• 25 آب 2018
  • ثقافيات

 

 

  القدس - أخبار البلد - كتب الصحفي  سليم البيك من باريس الى صحيفة ” القدس العربي“ مقالة عن كتاب جديد  يحمل عنوان ” ايحمان في القدس… تفاهة الشر ”

 لن يجهد أحدنا كي يجد في أعمال فنّية (أو سياسية أو فكرية) فلسطينية وعربيّة مقاربات بين النازية والصهيونية، فمقاربات كهذه وعى لها الفلسطينيون باكراً، ربّما لتمركز ثورتهم المعاصرة ضمن التيار اليساري والثوري العالمي في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، نذكر من هذه المقاربات، الآن، فيلماً تسجيلياً للمخرج الفلسطيني مصطفى أبو علي هو «ليس لهم وجود» (إنتاج: مؤسسة السينما الفلسطينية – 1974)، حيث تتكرّر الإشارات في هذا الفيلم القصير (26 دقيقة) إلى النازية كتوصيف دائم لسلوك الجيش الإسرائيلي الذي تناول الفيلمُ قصفَه لمخيمات فلسطينية جنوب لبنان.
لكن العلاقة بين النازية والصهيونية لا تقتصر على كونها موقفاً وطنياً وتقدمياً لفلسطينيين وعرب يعتبرون كل أشكال الاضطهاد ضدهم وبشكل مبدئي، بدون الحاجة لحقائق واقعيّة تعزّز هذا الموقف الأخلاقي، وبدون النّظر في مَن يكون المضطَهَد، ما يمكن أن تلخّصه فكرة إدوارد سعيد بأنّ الفلسطينيين هم «ضحيّة الضّحية».
في كتابه «العرب والمحرقة النازية» (الساقي – 2010)، يشير جلبير الأشقر، بالحقائق والأرقام، إلى تلك العلاقة، ذاكراً أن «استيلاء النازيين على السلطة في عام (1933)، الذي تلاه التنفيذ التدريجي لبرنامجهم المعادي للسامية، في ألمانيا وحدها أولاً ثم في أوروبا كلها، كان أكثر بكثير من مجرد الدافع للهجرة اليهودية إلى فلسطين. فقد كان العامل الحاسم الذي أعطى صدقية للدعاية الصهيونية وسمح بتحقيق المشروع الصهيوني وسمح، في نهاية المطاف، بانبثاق دولة إسرائيل». 
وكما أن النازية كانت «العامل الحاسم» الذي أدى أخيراً إلى انبثاق دولة الاحتلال على أرض فلسطين، ما نستدلُّ إليه بدراسة الواقع السياسي والاجتماعي لأوروبا آنذاك، وتحديداً لما تعرّض له اليهود من اضطهاد ثم إبادة على أيدي النازيين، فإنّ الاستنتاج ذلك لم يأت فقط لالتقاء عوامل أدّت إلى الهولوكوست، الذي أدّى بدوره إلى النّكبة.
في كتابها «أيخمان في القدس… تفاهة الشر» (الساقي 2018) تشير حنّة أرندت في الفصول الأولى إلى علاقات وثيقة بين النازية والصهيونية، وذلك لغاية واحدة هي بالنسبة للطرف الأول «تطهير» ألمانيا والرايخ من اليهود، وبالنسبة للثاني «تهجير» اليهود إلى فلسطين.
في الكتاب الذي كتبته أرندت كتقارير لمجلة «نيويوركر» عام 1963، من القدس حيث حضرت محاكمة أدولف أيخمان، الذي كان مسؤولاً عن ترحيل يهودٍ إلى معسكرات الاعتقال، وبالتالي إبادتهم، تشير في أكثر من فصل إلى تلك العلاقة التي لم تُحدَّد بتقاطع مصالح وحسب، بل بتنسيق متبادل. اتّخذ تناولُ أرندت لذلك مبتدأً هو إعجاب أيخمان بالصهيونية (في كتاب هيرتزل أساساً «الدولة اليهودية»)، ولقاءات مبكرة له مع صهاينة، أمّا إعجابه هذا فكان «لمثاليتهم»، وكان لأيخمان تساؤل ومساهمة في «وضع بعض الأفكار الرئيسية عن كيفية نقل أربعة ملايين يهودي من أوروبا عبر البحار، مبدئياً إلى فلسطين»، لرغبة أيخمان، كما صرّح خلال التحقيق المكثّف معه، الذي سبق المحاكمة بأنّ «الحل الذي تخيّلتُه كان وضع أرض ثابتة تحت أقدامهم». تُعلّق أرندت بأنّ ذلك كان «السبب الحقيقي للتعاون معاً، ولاعتماد عمله مع اليهود على المنفعة المتبادلة، وفي حال كان المسؤولون اليهود مثاليين، أي صهاينة، فقد احترمهم أيخمان وعاملهم كأنداد له وأصغى إلى كل طلباتهم وشكاواهم ومناشداتهم للمساعدة». و«لم يكن أيخمان وحيداً في أخذ تأييد الصهيونية على محمل الجد». «فالأكيد والثابت خلال المراحل الأولى من سياسة القوميين – الاشتراكيين (أي النازيين) اليهودية أنّهم أيدوا تبني مواقف مؤيدة للصهيونية». 
تقول أرندت بأن «الصهاينة وفق النازيين كانوا هم اليهود الجيدين، إذ كانوا يفكّرون على أسس وطنية»، ذلك أنّ الصهاينة يعتقدون أن «الانفصال المقرون بهجرة اليهود إلى فلسطين وبقدرات الرأسماليين اليهود سيؤدي إلى تثبيت حل عادل متبادل بين الطرفين». وكان ذلك أساس التعاون بين الطرفين لإيمان «العديد من المسؤولين الألمان بهذا الرأي حينذاك». فتواجدت «خلال السنوات الأولى اتفاقية تعاون متبادل بين السلطات النازية والوكالة اليهودية من أجل فلسطين، مرضية للغاية لكلا الطرفين».
ولم تكن الهجرة إلى فلسطين، أو التهجير ليهود أوروبا سياسة فوقية اتفقت عليها نخبة صهيونية ونازية، بل كانت رغبة عامة لدى لاساميين أوروبيين آنذاك، إذ نقلت أرندت عن أحد الشهود متحدّثاً عن الترحيل في بولندا أنّه «كانت الطرقات سوداء وفيها ناس يصرخون: أيها اليهود أخرجوا إلى فلسطين»، وهو ما أراده الصهاينة آنذاك.
تعرّضت أرندت لهجوم شرس من قبل إسرائيليين وصهاينة بسبب كتابها، أساساً بسبب عموم مقاربتها لمحاكمة أيخمان ولطعنها في عدالة أن يُجري المحاكمة القضاءُ الإسرائيلي، ولحديثها كذلك عن تعاون ممثليّات اليهود آنذاك مع النازيـــة وعدم مقاومة الاعتقال والترحيل والإبادة، بل تسليم بعضهم لبعضهم الآخر، لكن كذلك للإشارة بشكل مباشر لتعاون بين النازيين والصهاينة من جهة، ولالتقاء اللاسامية الأوروبية مع فكرة الخروج من أوروبا إلى فلسطين، رغم أن ذلك لم يكن الموضوع الأساسي في هذا الكتاب الذي حاولت فيه أرندت، قبل أي شيء آخر، تفسير الدور الوظيفي للشر والبيروقراطية كأداة قتل، ومعنى الجريمة حين تكون قانونية، أي بقرار من الدولة – أو هنا: الفوهرر- فالجريمة هنا سياسة دولة، وهي بالتالي قانونية، إن لم تكن واجبة، وهذا تماماً ما أسّست إسرائيلُ عليه وجودَها، وماتزال تفعل.