• 6 تموز 2020
  • مقابلة خاصة

 

بقلم : د علي قليبو

" خص الدكتور على قليبو الكاتب والفنان واستاذ علم الاجتماع شبكة " أخبار البلد" بدراسة تعتبر الأولى من نوعها حول احد اعرق الاحياء في القدس ، حيث تمكن الدكتور قليبو وهو الخبير بهذا،  بالدمج ما بين الحقائق التاريخية والرواية الشفوية بدراسة تحليلية اجتماعية للتاريخ الديني والاجتماعي لحي دير أبو ثور او كما يعرف حاليا بحي (الثوري) "

 واليكم الحكاية  

 

يقع حي أبو ثور على جبل "المشورة الفاسدة "الى الجانب الأيمن من طريق القدس - بيت لحم  ارتفاعه 777 مترًا فوق مستوى سطح البحر، ويطل جنوبا على منظر خلاَّب لمدينة القدس ويقابله جبل صهيون الاقل ارتفاعا والذي تنتشر على قمته منازل حي النبي داود حيث يقع مدفن النبي داود وكنيسة رقاد السيدة العذراء والتي تنتصب من خلفهما أسوار القدس وصولا الى المسجد الأقصى حيث تُشِعُّ قبَّة مسجد الصخرة المشرفة في بهاء وجلال منقطع النظير. أمَّا في الجانب الشرقي فيشرفهذا الحي العريق على جبل الزيتون، وقرية سلوان، ووادي الربابة بالإضافة إلى سلسلة جبال عرب السواحرة والعبيديات الورديَّةاللون التي تنحدر تجاه حوض البحر الميت.

يتوج دير أبو ثور التابع لبطركية الروم الارثوذكس رأس جبل المشورة الفاسدة، الذي كان ومنذ العصر البيزنطي قبلة للحجاج المسيحيين ومزارًا إسلاميًّا منذ التحرير الأيوبي حتى النكبة. فعلى بُعد خمسة أمتارٍ يتقابل كلٌّ من مقام الشيخ الجليل أبو ثور وكنيسة القديس موديستوس التي أُقيمت على  أنقاض كنيسة القديس لوقا والتي دُمِّرَت ْإبَّان الاجتياح الفارسي في القرن الخامس للميلاد. لقد توارد ذكر قرية أبو ثور في التوراة، وعُرِفَتْ في العصر البيزنطي باسم دير لوقا نسبة الى الكنيسة وما تزال بقايا أعمدتها وحجارتها مبعثرة على رأس الجبل وفي نفس الموقع عثر علماء الآثار على بقايا مذبح كنعاني يتاخمه كهوف دفن كنعانية كان قد أُعِيدَ استعمالها كمقابر في العصر الرومانيّ,  حيث يتميّز منها كهف كبير على شكل سرداب كان على الأرجح جزءًا من الـ(جُرُن) الكنعاني، وهو عبارة عن معبد مقدس في الهواء الطَّلْق يُبنى عادة على قاعدةٍ صَخْريَّةٍ أسفله كهف يقع على قمة الجبل. يربض هذا السِّرداب حاليًّا تحت كنيسة القديس موديستوس التي أقيمت في القرن التاسع عشر وعلى هذه البقعة أيضا أقام الجيش الروماني بقيادة بومبي معسكره أثناء حصار القدس!

في نفس الموقع يُعتقد أن قيافا, أحد الكهنة اليهود,قد بنى قصرًا حيكت به مؤامرة تسليم المسيح إلى الرومان تمهيدًا لصلبه. وفي الآونة الأخيرة حاولت بلدية القدس الاسرائيلية ربط الحي بتاريخها الديني الخاص وتسميته باسم "غيفعات حنانيا" نسبة إلى حنانيا أحد الحاخامات الذين ترأسوا مجلس السنهدرين – وهو عبارة عن مشيخة كانت تحكم بين اليهود في العهد الروماني - ولكن هذه المحاولة قد باءت بالفشل وبقي اسم أبو ثور مرتبطًا بالحيّ العربيّ.

يلتفح دير أبو ثور وشاحًا من الغموض: فتواجه الباحث العديد من الثغرات في المعلومات والأدلة لتصبح إماطة اللثام عن تاريخ هذا الموقع تحدِّيًا عظيمًا يتداخل في نسيجه علم الآثار وعلم مقارنة الأديان وعلم اللغات  وعلم الحضارات والتاريخ الشفهيّ والأدبيّ في محاولة سَبْر أسراره.  فعلى سبيل المثال لا الحصر يعجز الباحث الاكاديمي عن تفسير تحوّل الوقف الإسلامي لدير أبو ثور والذي أُوقف على الشيخ أبو ثور وذريَّته في العصر الأيوبي في القرن الثاني عشر وكيفية تحوُّله إلى وقف تابع إلى بطريركية الروم في القدس, فيلجأ الباحث إلى شرح الحدث الغامض باستعمال القياس المنطقي. فلربما يعود نقل الوقفية إلى مجموعة التنازلات التي قدَّمتها الدولة العثمانيَّة للقوى الكبرى في منتصف القرن التاسع عشر، وهي الفترة التي بُنيت فيها كنيسة القديس موديستوس الحالية.

إنَّ اسم "دير أبو ثور" في حدِّ ذاته يجذب الانتباه ويثير التساؤلات.فيتكون اسم المكان من شطرين متلازمين هما (أبو) حيث إن المعنى الحرفيّ لكلمة " أبو" يمكن فهمها كأب او والد وكلمة"ثور"تشير إلى ذكر البقرة وفي هذا السياق فإنَّ المُسَمَّى أبو ثور لا تعني والد الثور ولكنها استعملت مجازًا للإشارة إلى ارتباط الشخص بالثور كصفة ملازمة.ومن الجدير بالذكر أن نفس كلمة(ثور) تستعمل في جميع اللغات السامية بنفس الدلالة ويماثل اللفظ كلمةTaurus في اللغات اللاتينية – الإغريقية. ولقد ميزت اللغة الانجليزية بين كلمتي ox لتشير الى الثور الهاديء المطيع والذي يستعمل كمَطِيَّة وفي حراثة الارض لكونه مخصيًّا وبين bull ذلك الذَّكَر الفَحْل المَهِيب، في حين خَلَتْ القواميس العربية القديمة المُتْرَعَة بملايين الكلمات عن ذكر هذه التفرقة رغم ذكرها للعشرات من المرادفات للثور كاللَّهَق والنَّاشِط وغيرها من الكلمات، ولا نجد غير كلمة (مدقوق) التي أوردها المستشرق دوزي في معجمه (تكملة المعاجم العربية) والتي قصد بها الإشارة الى "الثور المخصي"، في حين تضيف اللغة العربية صفة فحل إلى الثور لتُمَيِّزَه عن المَخْصِيّ.ومن المفارقات المثيرة لاهتمام الباحث أن الحضارات الوثنية نظرت بإعجاب وتقدير عظيمين إلى الثور الفحل كرمز للخصوبة وقوة طبيعية من الاستحالة كبح جماحها بخلاف وجهة النظر المسيحية والاسلامية التي ترى في الثَّور المَخْصِيِّ المُرَوَّض رمزًا إيجابيًّا للأُلْفَة والانقياد والطاعة.

إن اسم المكان (دير أبو ثور) في العامية الفلسطينية هي إشارة واضحة إلى أنَّ المكان نفسه وبصورة مستقلَّة قد ارتبط ارتباطا وثيقًا بالثَّور؛ ومن هذا المنطلق نستدل على أنَّ الثور هو عنصر جوهريّ وأساسيٌّ في القرية المندثرة والتي تحولت إلى إحدى أجمل ضواحي القدس السكنية في العصر الحديث.

على مر الزمن ومنذ العصر الكنعاني وحتى وقتنا الحالي ارتبطت قمَّة الجبل المقدس بالثور,فبنى البيزنطيون على أنقاض المعبد الكنعانيّ أوَّل كنيسة لهم  باسم القدِّيس لوقا والذي يرمز له بالثَّور كما ذكر الباحث توفيق كنعان. ولمزيد من الغرابة تعاقبت على ذات الموقع دلالات تشير الى الثور حيث ظهر المجاهد الملقب بأبي ثور ودفن في ذلك الموقع ليقيم المسلمون في مكان دفنه مقامًا للزيارة والصلاة والتبرُّك به. أمَّا في القرن التاسع عشر فقد نقل ذلك الوقف الإسلامي الى ممتلكات بطريركية الروم بالقدس حيث تمَّ بناء كنيس القديس موديستوس.

أمَّا القديس موديستوس فيُمَثِّل جزءًا من أُحْجِية مسألة إرتباط القرية باسم الثور. فلقد كان القديس موديستوس بطريركًا للقدس في السنوات التي أعقبت هجوم الفرس على المدينة سنة 614م وإليه يعود ترميم وإعادة تأهيل العديد من الكنائس والأديرة المدمَّرة, كما اعتُبِرَ القديس الخاص بحماية وعلاج حيوانات الفلاحة والحراثة وبصورة خاصة الثور والبغل.  وفي سيرة حياته نجد أنشودة يمتزج بها الحب والتقدير للثور, ووفقًا لذلك نجد الأيقونات التي تصوّر القديس تحتوي دائمًا على رسم الثور والبغل وهما حيوانان ضروريان لحراثة الأرضومرتبطان ارتباطًا وثيقًا بالخصوبة. وإلى يومنا هذا تحتفل بعض القرى في اليونان بذكرى القديس موديستوس السنوية، ويقومون في ختام القُدَّاس بتوزيع الماء المُقَدَّس للثِّيران والبغال لكي تشربها وقايةً لهم من أي شرّ.

منذ فجر التاريخ لعب الثور دورًا خطيرًا في تشكيل بنية اللاوعي الإنساني فقد رسمه الإنسان البدائي وقبل سبعة عشر ألف عام على جدران كهوف جنوب فرنسا وإسبانيا, وحتَّى عصرنا الرَّاهن ما فتيء الثَّور الوحشيّ يلعب دورًا حيويًّا يتردَّد صداه في حلقات صراع الثيران في إسبانيا وأيقونة تجسُّد قوى الطبيعة الهائجة والخصوبة الذكريَّة وتثير مشاعر الرعب والفزع الكامنة في النفس البشريَّة بخلاف الثور المخصيّ الذي فقد فحولته ليصبح حيواناً أليفاً لا يخشى أحدٌ طَرفَه فنجد النَّاس في اللغة العربيَّة العاميَّة تصف الشخص الذي فقد زمام السيطرة على ذاته بأنه "مثل الثور الهائج"، وبالمقابل تصف الرَّجل الكسول الذي لا فائدة ترجى منه بقولهم "مثل الثور الأبرق."

 

 ونجد للثور حضورًا كبيرًا في الأساطير العالمية؛ ففي الأسطورة السومرية نرى البطل جلجامش يواجه (الثور الوحشي) ويتغلب عليه ثم يقتله، وهو طقس يمتد إلى الآن ونراه ماثلا للعيان في مباريات مصارعة الثيران في إسبانيا في طقوس متوارثة حيث تتقابل رشاقة حركات وإيماءات وقوام وكبرياء المصارع المُتَّزِنَة في حلبة المصارعة مع الثور الهائج الذي يضرب بحوافره الأرض ويزفر غاضبا. وتحتقن العواطف وتشتد حِدَّة غضب الثور ويزداد رعونةً وهيجانًا، ويهجم على المصارع محاولاً نطحه بقرونه ووطئه بأقدامه، ويتمسَّك المصارع بدوره بكبريائه كابحًا جماح عواطفه خلف قناعٍ حضاريٍّ مُحْكَمٍ ترافقه مجموعة وثبات بين كرٍّ وفرٍّ قبل أن يغرس سيفه في رقبة الثور الوحشي منتصرًا في هذا المشهد الدمويّ تتواجه الطبيعة الهوجاء مع النظام الحضاري المُتَّزِن فنجد بها خير تجسيد للصراع بين قوى الطبيعة وبين الإنسان كنايةً عن تقابل العاطفة الهوجاء والمنطق العقلاني في قالب ثقافيّ تطغى به مشاعر الخوف والهلع، والشفقة والانفراج في مشهد دراميٍّ فريد.

 

لعب الثور دورًا خطيرًا في الديانات القديمة فلقد قدَّسته بعضها ورفعته إلى مصاف الآلهة. وخيرمثالٍ على ذلك هو الصراع الدمويّ بين البطل الاغريقيّ ثيسيوس والميناتور – وهو مخلوق ورد في الأساطير اليونانيَّة نصفه إنسان ونصفه ثور - ليُجَسِّدَ لنا قوى الشر الكامنة في الثور. كذلك جسَّدت الديانات الوثنية آلهتها على شكل ثور أحيانًا؛ فنجد كبير الالهة الاغريقية زيوس قد تقمَّص شكل ثور ليقوم بإغواء أوروبا. وفي الحضارة الفرعونية عظمت مكانة الثور وانفردت المعابد لتقديم الطقوس والقرابين الخاصة بهحيث عرف بالإله إيبيس. وفي الهند استخدمت الآلهة الهندوسية "شيفا" الثور كمَطِيَّتِها ليرتقيالى مصاف الحيوانات المقدَّسة التي تقدَّم لها القرابين في معابد هندوسيَّة خاصَّة,حتى غدت البقرة مركز تقديس وتبجيل. كذلك الحال في الحضارة الكلتيَّة في انجلترا حيث تبوَّأ الثور مكانةًعظيمةً جدًّا. وفي الاساطير الكنعانية في فلسطين نرى الإله بعل – إله المطر والرعد والخصوبة – يتجسَّد في كثير من الأحيان على هيئة ثور يجامع الآلهة (عنات) والتي تتخذ بدورها شكل البقرة إشارة إلى الخصوبة.

 

يكتمل تفسير لغز تسمية جبل المشورة الفاسدة بدير أبو ثور إذا ما حقَّقْنا لغويًّا بمعنى كلمة دير. فإذا ما دققنا في اللغات السَّاميَّة القديمة وخاصَّة باللغة الكنعانيَّة الفلسطينيَّة، نجد أنَّلكلمة (دير) في اللغة الكنعانية (d r) دلالة تعني مجمّع الآلهة (مثل البانثيون) أي مكان السكنى لعدد من الآلهة وليس معبدًا مقصورًا على إله واحد محدَّد. كما اقترنت كلمة (دير) لاحقا بالديانة المسيحية واقتصرت دلالتها على المؤسسات الدينية المسيحية، حيث يجتمع فيه ويقيم به الرهبان. ومع تقدم الزمن تلاشت دلالات الدير الكنعانيَّة في قرية دير أبو ثور وحلت بدلاً عنها روايات مسيحية وإسلامية حافظت على قداسة المكان وأهميته الدينية بالتوازي مع أهميّته التاريخيَّة حيث لا تزال آثار ذلك المعبد الكنعاني ماثلةً للعيان.

غالبًا ما يصل علماء الحضارات الإنسانية إلى موقع بحثهم الميدانيّ بعد فوات الأوان، فكم سيكون من الأجدى لو تمت دراستنا هذه في العصر الكنعاني حينما كانت تقدم طقوس القرابين لآلهة الخصوبة أو في العصر البيزنطي أو في القرن الثامن عشر قبل أن تندثر القرية أو حتى لو وصلنا نصٌّ صريحٌ يَصِفَ طقوس قرابين الثور في العصر الكنعانيّ.

 

وممَّا يزيد في الغموض رواياتُ العلماء النصارى الأوائل والذين سار على خطاهم المسلمون؛حيث قام كل فريق بسرد روايته من منظورهالديني حول موقع مقدس يعود إلى ديانات وثنية قديمة, لم يُبْقِ التاريخ منها شيئًا سوى بضعةِ كهوفِ دفنٍ كنعانيَّة مُتَناثِرَة في أعالي الجبل وبقايا أثريَّة للمذبح التابع للدير الكنعاني المندثر.

لطالما كان دير أبو ثور وجبل المشورة الفاسدة مكانًا مقدسًا ففي مقابلة لي مع غبطة بطريرك القدس لطائفه الروم الشرقية وجوابًا على سؤالي عن التطابق الزمني للتقويم الزراعي الموسمي لدى الفلاح الفلسطيني مع التقويم الكنسي المقدَّس أجابني غبطته شارحًا أنَّ الملكة هيلانة والإمبراطور قسطندي لم يكتفوا في زيارتهم لفلسطين في القرن الرابع الميلادي بتخطيط التقويم الزمني الخاص بالأعياد وتوزيع تلاوة فقرات الإنجيل كلٍّ في زمن معيَّن ولكنَّهم أيضًا قاموا بمسح الجغرافيا الدينيّة وبناء الكنائس حسب إرشادات العلماء المرافقين لهم وكان مبدأهم يكمن في ترسيخ المكان والزمان المقدَّس لدى الكنعانيين ولكن في إطار الرِّواية المسيحيّة, وتبعًا لذلك المبدأ فمعظم الكنائس البيزنظيّة بنيت في مواقع كنعانيّة عظيمة الشأن.

 

عبر التاريخ ودَرْءًا لخدع وكيد الشيطان اتخذ عدد منأوائل علماء الدين المسيحي قمة الجبل مكانًا للعبادة ومزارًا للمؤمنين مُتَّخِذين الثورالمُرَوَّض رمزًا للموقع. فبُنِيَتْ كنيسةُ القديس موديستوس على أنقاض كنيسة القديس لوقا. وعلى بعد أمتار قليلة منها يقع مقام الشيخ أبو ثور والذي يفصل بينهما جدار وشارع حديث يعود تاريخهما إلى فترة الانتداب البريطاني حين تحولت القرية الزراعية الى مشروع إنشائي سكني.

"إن الشيطان يتربص بالشرّبالمكان الأكثر قداسةً": هذا مثل يوناني يُعَبِّرُ عن سوء الطالع والمصائب وويلات الحروب المفجعة  التي طالما عانت منها القدس وقرية دير أبو ثور المتاخمة لأسوار المدينة المقدسة. فعلى قمة الجبل حيكت خيوط مؤامرة صلب المسيح على أيدي كهنة الهيكل اليهودالذين اتفقوا على تسليمه للرومان، وهناك أيضًا عسكر جيش بومبي لدى حصاره القدس، وفيها أسدل الستار على سقوط ضواحي القدس فيالنكبة عام 1948م،حين أُجْبِرَ أهالي أبو ثور حينها على ترك منازلهم و الفرار بأرواحهم. ولقد تفاقم الوضع سوءًا مؤخَّرًا إثر تأجير بطريركية الروم قمة الجبل بأكملها - أي الدير والعمارات والمنازل التابعة له -إلى شركة عقارات إسرائيليةحكرًا لتسعين عامًا بهدفإقامة أبراج سكنيَّة في مكان الموقع التاريخي!

التأريخ هو صياغة الأحداث التاريخية المتناثرة في إطار زمنيٍّ متسلسل في قالب سرديّ. يشمل هذا الخطاب الأدبي تنسيقًا لمجريات الأحداث والتي تتوافق مع سيرة حياة الشخصيات التاريخية وإنجازاتها. وتدخل في هذه الصياغة عملية اختيار وإبراز لأحداث  تاريخيّة وإسقاط لأحداث أخرى حيث تتداخل المفاهيم والقيم الحضارية لتعكس لنا رواية محكمة لرؤية  المؤرخ ليصبح عمله مرآة عصره. وهكذا تضمحلالحقيقة مما يثير شكوكنا  في موضوعية ما يتم تسجيله كحدث تاريخي.ومن الطريف أن الحكاية الشعبيةالشفهيةالمتداولة تصبح حقيقة تاريخية حالما تُكتب، وتسجيلاً موضوعيًّا للواقعتزداد مصداقيتها مع الزمن وتكرار الإسناد.

 

ارتبط اسم حي ديرأبو ثور– ويعرف محليا باسم "الثوري" -حسب الرواية الإسلامية بمجاهد  صوفي رافق صلاح الدين الأيوبي في حصاره للقدس عام 1187م ويدعى شهاب الدين أبو العباس أحمد بن جمال الدين عبد الله بن عبد الجبار المقدسي والذي كان يمتطي ظهر ثور في الجهاد مما أكسبه لقب أبو ثور الحيوان وكان رجلاً تقيًّا ورعًا، كما أنه يُعد وليًّا من أولياء الله الصالحين حيث أصبح قبره مقامًا.

شاعت بعد وفاته روايات تتناول سيرته وعلامات بركته، وقد أوردها المؤرخ مجير الدين الحنبلي العليمي في وصفه لمقام أبو ثور فأصبح محط زيارة الحجاج ووصف الرحالة بعده مثل: عبد الغني النابلسي والقيمي وغيرهم ممن كتبوا في فضائل زيارة القدس.وتحولت الحكاية الشعبية الصوفية إلى حقائق لا يمكن دحضها. وفي إحدى تلك القصص يُروى أن الشيخ أحمد كان يُرسل ثوره مع لائحة مشتريات معلقة في عنقه إلى القدس؛ فيذهب الثور إلى البائع المقصود في المدينة، ويقوم البائع بدوره بوضع الأشياء المطلوبة وتحميلها على الثور الذي يرجع بعدها إلى صاحبه وقد أحضر له ما يريد.

لقد نشأت في وسط مليء بسير المتصوفة وورعهم وبركتهم، ؛ فعم والدي إبراهيم قليبو كان أحد المتصوفة الذين عاشوا في حي أبو ثور، والذين تحولت شخصياتهم إلى شخصيات أسطورية. في إحدى القصص عنه يُروى أنه كان يذهب إلى البلدة القديمة راكبًا بغلته، ويقوم بعدها بتوزيع كل ماله على الفقراء والمحتاجين. فكان البائعون الذين يعرفون الدرويش يعطونه ما يريد بدون طلب المال منه لعلمهم أنه سيقوم بتسديد ما عليه فيما بعد.

بعد ثلاثة قرون من وفاة أبو ثور، كتب المؤرخ مجير الدين أنّ "أبو ثور هو وقف إسلامي للشيخ أبي ثور وسلالته الذين ما زالوا يعيشون في القرية ويزرعون الحقول" وبالتالي فهو يثبت لنا أن شخصية أبا ثور كانت حقيقية وليست أسطورية مختلقة. ويضيف مجير الدين واصفًا قبر الولي بأنه مزار يرده المريدون وأصحاب الحاجات من كل مكان. وقد أصبحت زيارة المقام مع مرور الوقت جزءًا من زيارة القدس الشريف. ومن بعد مجير الدين سار الرحالة المسلمون على أثره فزاروا المقام، ومن بين هؤلاء: الشيخ النابلسي الذي زار الضريح سنة 1689م، والشيخ مصطفى البكري الدمشقي الذي قام بزيارة الضريح عام 1740م وذكر أن الناس ما زالوا يزورونه للتبرك والصلاة، وأشار إلى أن نسل أبي ثور ما برحوا يعيشون هناك. كما زارالقيمي أيضًا القدس عام 1730م حين استقبله جدي الأكبر العالم المقدسي الشيخ محمد الخليلي،حيث اصطحبه للصلاة في مقام أبو ثور. ومن الروايات المشابهة التي تداولها المقدسيون قصة ذلك الدرويش الذي طلب من البدوية أن تصب اللبن في سلته المصنوعة من البوص كي يحملها الى البيت. وعندما أظهرت استغرابها قال لها "توكلي على الله وصبي اللبن"  فصبت اللبن ولم يَسِلْ من السَّلَّة فعرف الرجل بنقبته "صب لبن" وما زالت ذريته موجودة بالقدس. فالمثل لكل شيخ طريقة يقابله المفهوم السائد آنذاك ألا وهو أن لكل ولي من أولياء الله الصالحين علاماته.

ألقت مأساة النكبة بظلالها على حي الثوري حيث وقع العديد من الناس مضرجين بدمائهم برصاص القنَّاصة الإسرائيليين الذين أجبروا بقية السكان على الفرار من الحي للنجاة من الموت المحيق بهم إثر الهجوم العنيف الذي شنته العصابات الإسرائيلية على الحي عام 1948م وذلك بهدف قطع طريق بيت لحم – القدس. وفي عام 1949م وُقِّعَتْ معاهدة رودوس والتي حُدِّد فيها  خطُّ وقف إطلاق النار. وبعد النكبة أحكمت إسرائيل سيطرتها على جبل المشورة الفاسدة, ومع مرور الزمن تمَّت إزالة النَّقش الحجري المرتبط بالمقام ليتحول المقام الى شكل جمالي يزدان بالزهور في حديقة غنَّاء بينما تحوَّل بيت حارس المقام المجاور له إلى فيلا إسرائيلية أنيقة. وفي ركن في حديقة الدير المهجور بُنِيَ معبدٌ يهوديٌّ.أمَّا كنيسة القديس موديستوس – حيث ما زالت تُقام الطقوس الموسميَّة الخاصَّة بالقدِّيس – فلقد أصبحت في حالة يُرْثى لها من الإهمال.ونرى آثار  النَّكبة جليَّة في  حيّ دير أبو ثورفلقد احتل الاسرائيليون قمة جبله وأملاك الكنيسة والفيلات الفاخرة إضافة إلى الجانب الغربي المحاذي لطريق بيت لحم عام 1948، بينما ضُمَّ ما بقي من الجبل بسفحه الشرقي المنحدر تجاه قرية سلوان إلى الأردن.  وبقيت ثلاثة شوارع متوازية، والتي كانت يوماً منطقة منزوعة السلاح، شاهدة على تقلبات الزمن ومصائب الحرب. وبقي البيت الأرمني ما بين النكبة والنكسة مهجورا حيث أُجبرت عائلة السيد فريج شأنها شأن الكثير من العائلات الفلسطينية على الفرار إلى عمان.

إبان الانتداب البريطاني أصبح حي أبو ثور أحد الأحياء القليلة التي تجاور فيها المسلمون والمسيحيون, حيث استقرت بضع عشر عائلةً صوفية مسلمة من المتزهدين من القدس والخليل بالقرن التاسع عشر في قرية دير أبو ثور مقابل جبل صهيون ويشاء القدر أن يكون من بينهم عم والدي ويدعى ابراهيم قليبو الذي عرف بورعه وتقواه وكان يجاوره آل الدجاني وآل أبو الفيلات,وهو من نسل الشيخ يحيى الخليلي أخ الشيخ محمد الخليلي سابق الذكر والذي كان قد قام باستقبال الرحالة القيمي واصطحابه لزيارة مقام أبو ثور للصلاة فيه. بينما بنى إبراهيم قليبو بيته خارج القدس في دير أبو ثور بقي نسل قصر الشيخ محمد الخليلي الذي بُني عام 1734م،حيث عاش جدي علي ووالدي ومعظم أولاد عمومتي إلى أن صادرت حكومة الانتداب كَرْم وقصر الشيخ عام 1922م لبناء متحف روكفلر. واسم "قليبو" هو لقب صوفي نُعت به جدُّ أبي الأكبر لعشقه لله ولرسوله، وقد ظهر هذا اللقب بعد شيوع قصيدة شعرية ذكر في بيت منها "يا قليبو يا عاشق" في القرن الثامن عشر. فكلمة "قليبو" وهي تصغير للقلب و تشير الى صاحب القلب العاشق لله أو الواله بحب الله، ونرى صور جدي يحمل بيرق العائلة المتوارث منذ العصر الأيوبي الخاص بموسم النبي موسى ممتطيًا حصانه في أوائل الصور في القرن االتاسع عشر. وفي أسفل شارع عين روجل عاشت عائلة صوفية أخرى هي عائلة أبو الفيلات المعروفة اليوم باسم عائلة بركات. وقد بنت عائلة الدجاني أيضًا وهم أيضًا من أصحاب الطريقة الخلوتية عدداً من المنازل في حيّ الثوري على أراضي وقف خاص بهم.

وقد أعلمني السيد مازن الدجاني الخبير في تاريخ عائلة الدجاني  ان علاقات النسب بين أسرة قليبو والدجاني يعود تاريخها إلى عام 1802على الأقلأي أنَّ النُّقْبَة (أي الكُنْيَة) "قليبو" تعود الى منتصف القرن الثامن عشر. ومن المفارقات أنَّ ابنة عمي هيفاء وهي في التسعينات من عمرها الآن كانت قد تزوجت الدكتور حسام الدِّجاني وكان والده جار إبراهيم قليبو. ومن رواياتها خلصت إلى أنَّ طليعة سكان حي أبو ثور كانوا متزهدين صوفية على الطريقة الخلوتية، أضف إلى ذلك أنهم كانوا أقرباء تربط بينهم أواصر المصاهرة.

وإبَّان الحرب العالمية الأولى ازدادعدد الأبنية السكنية في الحيّ. ومع تطوُّر الضواحي الغربيَّة والجنوبيَّة للقدس مثل القطمون والبقعة الفوقا والبقعة التحتا اختار العديد من الوافدين من الساحل الفلسطيني والخليل الإقامة فيها. وحيث إنه أصبح بالإمكان تحت الانتداب البريطاني تقسيم الأراضي الزراعية وفرزها الى قطع يتراوح حجمها بين 600 الى 700 متر بغرض البناء بأسعار معقولة؛ استقر على السفح الشرقي والغربي لحي أبو ثور شريحة كبيرة من طبقة محدودي الدخل العاملين كالنجارين والخبَّازين وإلاسكافيِّين و قرَّاء القرآن وعُمَّال السِّكَّة الحديديَّة و صغارالتجار والكهربائيين. كانت تلك الأيام أيام الماضي الجميل قبل الشتات وضياع فلسطين المأساوي قبل النكبة. وبعد قرار اسرائيل بضم القدس الشرقية عام 67 بقيت أبو ثور مقسومة إلى قسمين: القسم الاسرائيلي وهو الجزء العلوي من الجبل ويمتد غربا الى طريق بيت لحم القدس وقسم فلسطيني ملحق بحي سلوان ويعاني من مشاكل سوء الخدمات البلدية أسوة ببقية الأحياء العربية.فأبو ثور الفلسطينية اليوم تعاني من إجراءات حظر البناء كما أنّها تعاني من كثافة سكانيَّة عالية من العُمَّال الفلسطينيين الذين وفدوا إليها من القرى والمدن المجاورة. وهكذا نرى أنَّ الحيَّ الهادئ بمنازله وحدائقه الجميلة قد تغير بشكل جذريٍّ بسبب النكبة والسياسات الإسرائيلية المجحفة تجاهه.

-"احزموا امتعتكم و لنعد إلى بيتنا!"بهذه الكلمات فاجأ أبو أحمد غزاوي والدته وزوجته وأولاده في نبرة حاسمة ليعلن عزمه العودة إلى بيتهم في أبو ثور الذي اضطرتهم نيران القناصة الإسرائيلية عام 1948 إلى هجرانه.

-"بعد النكسة ببضعة أسابيع، أرسل اثنان من جيراننا إلى والدي أن الأسلاك الشائكة قد أزيلت وأنهم قد عادوا إلى بيوتهم، وأقنعوه بالرجوع." استطرد اخوه حمدي.

-"إن الأيام التي أعقبت حرب الأيام الستة كانت أيامًا عصيبة جدًا. قامت حكومة الاحتلال إثر النكبة بتوطين جماعات من اليهود الشرقيِّين في الشطر الجنوبي والغربي لحي دير أبو ثور وبعد النكسة أرادوا التوسُّع والاستيلاء على البيوت العربية المهجورة الموجودة في خطِّ الهدنة. فاحتدت المواجهات بينهم وبين السكان العرب العائدين الى منازلهم. وارتفعت حدة التوتر وتصاعد العنف بين أصحاب الأملاك العرب واليهود حتى قامت الشرطة بحل الموضوع جذريًّا. ولم يتم َّتصنيف بيتنا من ضمن أملاك الغائبين نظرًا لأننا كنا نملك عقد الملكية له، وأيضًا لأنّ الحي لم يكن قد ضُمَّ إلى إسرائيل بَعْدُ.بهذه الكلمات شرح لنا أحد سكان الثوري السيد خالد الرشق سبب استعادتهم لملكية منازلهم آنذاك.

وأوضح السيد حمدي الغزاوي الأساليب القانونية - التي بموجبها تقوم إسرائيل بتجريد الفلسطيني من بيته وأرضه وذلك عبر تصنيفه كشخص غائب بلا حقوق قانونيَّة وذلك ما يُسَمَّى "أموال الغائبين" أي العقارات التي تعود ملكيتها إلى الفلسطينيين قبل الشتات – قائلا: "حسب القانون الإسرائيلي، لا يحق لأيِّ شخص قد أقام في بلد عربية  ما بين عامي 1948 و1967 أن يطالب بممتلكاته في  اسرائيل."

لم يكن والد حمدي قد تزوج بَعْدُ عندما حدثت النكبة، إلا أنَّندوبها لا تزال ظاهرةً إلى يومنا هذا عليه، فحينما كان يروي لنا وَصْفَ أبيه للقتال الضاري الذي حصل في الحي عام 1948 اغرورقت عيناه بالدموع وتابع قائلا: "لقد احتل القناصة اليهود المنطقة العلوية للثوري وبدأوا يطلقون النار على السُّكان. مما اضَّطرنا إلى الهرب مع بقيَّة الجيران، فهربت الأغلبية عبر جسر ألنبي إلى عمان، ولجأنا نحن إلى البلدة القديمة. بعد زواج والدي انتقلنا إلى العيزرية، ولكن عقب موت جدي بقيت جدَّتي وحيدة في بيتها في البلدة القديمة فانتقلنا للعيش معها.أقمنا معها لبضع سنواتٍ في حيِّ باب حطة حتى اندلعت حرب الأيام السِّتَّة."

-"بعد الحرب مباشرة واحتلال إسرائيل للقدس أُزيل الشريط الشائك الذي كان يفصل بين شرقي وغربي المدينة، وأخذت جدتي تُذَكِّرُ أبي بالبيت الذي كنا نملكه في دير أبو ثور وتلح يوميا عليه أنَّ لايتركه مهجورًا. " أضاف أحمد ومعالم السعادة ترتسم على محيَّاه.

-" وأخيرا جاءت اللحظة التي أعلن فيها والدي نيته العودة إلى بيتنا في الثوري," أردف حمدي: "فكدَّسنا ما نملكه من عفش البيت وكان بسيطًا داخل حافلة نقل زرقاء صغيرة كانت تنتظرنا عند باب الساهرة. وكانت جدتي ووالدي ووالدتي ونحن مبتهجين منتشين. وعندما وصلنا وجدنا أنَّ البيت كان قد نُهِبَ كُلِّيًّا وحتى البلاط والنوافذ لم تسلم من السرقة. فكسونا الأرض بصفائح كرتونية ثم وضعنا فوقها الفرشات لننام عليها."

وأردف السيد صيام قائلاً: "إنَّ السَّفح المحاذي لدير أبو ثور كان ملكًا للسيد شنيلر، والذي كان يبيع قطع الأرض للعرب بصرف النظر عن ديانتهم."

ويحدثنا السيد أحمد غزاوي – الذي يقارب الخمسين عاماً – قائلا أيضًا: "لقد اشترى جدي من شنيلر قطعة الأرض لبناء بيتنا بثلاثين جنيهًا فلسطينيًا، وكان قد انتقل للحيِّ لقربه من مكان عمله آنذاك في محطة القطار. نحن ننحدر من قرية ساحليَّة قرب أسدود. وانتقل للقدس بحكم عمله في سكة الحديد."

ارتبطت عائلة شنيلر الألمانية بالعمل التبشيري وذاع صيتها بالأعمال الخيرية في فلسطين، ولكنَّ أحدًا ممَّن قابلت لم يعرف الاسم الأول لمالك المشروع الإنشائي من عائلة شنيلر في دير أبو ثور؛ حيث إنّ َمعظم الأشخاص الذين قابلتهم كانوا إمَّا صغارًا في السن في عام 1948م، أو لم يكونوا قد وُلدوا بعد. تَبِعًا لذلك فإن َّالروايات التي سردتها في هذا البحث هي قصص ونوادر شفهيَّة رواها الأجداد في سهرات عائليَّة لأولادهم وأحفادهم تضيع في طياتها العديد من  التفاصيل والمعلومات أضف الى ذلك أنَّ الصور العائلية وشتَّى الوثائق والمستندات قد حُرِقَتْ خلال الحرب. وفي أثناء مقابلة مع السيد سامر الرشق أخبرني بأنه سمع من عمٍّه خبرًا مفاده بأن شخصًا من أبناء عائلة شنيلر كان يملك مصنعًا للزجاج في الثوري، ولكن لا يوجد أدلة بين أيدينا تُعَضِّدُ هذه الرواية. ولقد كانت لإعادة تخطيط وتنظيم الاراضي والتي قامت بها بلدية القدس الإسرائيليَّة عدة مرات الأثر الأكبر في طَمْسِ هويَّة أصحاب الأرض الأصليين.

ويجب التنويه إلى أن مصادر المعلومات التي اعتمدت عليها تضمنت مصادر تاريخية موثوقة حول الكنيسة البيزنطيَّة والكنيسة الحديثة ومقام الشيخ أبو ثور، بالإضافة إلى معلومات كنت قد جمعتها من خلال مقابلات شخصية مع أفراد تناقلوا روايات آبائهم. ومن الطريف أنَّني عاصرت جيل المؤرخين ذوي القامات العظيمة أمثال عارف العارف والدكتور إسحاق موسى الحسيني وكنت أعود من المدرسة لأجد يعقوب ليندمان – المؤرخ المعروف- يجالس والدي وهو من مواليد 1892 لينقل المعلومات منه ومن غيره بخصوص تاريخ تطور أحياء ضواحي القدس لتصبح هذه الأبحاث المراجع التي اتخذتها كنقطة انطلاق في دراستي لحيّ دير أبو ثور، ولكنني في مقتبل شبابي ولم يدر في خلدي آنذاك انني سأكرِّس حياتي في دراسة تاريخ القدس العمراني والاجتماعي.

إنَّ عائلة شنيلر التي وفدت إلى فلسطين عام 1865 كانت من البروتستانت المبشرين الذين سرعان ما تحولوا الى محسنين اجتماعيين يقدمون للفلسطينيين شتى الخدمات الاجتماعية وذاع صيتهم مقترنًا باسم مؤسستهم "مدرسة شنيلر"، والتي عُرفت أيضا باسم "دار الايتام السورية"وما زال بناؤها قائمًا في حي روميما – شمال غرب القدس -.وكانت عائلة شنيلر أشبه ما تكون الى حامولة تتألف من عدد من الأسر، والذين قاموا بإنشاء مختلف المشاريع في أرجاء فلسطين. ولا يزال ذكرهم قائمًا في فلسطين بسبب الميتم ومركز التدريب الذي دربوا فيه أجيالاً من الفلسطينيين على النِّجارة والحدادة والعديد من الحرف اليدويَّة, وغرسوا في طلابهم القيم المهنية مثل الدقة بالمواعيد والانضباط واتقان العمل بتفانٍ،وهي من سمات المقدسيين القدماء. وقد أكسبتهم مساهماتهم الاجتماعية في فلسطين ما بين عامي 1865 إلى 1948 احترام الشعب الفلسطيني. أما بعد النكبة فقد استقرَّ بهم الحال بإنشاء مدرسة ومركز تدريب في شرق الاردن.

وفي أعقاب حرب عام 67 قام ميرون بن فينيستي – المؤرخ الإسرائيلي المشهور والذي كان يعمل في بلدية القدس آنذاك – بشراء البيت من نسيب السيد شنتليان - وهو زوج ابنته آليس -في عمَّان؛ وقام بترميم البيت وتغيير معالمه الداخلية؛ فأزال جدرانًا وأعاد تشكيل النوافذ الشماليَّة والشرفة، كما قام بإضافة غرفة الاجتماعات الحالية في مركز ويلي براندت الثقافي بالإضافة إلى مطبخٍ وبيت راحة وحمام على طراز السبعينات. ولم ينج من الأرضية القديمة سوى بقعة صغيرة في الطابق السفلي من البلاط الملون الشائع في عصر الانتداب والتي كانت مغطاة بالمشمع الأرضي. وبتقدم العمر بالسيد ميرون قام بدوره ببيع البيت إلى ويلي برانت وانتقل للعيش في بيت للمسنين في شورش.

الذكريات هي بقايا الزمان الذي تناثرت أشلاؤه هنا وهناك كرمل تبعثرت حُبَيْبَاتِه مع الريح لتستقرَّ في رواية القدر. لقد دفعت نيران القناصة الإسرائيلية السُّكان إلى الفرار من حي الثوري نجاةً بأرواحهم من الموت المحتم.

إنَّ حي دير أبو ثور يثير الشجون والحزن فيسير الزائر في ديار استحالت قفارا وأصبحت شواهد صامتة لأيام عِزٍّ سابقٍ ومجتمع متكامل تمزقت أوصاله وتشتَّت عائلاته.