• 28 نيسان 2020
  • مقابلة خاصة

القدس – أخبار البلد – ان انتشر فيروس كورون في العالم منذ نهاية العام الماضي  ، وما رافق ذلك من شلل تام للحياة العامة وادخل البشر الى المنازل رغم عنهم في الحجر الصحي  لفترات لا تقل عن أربعين يوما وقد تزيد بكثير ، كان فرصة حقيقية لكل البشرية جمعاء بإعادة حساباتها الشخصية والعامة منها، وكان ايضا فرصة للكرة الأرضية لان تعيد توازنها الذي اختل بسبب اعمال البشر التخريبية ، وكان فرصة للعلماء والباحثين والخبراء للتفكير والبحث مليا في  المستقبل مع بعد فيروس كورونا ، والذي مهام طال فإنه لا محال زائل ، ولهذا بدأن نسمع أصوات هنا وهناك عن المدينة وبناءها وضرورة إعادة النظر بذلك في المستقبل القريب والبعيد ، ومن هؤلاء الكيس دافيز  المحرر المسؤول في مجلة وايرد والذي نشر مقالته بهذا المعنى وقام موقع "عرب 48 " بترجمته ، ويسعدنا ان نعيد نشر المقالة لأهميتها على امل ان نسمع أصوات المهندسين والمخططين عندنا حول الموضوع الذي يستحق كل اهتمام .

منذ نحو أسبوعين، اصطدمت سيارة فاخرة من طراز "جامبيلا ميراج"، بسلسلة من السيارات المتوقفة على أطراف أحد الشوارع في مانهاتن، أشهر مناطق مدينة نيويورك، بعد أن كان سائقها يقود بتهور. وسرعان ما هرب السائق من المركب ليتم اعتقاله بعد ذلك. ولبضعة لحظات بعد الواقعة، بدت نيويورك وكأنها في حالتها الطبيعية، أي الخالية من الهدوء المهيمن على المدينة منذ أسابيع، منذ أن أُمر السكان بالبقاء في منازلهم، للحد من انتشار فيروس كورونا المستجد. ومع توقف حركة المرور في المدينة، انخفضت حوادث السيارات فيها بأكثر من 50 في المئة مقارنة بالوقت نفسه من العام الماضي، تماما كما انخفضت إصابات السائقين والركاب والمشاة وراكبي الدراجات أيضا. وبات الهواء أنظف، ولم تعد أصوات أبواق السيارات سوى صدى يُسمع من بعيد.

ومع ذلك، فإن المدن التي شهدت تراجعا في حركة المرور، أصبحت تواجه اليوم نوعا جديدا من الازدحام، ليس في شوارعها بل على أرصفتها. فالنيويوركيون مثلا، شأنهم شأن بقية سكان المدن في جميع أنحاء العالم، أصبحوا يحتشدون في المساحات العامة في المدينة، في عملية غالبا ما ينتهكوا من خلالها قوانين التباعد الاجتماعي الجديدة، بسبب حظرهم من الذهاب إلى مكاتبهم كالمعتاد، وزيارة الحانات، والمسارح، والمطاعم، وغيرها من الأماكن. وردا على ذلك، أعلن رئيس البلدية بيل دي بلاسيو، أن الشرطة ستبدأ فرض غرامات بقدر 500 دولار، على مخالفين أمر الحفاظ على "مسافة المترين" عن الآخرين (والتي قد تساهم في منع انتشار المرض)، وتضاعف مبلغ الغرامة مؤخرا. وبرر رئيس البلدية ذلك، خلال حديثه لبرنامج "ذي تودي شوو" بأن "أي شخص لا يحافظ على التباعد الاجتماعي في هذه المرحلة، يعرض الأشخاص الآخرين للخطر".

ويحاول دي بلاسيو وغيره من المسؤولين، فرض قانون التباعد الاجتماعي هذا، عبر حظر دخول الأماكن التي يتجمع فيها الناس، كالحدائق العامة، وملاعب كرة السلة والرياضات الأخرى، والشواطئ، ومسارات المشي وما شابه. وتكمن مشكلة تقليص عرض المساحات المفتوحة المتاحة للجمهور، بأنها لا تقلل من رغبة الناس بزيارتها. فلا يزال الناس يرغبون بالخروج من منازلهم، إما إلى أعمالهم، أو بغرض التسلية والرياضة، أو لمجرد الحفاظ على سلامتهم النفسية. والآن، يتزايد الطلب على ذلك لمجرد السير على القدمين. 

وفي خضم هذا التحوّل في أهواء الناس، يرى بعض المختصين في تخطيط المدن فرصة لإنقاذ سكان الحواضر (المدن الكبرى) ليس من اجتياح الوباء لمدنهم فحسب، بل من ثقافة التمركز حول السيارات التي هيمنت على الحياة الحضرية لعقود. وباتوا يسعون إلى تفضيل حركة الناس، المشاة، وراكبي الدراجات، ومستخدمي الترانزيت، وأمثالهم، على السيارات. وهذا ليس لمجرد انتهاز الفرصة فقط، بل محاولة للاستيلاء على مساحة الشارع ولتقبع المركبات في أماكنها دون حركة. وتستطيع مجموعة من الإجراءات التي لطالما طالب بها مخططو المدن (كتخصيص المساحات لراكبي الدراجات والمشاة ووسائل النقل العامة)، أن تجعل الحياة خارج المنزل، أكثر متعة وعملية في ظل جائحة فيروس "كوفيد 19". واستنادا إلى مقدار "الطبيعية" التي ستعود إليها الحياة بمجرد انتهاء الوباء، فيمكن أن تغير هذه الخطوات المدن إلى الأفضل وعلى مدى طويل.

أحد الخيارات السهلة والواضحة في هذا السياق، هو تعطيل الأزرار التي يستخدمها المشاة لـ"طلب" عبور الشارع. فلطالما انتقد المدافعون عن الطرق الصديقة للمشاة ما يصفونها بـ"أزرار التسول"، والتي تساهم في سيادة السيارات كوسيلة نقل على الشارع، إذا أنه بدون ضغط المشاة على هذه الأزرار فإن إشارة المرور لن تتبدل لتمنحهم ضوءًا أخضرَ لعبور الشارع. 

والآن، يرى مسؤولو الصحة العامة أن هذه الأجهزة ذاتها (وجميع الأسطح خارج المنزل)، هي ناقلات محتملة لفيروس كورونا. وهذا ما دفع العديد من المدن في أستراليا ونيوزيلندا إلى إعادة تنشيط دورات إشارات المرور لتتيح المشي دون الحاجة للضغط على أي زر. وكذلك فعلت مدينة بيركلي في كاليفورنيا. وتقول تابيثا غومز، التي تدرس تخطيط النقل وسياساته في جامعة نورث كارولينا في تشابل هيل، إن "هذا مثال جيد على خطوة سهلة ومستدامة يُمكن للمدن أن تطبقها بسهولة". فمن خلال إيقاف "أزرار التسول"، تقرّ المدن ضمنيًا بأن هذه الأزرار لا تهدف إلى جعل التقاطعات أكثر أمانا للمشاة، بل للحفاظ على حركة السيارات انسيابية قدر الإمكان. وتضيف غومز: "لقد كشفوا السر (عن غير قصد) بأنه بإمكانهم" أن يعطلوا هذه الأزرار.

 أما الخطوة الأكبر، فتكمن بإغلاق الشوارع أمام المركبات، من أجل منح الناس حيّز أكبر للتجول أو ممارسة الرياضة. وقد أغلقت مثلا، كل من بوغوتا في كولومبيا، وكالغاري في كندا؛ ودنفر في كولورادو، وسانت بول في مينيسوتا؛ وكولونيا في ألمانيا، ومدن أخرى، مساحات شاسعة من الطرق في الأسابيع الأخيرة. وأعلنت مدينة أوكلاند أنها ستغلق 10 في المئة من شبكة شوارعها، والتي يبلغ طولها نحو 120 كيلومترا، أمام حركة مرور السيارات. وقامت مدن أخرى مثل فانكوفر، بمنع السيارات من دخول الشوارع داخل الحدائق العامة. ومع ذلك، فإن إغلاق الشوارع يتطلب موارد كثيرة، بما في ذلك معطيات واضحة تدل على أن السيارات لم تعد موضع ترحيب، وضغط السكان نحو فرض نظام جديد قد يدفع باتجاه ذلك.

لقد حاولت نيويورك إغلاق شوارعها، لكن برنامجها لم يُطوّق سوى بضعة مجمعات سكنية، واستمر 11 يوما فقط. وفسر دي بلاسيو رفضه لإغلاق الشوارع متذرعا بحجة غير متماسكة، وهي نقص القوى العاملة، إذ قال رئيس بلدية المدينة في مؤتمر صحافي: "انتهى بنا الأمر (عند إغلاق الشوارع) إلى استخدام الكثير من عناصر شرطة نيويورك الذين لا يمكننا الاستغناء عنهم الآن". وفي تورونتو، رفض مسؤولو النقل الدعوات لإغلاق شارع يونغ أمام السيارات، بحجة أن ذلك سيشجع الناس على التجمع، بدلاً من التباعد. لكن هذه الحجة قد تكون مغلوطة، فتقول غومز إنها تعتقد أن "إغلاق الأماكن لكثرة الازدحام فيها قد يفضي إلى نتائج عكسية... إن تقييد العرض لن يشتمل على تأثير مُصاحب على الطلب"، إذا تشدد على أنه في سبيل مساعدة الناس على الخروج والبقاء في أمان، يجب على المدن توفير مساحات أكبر لهم، وليس تقليصها.

ويدعي مستشار التخطيط الحضري، برنت تودريان، أن المدن التي تخشى الاكتظاظ يجب أن تخلق العديد من المناطق التي ترتكز على حركة المشاة، لكي يتمتع بها السكان في جميع أنحاء المدينة. وقال في فيديو نشره على "تويتر"، إنه يجب أن تكون هذه الشوارع الخالية من السيارات أمرا عاديًا ومنتشرًا وليس فريدا من نوعه، "لأننا لا نرغب بتجمع حشود كبيرة (بسبب الخوف من انتقال العدوى)، كما ولا نريد للأشخاص أن يسافروا لمسافات طويلة للوصول إليها". وينصح تودريان أيضا بتحويل تلك الشوارع المعاد تخصيصها للمشاة إلى شبكة "يمكن استخدامها للنقل والتنقل" من قبل العاملين في مجال الرعاية الصحية وغيرهم ممن يحتاجون إلى مغادرة المنزل لأكثر من مجرد التمتع بالقليل من الهواء 

والتنقل هو مفتاح هذه الطرح، خاصة في المدن، حيث لا يمتلك العديد من موظفي الشركات الأساسية، مثل المستشفيات ومحلات البقالة وخدمات التوصيل وما شابه ذلك، سيارات خاصة. وتقول غومز التي أنشأت أيضا جدول بيانات عام يفهرس مثل هذه الإجراءات المحلية، إن "الإجراءات التي تتخذها المدن هي مخصصة فقط لإعطاء الناس مجالًا للتجول، وليس بالضرورة إتاحة مساحة للوصول إلى أي مكان، وأعتقد أنها مفيدة. لكن لا أعتقد أنها كافية ولا عادلة". فقد قامت العديد من وكالات النقل العام بقطع الخدمة لحماية عمالها، مما يجعل أنظمتها أقل فائدة للركاب. وفي بعض الحالات، تصبح الحافلات أو القطارات القليلة التي تفعلها هذا الشركات، في غاية الازدحام بحيث لا يتمكن الركاب من الحفاظ على المسافة بين بعضهم البعض. وعبر تسهيل السفر سيرا على الأقدام أو عبر استخدام الدراجات الهوائية، يمكن تخفيف هذا الضغط عن المواصلات العامة.

وعملت بعض المدن على القيام بذلك، وخصوصا عبر توسيع البنية التحتية للدرّاجات الهوائية. وجلبت بوغوتا المخاريط الكافية لإضافة 115 كيلومترا من ممرات الدراجات الهوائية إلى شبكتها القوية بالفعل. وسارعت برلين بسرعة إلى تشييد مساحات جديدة من ممرات الدراجات. وتقوم بودابست بتركيب ممرات مؤقتة للدراجات على الطرق الرئيسية وتشجع الأشخاص الذين يضطرون إلى مغادرة منازلهم، سواء للعمل أو للتسوق، على ركوب الدراجات بدل السيارات. وقد تحول العاصمة المجرية بعض هذه التغييرات، إلى وضع دائم، بناء على كيفية سير الأمور.  

مثل العديد من التغييرات الأخرى التي فرضتها جائحة كوفيد-19، من الصعب التنبؤ بمدى صمود هذه الجهود. وتقول غومز حول ذلك: "لا نزال في وقت مبكر لفهم كيفية استجابة المدن (لهذه التغييرات). وأعتقد أن هناك الكثير من الدروس التي يمكن تعلمها من منظوري المرونة والاضطراب". وحتى بعد التغلب على هذا التهديد الذي يتربص صحة البشر، يمكن أن تساعد تلك الدروس في إبقاء مدننا صالحة للعيش.