لأحد المتقاضين أو كلاهما معا، وبعيدا عن حجم الضرر وفيما إذا كان جسيما أو بسيطا، وفيما إذا كان بقصد أو دون قصد، وبعيدا كذلك عن اجراءات الرقابة الذاتية من خلال دائرة التفتيش القضائي والتي قد تنتهي بالمسائلة التأديبية وما يترتب عليها من اجراءات قد تؤدي إلى العزل إذا كان الخطأ جسيما وعن قصد.

 أرى أن اقرار مبدأ التعويض في دعوى مخاصمة القضاة المنصوص عليها في المادة 160/2  من قانون اصول المحاكمات المدنية والحكم على المدعى عليه "القاضي" بالتعويضات في تلك الدعوى، يعد خروجا وانقلابا على النص الدستوري في المادة 30/3 سالف الذكر، بل يعد تجاوزا لمفهوم استقلال السلطة القضائية المنصوص عليه في القانون الاساسي في المداتين 97 و98.

 حيث أن القوانين الصادرة عن السلطة التشريعية أو القرارات بقوانين الصادرة عن السلطة التنفيذية "القوانين المؤقتة" لم تصدر عن القاضي، وإنما القاضي عليه واجب الفهم والتفسير للنصوص وفق مدلولها وبما لا يخرج عن روح وفلسفة النص، وبما يتناسب وعِلمه ونزاهته واستقامته، وهذه الصفات التي يجب توفرها لدى كل قاض عند التعيين.

 فإن اقرار مبدأ التعويض وإلزام مصدر الحكم به، سينعكس سلبا على عمل وأداء القضاة، وسيكون ذلك النص سيفا مسلطا على رقاب القضاة مانعا من تعزيز مفهوم استقلال السلطة القضائية على النحو المشار إليه اعلاه.

مما يتعين احالة نص المادة 160/2 من الاصول المدنية والتجارية للمحكمة الدستورية للكشف عن عدم دستورية ذلك النص إما بدعوى مستقلة أو من خلال دعوى مخاصمة قائمة.

في نهاية هذا المقال يجب الإشارة لمسألتين مهمتين الأولى: أن حق التعويض يجب أن ينصب على حكم نهائي لا يقبل الطعن، واعتقد جازما أن اكثر المواضع التي قد تُنشأ حق التعويض للافراد من خلال ما يصدر عن المحكمة الادارية من احكام، التي تنعقد على درجة واحدة لأن أحكامها لا تقبل الطعن على درجتين حتى اللحظة.    

والثانية: ما يستدعي الإشارة بصورة متناهية لا تقبل التفسير أو التأويل،أن المشرع الفلسطيني حسنا فعل عندما أقر بحق التعويض للمتهم الذي تم تبرئته بعد قبول دعوى اعادة المحاكمة، بأن يطالب الدولة بالتعويض عن الضرر الناشئ له من الحكم السابق سندا للمادة 387/1 من قانون الإجراءات الجزائية رقم 3 لسنة 2001.

في الختام، أرى أن الترسانة القانونية في فلسطين التي صدرت خلال النصف الثاني من العام 2007، أي بعد الانقسام البغيض بين جناحي الوطن وتعطّل السلطة التشريعية عن أداء مهامها الدستورية، يستدعي من صاحب القرار الذي يملك حق اصدار القرارات بقوانين ليُعدل من نص المادة 160/2 من الأصول المدنية والتجارية آنف الذكر، وأن يجعل مسؤولية الدولة عن تعويض الافراد عن الأضرار الناشئة عن الإداء المعيب لمرفق القضاء بغض النظر عن جسامته، ليكون ذلك منسجما انسجاما مطلقا مع دستورية النصوص الواردة في القانون الاساسي الفلسطيني، بما يعزز من زيادة منسوب استقلال السلطة القضائية.

*قاضي المحكمة العليا الفلسطينية

 

 



[1]  راجع بهذا الصدد على سبيل المثال المادة 3/2 من الاتفاقية الدولية الخاصة بالحقوق المدنية والسياسية، وهو الذي تبنته معظم دساتير دول العالم بما في ذلك القانون الاساسي الفلسطيني المادة 30منه، والمادة 14 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية.