• 11 كانون الثاني 2021
  • مقابلة خاصة

 

بقلم :  نبيل الانصاري

 

إنتقل إلى رحمته تعالى صباح هذا اليوم السبت 9/1/2021 الموافق ال- 5 من جمادى الأولى 1442 هجري  .. العم المرحوم الشيخ فهمي بن خليل بن بدر بن إسماعيل الأنصاري عن عمر يناهزُ 81 عاماً ودفن عصراً في مقبرة باب الرحمة بمنطقة باب الأسباط ..

.. هي الدنيا لا تبقي عزيزاً وساعات السرور بها قليلة .. رحمة الله على روحه الطيبة لأبو الفهد  وأسكنه الباري جل جلاله  فسيح جناته .. والتعازي الحارة نرفعها لعقليته أم الفهد وأولاده فهد ومحمود وطارق وكريماته أريج وإيناس وأماني ولجميع أهله وعائلته وعموم آل الأنصاري ومعارفه ومحبيه، راجين للجميع الصحة والعافية ومديد العمر والصبر والسلوان

يا سادةً .. في الحياة هناك أشخاص تتعرف وتلتقي بهم، يمرون مرّ الكرام في الذاكرة، وهناك أشخاص تعرفهم وتعمل معهم ولا يغادرون الذاكرة.

 وأستاذنا وعمّنا الكبير فهمي خليل بدر بن إسماعيل الأنصاري الخزرجي ابن ال - 81 عاماً ستبقى ذاكرته باقية وسيبقى علماً بارزاً وشامخا ً في مدينتنا الحبيبة .. فهو وبشهادة الخبراء والمطلعين يُعد مؤرخاً تراثياً مقدسياً مميزاً .. ليس فقط في مدينة القدس وإنما في كافة أنحاء الدول العربية والإسلامية وأرجاء العالم .. لقد ساهم الباحث البارز والمميز والأستاذ والمؤرخ فهمي خليل بدر الأنصاري في علمه وكتابته وتحقيقاته التراثية حول مدينة القدس في النهوض بمدينتنا الحبيبة من خلال أعماله الواسعة والتي تضمنت التحقيق والتمحيص والكتابة والإفادة عن المدينة وأخبارها وأحوالها، حيث أنه أفنى سنوات عمره لأجل الأجيال القادمة، ولخدمة الشعب والوطن، ولم ينتظر الشهرة ولم يسعى وراء المال، وبقي صامداً باحثاً تراثياً فذاً في إثراء المعلومات القيمّة حول مدينة القدس وتاريخها التليد .. 

بحث وكتب وصال وجال .. وفتح مكتبته "حصنه الثقافي الشامخ" ((بمخطوطاتها وكتبها بل وكتبه التراثية القيمّة والخاصة التي تتناول تاريخ المدينة وشخوصها وتاريخها وعائلاتها ومكاتبها ..)).

 وساهم الأنصاري في الحفاظ على تراث المدينة خصوصاً وتاريخ فلسطين بشكل عام من الزوال .. فقام خلال 50 عاماً من عمره ووقته بإقتناء وجمع الكتب والوثائق والمخطوطات الفريدة التي تعود لمئات السنين، والتي تبين كذلك المراحل التي مرت بها فلسطين وأهلها منذ القدم. ولديه ولدى عائلته مكتبة تراثية خاصة وهامة في آن واحد .. وكان المرحوم مولعًا بجمع وإقتناء الكتب التراثية النفيسة، حيث قام خلال الخمسين سنة المنصرمة بشراء وجمع النفيس من الكتب والمخطوطات والمجلات والصحف .. 

 

ويعدُ المرحوم المؤرخ فهمي خليل بن بدر الأنصاري من القلائل الذين تناولوا سجلاّت المحكمة الشرعية بالبحث والتمحيص والكتابة على مدار 50 عاماً  وكان وبحق استاذاً فريداً علّم من الأجيال الشابة في المدينة الأخلاق والقيم وحب العلم ورفعة الانسان بالعلم والصبر على الألم .. وكتب وحقق الكثير الكثير من الكتب الهامة التي تخصُ مدينتنا الحبيبة .. فمثلاً  في بحثه الهام حول مؤرخ مدينة القدس .. مجير الدين الحنبلي العليمي ..

 أثبت الأستاذ فهمي خليل بدر الأنصاري، وخلافاً لما كتبه وحققه الآخرون أن صاحب كتاب الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل .. مجير الدين العليمي مدفونٌ في مقبرة مأمن الله (ماميلا)  وليس في منطقة باب الأسباط حيث يربضُ ضريحٌ بإسمه .. يدلل على عظمته والخدمات الجليلة التي قدمها هذا المؤرخ مجير الدين للمدينة الخالدة بكتابه وسفره النفيس (( الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل)) خصوصاً وأنه عاصر وكان شاهداً على الأحداث التي حدثت وجرت في مدينة القدس أواخر العصر أو العهد المملوكي وبداية العهد العثماني ..

 

هذا الانسان الانساني البسيط المرحوم العم المتواضع يستحق منا أن نتوقف ونتأمل وأن ننصفه ونعطيه حقه، وذلك إنصافاً للحقيقة والتاريخ وإنصافاً للحقيقة العلمية ومن أجل أن تكون الأسطر التي أخُطها هنا بمثابة كلمة وفاء واعتبار لمبدعُ وإنسان شامخ من الشوامخ في مدينة القدس .. رجال ما عاهدوا الله عليه .. في زمن يعزُ فيه وجود رجال أصفياء أنجاد أنقياء القلب والنفس معاً .. لا بد من التذكير بأن هذا العبد الفقير لوجه الله وغيره من الأصفياء المرحومين يستحقون منّا التكريم والثناء لأنهم أعطوا وقدموا لأهل القدس الكثير الكثير وساهموا في نهضة المدينة وتطورها ..

   

المرحوم فهمي خليل بدر الأنصاري، هذا الباحث التراثي والمؤرخ المقدسي البارز بإمتياز .. إبن القدس البار، وبجهد شخصي رغم العوز والحاجة، أقام مكتبته الشهماء بعرق حبينه، وقام بشراء مراجع الكتب النفيسة وبنى مكتبة وطنية منذ عشرات السنيين، دون أن يلتفت إليه أحد، ودون حتى أن يشكره ويحيّي فيه هذه الروح الوثّابة .. هذه المكتبة ساعدت وزودت طلاب المعرفة وأتاحت لهم للتزود برحيق المعلومات وكتب المصادر والمراجع للدراسات الأكاديمية العليا  إنها مكتبة تراثية مقدسية تاريخية وطنية تضم عشرات الآلاف من الكتب ..  وجمال هذا المؤرخ العالم المقدسي يكمن بأنه كان طوال سنين عمره عوناً وصديقاً للبسطاء والفقراء والمهمشيّن والطبقة الكادحة، وإنني أجزم هنا بأن الفضل لا يعرفه إلا ذوه!!!

من أصدقاء المرحوم أبو الفهد وزواره الدائمين في المكتبة الأستاذ الشاعر فوزي البكري أبو إسلام أطال الله في عمره والمرحومين رزق الصفوري أبو دياب والأستاذ إبراهيم الحسيني أبو المعتز وإخوة عقيلته أم الفهد (حاتم أبو إبراهيم ومحمود أبو يعقوب ومأمون ومعتصم أولاد المرحوم إبراهيم المظفر).

حياته :

فهمي خليل بدر الانصاري من مواليد القدس 1940/5/26، ترعرع في مدينة القدس، ونشأ

في عائلة من والدين مسلمين مقدسيين ((حيث والداه هو الشيخ الجليل خليل بدر بن إسماعيل الأنصاري الخزرجي الدنفي "الولهان بحب الله"-وسادن المسجد الأقصى وقبة الصخرة في الفترة التركية والبريطانية))، له تسعة إخوة ذكور وأخت واحدة .أغلبهم وافتهم المنية..

بدأ دراسته الابتدائية في المدرسة البكرية، ثم التحق بعده مدارس في مراحل تعليمه المختلفة :

المدرسة البكرية، والرشيدية، والعمرية، وابو ديس. وقد انهى تعليمه الثـانوي فـي الكليـة

القبطية آنذاك، وكان لأسرته دوراً كبيراً في تشجيعه على القراءة، والكتابة  كما كان لبعض

معلميه دور في تمكينه من اللغة العربية ونجاحه ومنهم الاستاذ موسـى غوشـة والاسـتاذ زهـدي

النشاشيبي  ..

مؤهلاته العلمية :

التحق المرحوم بجامعة دمشق لدراسة التاريخ العام في عام 1963/64، فدرس لمدة سنتين فقط، ولكن لم يكمل دراسـته الجامعية لظروف الخاصة صعبة، ومنعه ضيق اليد من مواصلة تعليمه الجامعي في الـدول العربية والاجنبية .

سفراته ورحلاته :

زار فهمي الانصاري 36 دولة في اسيا واوروبا وافريقيا بهدف الاطلاع على واقـع الامـة

العربية والاسلامية وزيارة الاماكن الاثرية فيها .

واشتغل معلماً في المدرسة العمرية معلماً مدة ثمانية عشرة سنة، درس فيهـا جميـع

المواد الدراسية للمرحلة الابتدائية . أثناء عمله مدرسا اشتغل مساعداً لمدير كلية مكتبة الدعوة واصول الدين لمـدة احـد عشرة أشهر، وقام بفهرسة مقتنيات المكتبة، حيث كان يعمل بها ساعات محددة خلال فترة الشتاء.

في بداية 1982 عمل مع د. حمد احمد عبد الله يوسف على تأسيس قسم احيـاء التراث الاسلامي في بيت المقدس ثلاث سنوات بدون مقابل. في 1985 اشتغل في قسم احياء التراث الاسلامي، بعد تقاعده من مدرسة العمرية التي علّم فيها أكثر من 19 عاماً في الدراسة والتدريب

بمجال المعارف الاسلامية .

أعماله :

تراجم أهل مقبرة ماميلا 1986 .

 الصحابي الجليل عبادة بن الصامت، لمحة عن حياته وموضع قبره 1986.

الصحابي الجليل شداد بن اوس. لمحة عن حياته وموضع قبره 1986.

 العلاّمة المؤرخ مجير الدين الحنبلي العليمي (مؤرخ مدينة القدس والخليل- صاحب كتاب الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل) : حياته وموضع قبره ، 1986.

الاشراف على فهرس المخطوطات العربية المصورة : النحو والصرف.

 نور الدين زنكي في بيت المقدس.

 سلسلة مساجد القدس داخل السور:

 مسجد عمر بن الخطاب رضي الله عنه مقابل كنيسة القيامة 1993 .

 مسجد جامع ابي بكر الصديق، باب خان الزيت 1994 .

 مسجد السلطان برقوق 1994 

 مسجد الشيخ ريحان، ومسجد قلاون، والمسجد القيمري، في دراسة واحدة 1995 .

 وكتب قبل عامين الأستاذ عبد اللطيف زكي  أبو هاشم، مدير دائرة المخطوطات والآثار 

التابعة  – لوزارة الأوقاف في قطاع غزة حول المرحوم والمؤرخ والعّلامة المخضرم فهمي خليل بدر بن بدر الأنصاري، على شبكة التواصل الاجتماعية "الفيسبوك" ما يلي: 

".. لربما يتفاجأ البعض، عندما يعرف أن مؤرخ القدس -بلا جدال-  هو الأستاذ العلامة  فهمي الأنصاري أبي الفهد- حفظه الله وأدام عليه الصحة والعافية. والأنصاري هو سليل عائلة مقدسية أصلية من بيوت بيت المقدس العريقة، أجداده من العلماء وهو من عائلة تقدر العلم والكتاب . فلا عجب أن يكون أستاذنا الأنصاري كذلك.

في هذه العجالة لن أتحدث عنه، ولكنني سأتحدث عن مكتبته النادرة، التي لا يوجد مثلها في فلسطين ولا حتى في عالمنا العربي و الإسلامي.

مكتبة الأنصاري وما أدراك ما مكتبة الأنصاري ؟ هي لبنة الثقافة  العربية الفلسطينية في بيت المقدس يؤمها الباحثون والدارسون من أقصى الشمال وأقصى الجنوب في فلسطين ، بل أصبحت مقصداً للباحثين عن النوادر التي لا تتوفر إلا عند الأستاذ الباحث الكبير   فهمي الأنصاري –. وأنا أكتب هذه الكلمات أيفاءً  ولو بسيطاً في حق هذا الصرح الشامخ الذي كونه الأنصاري احترت من أين أبدأ أتحدث عن المكتبة أم عن صاحبها ومنشئها، فعندي أن الأنصاري هو الأهم وهو المؤسس لتلك المكتبة التي مكث أكثر خمسة عقود وهو يجمع كتبها من حبات عيونه، ومن قوته ومن معيشته أما الأنصاري فهو باختصار :  أستاذ قدير تفرغ فقط ليجمع مكتبة عربية في بيت المقدس ، وأهل القدس يعرفونه جيداً ، ودعني أخبرك عن صفاته فأولاً : علمه وثقافته الأنصاري مثقف ثقافة واسعة رحيبة اطلع على عشرات الآلاف من الكتب والمصادر ، والأنصار ممكن لا يجمعون الكتب فقط بل هو قارئ من الدرجة الأولى، كنا عندما نذكر حادثة أو طرفة أو أية قضية ترى الأنصاري قام وأحضر لك الكتب ليطلعك على المسألة وكأنه حديث عهد بالكتاب .

وهو رجل عصامي، في العقد التاسع من عمره لربما يزيد عن الثمانين بقليل. وقد هالني قبل فترة وجيزة  صورته عبر شبكة التواصل (الفيس بوك )، وهو يرقد خاضعًا للعلاج، فحزنت كثيرًا على هذا الإنسان الذي يحمل قيمًا إنسانية و أخلاقية قلّما حازها أحد.

وأول ما عرفت الأنصاري هو أنني رأيته في قصر أديب العربية محمد إسعاف النشاشيبي سنة 1987على ما أذكر، وكان قد استدعاه عميد الأدب العربي في فلسطين أستاذنا الدكتور إسحاق موسى الحسيني، ليتم مراجعة فهارس كتاب "الأنس الجليل" آنذاك, وقد بذل الأنصاري جهدًا كبيرًا في إخراج هذا الفهرس، و نوّه إلى عدة قضايا هامة قبل صدوره. بعدها تشوقت لأن أتعرف على الأستاذ الأنصاري و جئته بسبب قاسم مشتركٍ بيننا هو "حب الكتب"، فكلانا "ببلوماني" يعشق الكتب و يتحايل في جمعها و تحصيلها.

وقد شوقته إلى رؤية كتبي وزيارتي، ففعل، وإذا به يزورني في رام الله في نفس العام و بعد أيام قلائل, تفحص كل كتاب عندي، و سألني عن بعض منها، وكيف حصّلته؟ ومن أين؟ و طلب مني أن أزوده بنسخ منها، ففعلت.

وكنت كلما عثرت على كتاب أظنه نادرًا، ويستهويه أزوده به, ومن نوادر ما حدث بيننا، أنني كنت قد حصلت على نسخة أصلية من كتاب "براجيسترز" عن "علم نشر النصوص"، فأخذ الأصل، و أعطاني صورة، و قبلتها على الرحب والسعة لمعرفتي وتقديري لعشقه الشديد للكتب و مكانته الكبيرة عندي.

وكنت أتردد على المكان الذي أحياه بوجوده فيه، وهو "معهد إحياء التراث الإسلامي" في القدس الشريف (أبو ديس)، هذا المعهد الذي احتوى على ملايين الوثائق النادرة من وقفيات و مخطوطات ووثائق لم ترَ النور بعد. 

وقد نهل الباحثون و الدارسون الكثير من كتبه و نوادر مخطوطاته. و صوّر المعهد كل ما أحتاجه من مكتبة الأنصاري النادرة, وكنت أرى كيف يصعد المتسلقون على كاهل الأنصاري، وهو لا يأبه إلا بتحصيل الكتب ونشر العلم، و بالأخص كل ما يتعلق بالقدس. كما أنني زرته بعد أن استقال من المعهد، وكان في العقد السادس من عمره، لكنه لم يبلغ الستين، ورأيت كم احتشدت كتبه داخل بيته، و توزعت الرفوف بحيث لم يبق للمارة من بينها أي مسافة.

ودار حديث بيني و بين العلامة الأنصاري في بيته وعندما اطمئن لي و ارتاح قال لي: سأصارحك بشيء، لكن لي شرط واحد. قلت له: ما هو؟ قال: ألا تراجع بعدي ما أذكره لك. قلت له: تفضل. قال: أنت أعرت فلانًا الدكتور المبجل فلان مخطوطًا عنوانه كذا. قلت له: نعم صحيح. قال: لقد قاموا بعمل حفلة، و وصوّروا منه عدة نسخًا أرسلوها إلى عمان، منها نسخة للأمير حسن- شقيق الملك حسين – رحمه الله ، و نسخًا أخرى لشخصيات اعتبارية وبعض المؤسسات التي لها عناية بتراث القدس (كمؤسسة آل البيت، ومركز الابحاث والمخطوطات في الجامعة الأردنية)، ونسخًا أخرى لا أدري لمن- لينالوا حظوة ومكانة-  و طبعًا أنت لا تدري؟! قلت: نعم.

ودار بيننا حديث عن تراث القدس ومخطوطاتها النادرة، البعض منها نُشر حديثًا. ثم تطورت العلاقة الطيبة بيني و بين الأنصاري منذ 1987، و حتى مغادرتي لرام الله، سنة 1994، ولم تنقطع الصلة و التواصل بيننا عبر الهاتف و الجوال.

في ما بعد سنوات 1988 -1997 بحث الأنصاري عن مكان يضع فيه مكتبته العامرة التي تحتوي على أكثر من 20 ألفًا من الكتب و المئات من المخطوطات المقدسية النادرة و الوثائق والوقفيات التي لا تتوفر في مكان آخر. هذا عدا عن كل ما نشر و طبع في فلسطين منذ أوائل القرن العشرين من تراث و صحف و جرائد و مجلات, فلا يوجد جريدة طبعت، سواء استمرت أو لم تستمر، إلّا و حصّل الأنصاري أعدادها, فجريدة الفجر، و القدس، و الشعب، و الأنباء، و مجلات البيادر، و الأسبوع الجديد، وكل ما نشرته حركة الصحافة في فلسطين، شمالها و جنوبها، و الأرض المحتلة، إلّا واحتوته مكتبة الأنصاري.

وتم الاتفاق مع رئيس تحرير جريدة الفجر آذاك حنا سنيورة المقدسي, الذي خصّه بمكان تحت الأرض (تسوية) كان يتبع لجريدة الفجر، فجلب الأنصاري مكتبته العامرة، و ضغطها، و تحايل في ترتيبها ووضعها في هذا المكان.

 "ومن هنا بدأت الحكاية" حيث بدأ المثقفون و الباحثون وطلبة العلم يرتادون هذا المكان، وأصبحت أنا الزائر المعتاد كل يوم من الساعة الثالثة مساءًا أمضي ساعات المساء أمكث في مكتبة الأنصاري أنقر و أنبش و أنقب و أبحث، و قرأت و طالعت، و رأيت فيها كتبًا لم يسمع أكثر الناس باسمها، فقد اطلعني على مخطوط: (إتحاف الأعزة) لأول مرة تراه عيناي، وكان قد حصل على نسخة مصورة منه من جامعة حيفا بواسطة البروفيسور "بطرس أبو منة" وقد أهداه إياه تقديرًا لجهده وتعامله في تصوير كتاب نادر أذكر عنوانه: "الشقائق النعمانية في علماء الدولة العثمانية" ولم يكن هذا الكتاب النادر موجودًا إلا في خزانة فهمي الأنصاري العامرة . 

وكنت آنذاك منشغلًا بكتاب عن الكتب و المكتبات، فصورت ما أورده العلامة الشيخ عثمان الطبّاع عن مكتبة الجامع العمري الكبير، وكانت الصورة عن نسخة مطبوعة على الآلة الكاتبة عرفت فيما بعد أنها من طباعة شخص من عائلة شعث، فنسخة الجامع لم تكن النسخة الأصلية التي اكتشفها عند عائلة الطباع سنة 1994. لكن قسم العائلات (التراجم كان مصورًا لديه عن نسخة حيفا المصورة عن الأصل

وهنا لابد لي من أن أذكر مآثر هذا الرجل، لربما يظن البعض أنه مجرد جمّاع للكتب أو "ببلوماني" فقط, ولكن الأنصاري فوق هذه الصفات جميعًا، إذ لا يوجد كتاب في مكتبته إلا و اطلع عليه أو قرأه، أو له معه قصة, وكنت  تجد الكتب في مكتبته تعرف من خلالها أسماء الكاتبين و كتاباتهم، فهذا في نابلس، و ذاك في طولكرم، و آخر في جنين و حيفا،  وغيرها من مدن فلسطين، وكانت المكتبة هي حياة الأنصاري هي عالمه و متنفسه.

وكنت أحرص ألا يفوتني مجلس من مجالس الأنصاري و روّاد مكتبته العامرة، فمنذ الجلسة الأولى دخلت، فرأيت رجلًا مهيب الطلعة لم يتبق من أسنانه إلّا القليل, لبق الحديث، قوي الحجة، جهوري الصوت، مستحضرًا لكل ما قابل في حياته من أحداث و أشخاص ورجال، كأنه يقرأ  من كتاب، صوته يدل على صدقه، ونبرته قوية مشحونة بحب الدين و الغيرة على الوطن. ذلك الشخص هو الحاج عبد الله البديري سليل أعرق أسرة في بيت المقدس, وبيته كان مجاورًا و ملتصقًا بالمسجد الأقصى المبارك، و يُحسب من ساحته.

ولاحظت أن البديري – رحمه الله- يتحدث و يسهب في الحديث، وحديثه كله فوائد، وأذكر أن حديثه كان أول مرة عن جمال عبد الناصر وحصار الفالوجا والمفاوضات التي جرت، وكان يسرد، ويشهد ما دار في تلك المفاوضات و كأنه يقرأ من كتاب، فقد كان قارئًا لكل مذكرات ويوميات قادة الصهاينة و ما كتبه حكام العرب.

وكنت ألحظ الأنصاري-حفظه الله- حريصًا على راحة ضيفه البديري، ومطلعًا على ما يحب، فالقهوة لا تفارق يده، ليزود بها البديري، كما يضع في أنامله بين الفينة والأخرى سيجارة جديدة كان البديري قد فرغ من التي قبلها.

وهذا فنجان القهوة مع السيجار حيث يتبادل رشفة القهوة، ثم يأخذ نفسًا من التبغ يطول أو يقصر، وكنت أقابله في شرب أقداح الشاي، لربما أعادله في قهوته أو أفوقه, حيث أننا ونحن جالسون كنا نتعارف على بعضنا البعض. وكان بيدي كأسًا من الشاي لربما كان الكأس الخامس, وكان يلاحظني شخص عرّف على نفسه أنه فلان من عائلة "صب لبن" من الخليل ، فضحكت، وما امتلكت نفسي, فتبرم الرجل، و استاء مني، وقال: تضحك علىً لأنني من عائلة  صب لبن؟! ما هيّك من دار "صب شاي"!! يقصد من كثرة ما شربت!!

رحم الله الأنصاري والبديري، فقد تأثرت بهما وبحبهما للكتب والمكتبات والمخطوطات.

لا أقدرُ أن أرثيك ..

تتساقط من حولنا الكواكب وكأننا في زمن النهايات ..

وتتزعزع من شدَّة الاسى قلوبنا وكأننا ضلّلنا منذ أَمد كل طُرُق النور فداهمت عمق أعماقنا الظلمات!

رَحِم الله العم الأستاذ والعلاّمة والمؤرخ والباحث الجليل فهمي خليل بن بدر بن إسماعيل الأنصاري الخزرجي ابن القدس البار

"أبو الفهد" الذي يُعدُ وبشهادة الخبراء والدارسين من الكواكب المتلألئة في مدينة القدس الخالدة فهو سادنٌ وحافظٌ لتاريخها وتراثها الادبيَّ التليد الابديّ

ينازعنا في ذاكرك العطرة شعوران عميقان، شعور بالأسى والحزن واللوعة لغياب جسدك البهي الطاهر النابض بالحياة والحب للناس كل الناس .. حتى وإن ظلموا ..!

وشعور بالإعتزاز والإجلال والفخر لسيرتك الرفيعة ودربك المملوء بالعطاء ومحبة العلم وتقديم يد المساعدة للآخرين .. ومن سيبقى حتى إنقضاء الدّهور تاج إبداعاته الخالد 

رحم الله المؤرخ والعالم التراثي الكبير

رحم الله الكبير السامي المقام

كل الخلائق في الدنيا لها أجلٌ – بذا قضى اللهُ في القرآن من سُننٍ

فكلُ من فوقها فانِ ومرتجلٌ – لكن يدومُ له من فعله الحسن

ما كان من نافع للناس قدّمهُ – قبل الرحيل، وقبل القبر والكفنٍ

كذلك ذكراك - أيها العم المُلهم – عاطرةٌ .. ذكرى الأكارم تبقى طيلة الزمنٍ

وكيف ننساك والأيامُ شاهدة – قد كانت (القدسُ مدينتنا الحبيبة) للأفاضل المبدعين كالفنن

عليك منا سلامُ الباري عز وجل أرسلُهُ – ما دمتُ حيّاً، وتسري الروحُ في أبداننا

مهما تقادمت الأيامُ يا علماً شامخاً – تعيشُ ذكراك في سرّي وفي العلنٍ

بوركت .. وبورك ما قدّمت من أثر – له الخلودُ على الأيام والزمن ..

أيها العم المرحوم .. أيها المُلهم .. وداعاً .. أيها الحامل أمانة البقاء ..

رحمة الله عليك وعلى روحك الطيبة وإلى جنات الخلد مع الأنبياء والصديقين وحسن أولئك رفيقاً