• 14 تشرين الثاني 2020
  • مقابلة خاصة

 

مرة أخرى يعود لنا الدكتور علي قليبو أستاذ علم الاجتماع،  ليتحفننا مرة أخرى في بحث مثير وعميق، ليكون لبنة اخري في اطار بحثه العميق والاشمل حول الشخصية الجمعية الفلسطينية، وهذه المرة يربط بين الجغرافية والثقافة ليبث لنا مرة تلو الأخرى عمق الشخصية الحضارية للفلسطينيين والتي هي ضاربة جذورها في أعماق هذه الأرض قبل أي من  الغرباء،

 ونشكر الصديق الفنان الكاتب خبير علم الاجتماع د علي قليبو  لمنحه شبكة "أخبار البلد" الحقوق الحصرية لنشر اعماله المميزة .

 

بقلم : الدكتور علي قليبو

جبال الخليل التي تطل علينا بهيبتها وشموخها هي صفحات من كتاب جغرافيا فلسطين الثقافي، والتي تروي تاريخ  الشخصية الحضارية الفلسطينية، ولعلّ أكثر هذه الصفحات إثارة ومتعة قصة الكهوف التي تقبع في جوف الأرض أو بين أحشاء الجبال، مكونة ظاهرة جيولوجية، ومفردة تراثية بالغة الدلالة على تنوع الحياة القبلية في جنوب فلسطين امتداداً من جبال الخليل وتداخلها مع بادية النقب عبر العصور.

تتكون الكهوف نتيجة تآكل الصخور بفعل المياه الجوفية التي تتجمع بعد سقوط الأمطار مكونة أودية وسيول وانهارا جوفية تعتبر النظير تحت الارض لما نراه على سطحها من شبكات الاودية والمجاري المائية.وتبدأ عملية تكوين الكهوف بواسطة تآكل وانحتات صخور الحجر الجيري بمياه الامطار التي تكون على هيئة محلول حمضي مخفف ذاب فيه ثاني اوكسيد الكربون من الجو أو من التربة حيث يتغلغل هذا الماء في شقوق الصخور فيذيبها مكونا فجوات فيما بين مفاصل الصخور لتتكون عبر ملايين السنين الكهوف. وهناك مجموعات كهوف كانت مليئة بالمياه الجوفية ولكن انخفاض مستوى سطح المياه وبفعل تكوّن الجبال والوديان عبر الزلازل والبراكين لعبت دورها في ارتفاع هذه الكهوف لتصبح قنواته الفارغة ممرات ودهاليز تربط بين الكهف  والاخر وهي ظاهرة منتشرة في فلسطين عامة وسلسلة جبال الخليل خاصة.

الكهوف عالم مجهول ومنظومة من الأسرار، والكهوف هي إحدى المكونات الطبيعية في فلسطين حيث استقرت القبائل السامية، فكان الحوريون أول من استقر بها واتخذوا الكهوف مسكنا عوضا عن بيوت الشعر وتلاهم  قبائل الأموريون وشعوب سامية اخرى لتصبح المغر الملجأ والمأوى الذي يعيشون فيه ويحتمون به من خطر الوحوش والضواري ومن الحر والقر ومن جحافل جنود المغيرين من بابليين وفراعنة ومن اغريق ورومان وفرس وغزوات القبائل السامية المتوالية الوافدة من سيناء والنقب منذ قديم الزمان. استمر الفلسطينيون عبر العصور يقيمون بهذه الكهوف والكهوف المنتشرة في جبال الخليل وصولاً الى بيت جبرين وعراق المنشية غربا والظاهرية ويطا والسموع جنوبا حتى النكبة وتغلغلوا جنوبا بالنقب واستمرت ثقافة مدن المغر حتى نهاية القرن العشرين.

 وتتعدد انواع الكهوف الفلسطينية فمنها من تظهر على شكل فجوات في باطن الأرض أو في الجبال، تنفرد بفتحاتها الغريبة وعمقها وظلامها الدامس وتكويناتها النادرة  فيطلق الفلسطينيون كلمة طور على الكهوف عظيمة الحجم والتي قامت عوامل الطبيعة بنحت صخورها الكلسية، والتي تختلف عن الكهوف المتشعبة على هضبات الجبال حيث ترتبط مغرها (والتي تشبه غرف ذات احجام متفاوتة) ببعضها البعض عبر دهاليز وممرات لتكون مدنا وقلاعا حصينة حفرتها الطبيعة وصقلتها يد أجدادنا لتصيغ تاريخنا وجغرافيتها في رواية فلسطينية تربطنا في ثرى بلادنا والتي صمدت لتروي حكايتنا مع الزمان.

يتميز الطور بموقعه الجغرافي الذي يطل على الوادي وبسقفه الشاهق الارتفاع وصخوره الكلسية الناصعة البياض، ويعتبر "طور بدّو" في حقول الزيتون بين خربة الكوم وقرية إذنا نموذجا مثاليا لهذا النوع من الكهوف. ويتردد صدى "الطور" عبر التاريخ كمسرح يشير الى الغزوات عبر التاريخ للقبائل المغيرة على سيادة اراضي تابعة لقبيلة أخرى والاستيلاء عليها وانتقال الحكم والسلطة لها ضمن أحداث دامية كما نجدها في الرواية التوراتية كقيام العبرانيين بالإغارة على "طور رابود" والذي اندثرت معالمه وسُجن ملك وشيوخ وكهنة القبيلة القاطنة فيه من شعب العمالقة في الكهف الكبير خارج أسوار المدينة وإبادتهم عن بكرة أبيهم حتى أصبح الإطاحة بالحكم من قبيلةٍ لأخرى في "الطور" وجودا أسطوريا بالرواية الفلسطينية يتردد صداها في روايات "بيت أولا" ونسمعها شعرا في مأساة  قبيلة العصافره في بيت جبرين.

وتختلف الرواية وتتعدد أحداثها باختلاف أنواع الكهوف ونوعية الصخور لتشمل كثيراً من الاستعمالات عبر التاريخ، فتجد مدن كاملة من الكهوف المتشعبة تحت الارض على غرار مدينة الظاهرية وبيت جبرين وبرج والتي كان قد استصلحها اجدادنا لتعكس تاريخنا الاجتماعي الاقتصادي. كما نجد ان مدن الكهوف استعملت لسكن الإنسان والماشية وكمدافن أيضاً وقد تم تسخير حجارتها ونحتها لتصبح معاصرا للزيتون وكآبار لحفظ الزيت فتجد جلاميد صخور البد الضخمة نقشت بداخل بعض الكهوف المتاخمة للمدينة واستعملت كهوف أخرى كصوامع لتخزين الحبوب من قمح وشعير وعدس. وفي العصر الهيلينيستي أي بعد احتلال اسكندر المقدوني لفلسطين ظهر نمط مغر مظلمة بواجهات منقوشة بالطراز الهندسي الإغريقي ومن ثم الروماني انتشرت في ارجاء البلاد وفي نفس الفترة ظهرت كهوف بواجهات منقوشة استعملت  كمعابد...فلكل كهف صفاته ولكل عصر روايته.

يتوسط معبد قصرة حقول الزيتون على جانب طريق جبلي وعر يقود إلى أطلال مدينة قصرة الحصينة، والتي أصبحت حجارة أسوارها ومداخل كهوفها سلاسل حجرية انتشرت فيها كروم الزيتون حول سفح الجبل يلتفحه وشاح من الغموض. في زياراتي السابقة قبل عشرين عاماً كانت تحيط بجانب الطريق عدة مقابر أدومية توافقاً مع نظام المدن الهيسلينستية والرومانية، حين ارتفع شأن التربة في مجتمعهم وسادت طقوس تقديس الأجداد.

خلال العشرين عاما الماضية اندثرت معالم المقابر والكهوف المجاورة واختفت معالمها تحت أكوام الطمم ولم يبق بالطريق الملوكية نحو المدينة المهجورة سوى المعبد منزويا بحياءٍ صامت وجلال يبوح باسرار وطقوس دينية عبر رموز واشارات مبهمة، لا تزال اطلالته تتحدى الزمن.

يقع معبد قصرة على طريق ترابي يقود إلى خلة النواميس -من أعمال دورا- في الحدب خلف مخيم الفوار ويدهشنا أن الأدبيات والدراسات التوراتية المختصة بعلم الآثار الفلسطينية لم تذكر المعبد نفسه أو مدينة الكهوف المتاخمة له. هذا التجاهل أن أشار إلى شيء فأنه يشير إلى أن المدينة وسكانها ليسوا ضمن الرواية التوراتية وأننا أمام أطلال مدينة كنعانية وثنية تعود إلى عصر "العمالقة" وإلى الحقبة الأدومية على وجه التحديد، والتي اتخذت من الطراز الهيلينستي وشاحا لمعبدها والتي تعود بناؤها بين القرن الثالث والثاني قبل الميلاد، حيث نتبيّن في عمارته وفي رموزه الدينية التوافق بين الطراز الهيلينستي المعماري السائد آنذاك وبين مراسم طقوسها الدينية الأدومية حين يتربع إله المطر الأدومي "قوس" والمرادف للإله "بعل" بالثقافات الكنعانية، على قمة الهرم بالمجمّع الديني لآلتهم. وما زالت لغتنا حتى الآن تستعمل المصطلح الأدومي كبشير للخير والمطر في نظرتنا وتسميتنا لانكسار النور في رذاذ المطر بكلمة "قوس قزح" الذي هو أحد رموز إله البرق والرعد والمطر "قوس" والذي عرفناه في أساطير الكنعانيين باسم "بعل هداد" إله الخصوبة و"عشتار" عند البابليين و"ايزيس" عند الفراعنة.

تتوارد الأفكار فلا ننسى ونحن في هذا المقام الاشارة الى ان الأدوميين هم في الأصل "عرب" ينحدرون من "دوما" أحد بناء سيدنا إسماعيل عليه السلام ومن نسل العيص الذي ما زال مقامه في قرية سعير بداخل الجامع الحديث شاهداً على ذلك. والعيص هو توأم سيدنا يعقوب وكلاهما يرجعان بنسبهما إلى سيدنا إبراهيم والذي سكن الخليل عند موقع شجرة البلوط والتي تعتبر مزاراً مقدساً يقوم الأدوميين بزيارته في مواسم معينة وبصورة خاصة عند الاعتدال الخريفي. ولعظمة مكانة سيدنا إبراهيم في حضارة الأدوميين، شيّد الملك هيرود (الحارد) الحرم الإبراهيمي للعبادات والطقوس الأدومية  ومعبدا اخر بجانب شجرة البلوط المقدسة مكان سكن سيدنا ابراهيم. فكان للقبائل العربية الأدومية دوراً قبل اعتناقها للديانة المسيحية ومنها قبيلة بني لخم -أي أجداد تميم الداري- في خدمة الحرم الإبراهيمي فكانوا سدنة الدير الإبراهيمي حيث أقيمت الذبائح ووضعت الأنصاب والتماثيل لمختلف آلهتهم. يكتب ابن الأثير فيقول أنه ومن خلال الدور الذي لعبته قبيلة بني لخم كسدنة الدير الإبراهيمي الأدومي –الجد السابع لتميم الداري- اكتسبت قبيلة تميم بن أوس لقب الداري!

لعبت طقوس الأدوميين الدينية وعلاقتهم مع آلهتهم دوراً كبيراً في اختيار موقع معبد قصرة على الطريق التي تقود إلى "خلة النواميس" في موقع صخري يسمح ببناء مجمّع ديني. يشمل المجمّع مغارتين تقود الأولى عبر ثغرة طبيعية - نحتت بشكل باب- الى جزء الكهف الداخلي والذي بدوره يقود الى كهف مرتفع (باموت) هو قدس الأقداس حيث كانوا يضعون تماثيل الآلهة كما كان شائعاً في ديانات فلسطين الوثنية آنذاك. ويشمل المجمع ضمن الحرم المقدس "الجرن" الصخري والذي يمتد أمام ساحة المعبد الخارجية، حيث كانت تقام الأنصاب الصخرية والمذبح لتقديم القرابين، وبأسفل الجرن يقبع كهف آخر بمدخل منفصل وفقاً لمقاييس مرتبطة بعقيدتهم. يتبع التصميم الهندسي العام لكهف "قصرة" المقدس التقسيم الذي كشف عنه علماء الآثار بالنقب. فيتكون حرم المعبد من ثلاثة أقسام متفاوتة الأحجام لكل منها دور تلعبه في مراسمهم الدينية من ابتهالات ورقص ديني وذبائح، وطقوس جنس مقدس على غرار الطقوس الدينية لدى البابليين والفراعنة والتي تداخلت معها معالم طقوسها وآلهتها، فلعب الإله "قوس" إله البرق والرعد والمطر -أي إله الخصوبة- دوراً كبيراً في مجمّع آلهتهم الديني (pantheon) والذي يشابه دوره دور ثنائي آلهة الخصوبة الكنعانية "بعل" و"عشتار" وبعض صفات آلهة الخصوبة المصرية "اوزيريس" و"ايزيس" وانفردت كل حضارة برموزها التي حددت الصورة الايقونية لكل إله، فنجد الإله قوس وقد برزت القرون من جانبي رأسه إشارة إلى القوس، وذات الأمر في صورة زوجته الايقونية. كما تجتمع بالإله "قوس" صفات كبير الإلهة الكنعانية "ايل" و"يهوه" عند العبرانيين. لم يعش الأدوميين بمعزل عن الثقافات المجاورة فقد لعب التبادل الثقافي دوراً كبيراً في تشكيل إنسانيتنا منذ ذلك الوقت.

غالباً ما يصل علماء الآثار والحضارات إلى مواقع دراستهم متأخرين، فلم يبق من المجمّع الأدومي سوى النذر القليل من معالمه المحفورة بالصخر. وبعد ان اعتنق الأدوميون العرب الإسلام أزيلت الأنصاب والمذابح ودمرت الأوثان والتماثيل وأعيد استعمال المعبد كهفاً للسكن ومن ثم ملجأ للرعاة وحظيرة للغنم والجديان واندثرت وأزيلت معظم معالم المعبد الدينية وأعيد استعمال حجارتها في بناء سلاسل كروم الزيتون كما طمر السكان بمخلفاتهم الجرن وأصبح المعبد مكباً للنفايات...لا نجد أثراً للجرن المقدس ولا للانصاب التي نجد نماذج لها من مواقع أدومية أخرى في متحف بلدية دورا. لم يبق سوى صخور الكهوف الصماء  والتي تتكون من الأيوان الخارجي ومن قاعتين داخلتين لكل منها باب منحوت يقود من غرفة إلى أخرى صقلت جدرانها وسقفها لتصبح مستوية بدون أي نتوءات وقد شوهت أيادي لصوص الآثار العابثين معظم معالمها. وكم آلمني كلام أحد المزارعين الذي توقف عن قطف الزيتون وبعد أن شرح لي أنه معبد روماني أضاف بفخر واعتزاز بأنه قام بردم معالم الكهف السفلي قائلاً "شو بدنا فيهم لا في عنا سياحة ولا غيرو فبطلو يلزمو بإشي." فالجميع يدرك أن الموقع كان معبداً والكل يعرف انها اثار تاريخية ولكن قل ما تجد أحداً يشعر بالانتماء وبأن هذه الآثار تروي معالمها تاريخنا الاجتماعي وتحيك رموزها شخصيتنا الثقافية.

لم يبق من أدبيات الأدوميين الدينية إلا القليل من المعلومات نستقيها من التوراة ومدونات الحجاج النصارى في العصر البيزنطي. فنقرأ أن الملكة هيلانة والدة الامبرطور قسطنطين امتعضت أثر رؤية الأدوميين يشاركون بجانب النصارى واليهود في الصلاة وفق مراسمهم الوثنية في طقوس الخريف أثناء الموسم الخاص بشجرة البلوط المقدسة في موقع المسكوبية الحالي كما أنهم استمروا بإقامة شعائرهم بالمعبد الإبراهيمي والذي كان قد أصبح كنيسة بيزنطية.

تطاردنا شخصية الملك الأدومي هيرودس في كل أرجاء فلسطين، حيث يعتبر الملك هيرودس الأول والذي ولد في عسقلان من أعظم الشخصيات التاريخية الأدومية. واسمه العربي هو "حرد" وتم نحت حرف الحاء لتصبح هاء باللاتينية وأضيف إليه الملحق اللغوي اليوناني الذي يضاف إلى الاسماء في لغتهم فإذا ما حذفنا آخر حرفين من اسم العلم اللاتيني وأبقينا الجذر العربي الثلاثي يصبح هيرود أو حرد! وهو اسم علم عربي متداول حتى الآن. ولا ننسى أن اسم شقيقه هو فيصل ونتذكره الآن باسم المنطقة التي حكمها  (فصائل) بالقرب من جسر داميا بالغور ولا تزال قلعته موجودة بالقدس في القلعة بجانب برج زوجة "الحرد" ويدعى برج "ماريامني" وإليه يعود الفضل في بناء المعبد الأدومي والذي ما زالت جدرانه تحيط بالحرم الإبراهيمي وحيث كان الأدوميين يقيمون طقوسهم الدينية بالهواء الطلق كما بنى المعبد بجانب شجرة البلوط المقدّسة بالخليل والتي ما زالت آثارها ماثلة للعيان.

نقف أمام المعبد بعد مرور أكثر من خمسة عشر قرناً على اندثار الديانة الأدومية لنجد أن الساحة الخارجية للمعبد قد أصبحت حظيراً للغنم وأعيد استعمال الكهف المقدس مسكنا للرعاة الذين بدورهم هجروه منذ سنين عديدة. لم يبق من آثار المعبد سوى ثلاثة قاعات اجتماع متفاوتة الحجم تبدأ بالإيوان الخارجي وهي قاعة كبيرة الحجم مستطيلة الشكل يبلغ مساحتها (9×9.5) م2 تليها بوابة تعلوها نقوش دينية، وغرفة اجتماع أصغر (3×4.5)م2 وعبر باب آخر بالاتجاه الشمالي غرفة أصغر (5×5)م2 نجد على جانبها الغربي جرناً محفوراً بالصخر استعمل في طقوس الطهارة واستعمله الرعاة لسقاية الغنم تعلوها غرفة صغيرة (2×2)م2 هي الباموت (المكان المرتفع في المعابد الكنعانية- قدس الأقداس) حيث انتصبت تماثيل الآلهة والتي تصَدّرها الإله "قوس". تسْتحضرني في تقسيم وتخصيص استعمالات هذه الكهوف المتصلة المنفصلة صورة المعبد الشِنْتي في الحضارة اليابانية حيث تتدرج قداسة غرفها من العام إلى الخاص. فالإيوان الخارجي باليابان يستعمل للصلاة والابتهالات لجميع الزوار بينما الغرفة الداخلية"heiden"  هي لتقديم النذور والقرابين وتقتصر على الكهنة وأمّا الغرفة الخلفية  "honden" فهي قدس الاقداس حيث تقيم الإلهة ولا يدخلها احد سوى كبير الكهنة.

تدخل غرفة الاجتماع الأولى (الإيوان الخارجي) عبر مدخل حجري منحوت لم يبق له أثر سوى سنتمترات تقابله غرباً بقايا قاعدة نصب مربع مدمر كان نصباً دينياً أو مذبحاً حجرياً، كما يحيط  بالجانب الشرقي والغربي للحظير الخارجي مصاطب حجرية للجلوس نحتت من صخر الجبل على جانبي الجدار المنقوش، فكانت القاعة الخارجية المسرح حيث تقام الشعائر الدينية بالهواء الطلق.  تقود القاعة إلى مدخل الكهف والذي نحت على شكل باب عظيم بالطراز الهيلينستي، فواجهته المنقوشة يعلوها إطار (كورنيش) مستطيل حفرت معالمه بالصخر، والذي يحتوي على نقش بارز لثلاثة أشكال دائرية يفصل بينهما نقش لأعمدة يونانية. هذه الدوائر لا تخرج عن كونها رموزاً مبهمة تضيف إلى غموض المكان وتشير إلى تداخل الحاضر بالماضي وإلى استمرارية الرموز الدينية في المجتمع الفلسطيني حتّى العصر الحديث.

هذه الأشكال الزخرفية وما أشبهها بالنجوم هي تجسيد رمزي لشعاع النور في الديانات القديمة وتُذكّرنا بأشكال هندسية يتردد صداها في فن التطريز على الثوب الفلسطيني كما ألفناها على مدخل المنازل الفلسطينية القديمة تحيط بها أسعف النخل وسبلات القمح! فعلى مدخل كل بيت نجد رسماً لنجمة تنقش بصور عديدة تتوسط هلالين تارةً ونجوماً تارةً أخرى. إنه من المتعارف عليه أن هذا الرسم الرمزي هو رمز كوكب الزهرة أي "فينوس" المرادفة للإلهة عشتار كنايةً عن الخصوبة والجنس والخير، والذي كان ينحت على مدخل البيت كتميمة لدرء الشر وتيمّنا بالآلهة. ومن المعروف أن نجم الزهرة هو أول نجم يظهر مساءً وعادة ما يكون قاب قوسين من الهلال الجديد (أي الشهر القمري). استفاض العلماء بتفسيرهم لظاهرة ارتباط كوكب الزهرة والآلهة عشتار اللذين ارتبطا بصور مختلفة بالأساطير الدينية القديمة لدى البابليين والفراعنة والمايا. يرجح الباحثون ان كوكب الزهرة لم  يظهر في السماء سوى حديثا وكان قد دخل في مجال رؤية الانسان باديء ذي بدء كمذنب في سماء الكره الأرضية قبل 5000 عاماً أي تزامنا مع ظهور الآلهة عشتار والآلهة المصرية "ايزيس" والتي جسدتها تماثيل الملكات الفرعونيات بارتداء قبعة بشكل النجم المذنب كضؤء متوهج بذيلين على شكل أفعى الكوبرا!

توالت الشعوب والحضارات المختلفة على أرض فلسطين لتساهم في تشكيل الشخصية الفلسطينية الثقافية بجوهرها الروحاني فغدت أرض الأنبياء ومهد الأديان السماوية, فكان للأدوميين يداً بارزة بالمحافظة على الإرث الإبراهيمي في الخليل.