• 18 أيلول 2018
  • ثقافيات

 

 

  القدس - أخبار البلد- نشرت صحيفة القدس العربي قراء ة  للكاتب محمد تركي  الربيعو حول كتاب ” القرابة الحقة “  وكما اطلق عليها الكاتب مدينة اولاد العم ويسعد ”أخبار البلد“ ان تقوم بإعادة نشر هذه القراءة

تروجُ سردية نمطية؛ أو لنقل سردية درامية حول الزواج في الشرق الأوسط؛ وتتمثل هذه السردية بأن مجتمعات هذه المنطقة قد عرفت زواج الأقارب بكثرة. فابنة العم هي لابن عمها كما يُقال، ولا مكان للغريب في حياة الأُسر وممتلكاتها علاوة على بناتها. وربما لعبت الصورة الدرامية والمسلسلات دورا كبيرا في نشر هذه الصور داخل المخيال الشعبي في العقدين الماضيين، إضافة إلى أنه لا يمكن تجاهل أن بعض القبائل والمجتمعات الريفية، لوحظ فيها هذا النمط من الزواج الداخلي في العقود القليلة الماضية، وهو نمط من الزواج كان وما زال رهين الظروف التاريخية، كما أنه جاء نتيجة، أو تبدلا في لغة هذه المجتمعات الصغيرة مع المحيط والبيئة والجماعات المحلية التي تحيط بها.
فالزواج هو نوع من أنواع اللغة كما يرى الأنثربولوجي الفرنسي كلودليفي شتراوس، ولذلك نجد مثلا أن الكثير من القبائل والعشائر السورية التي انتشر فيها في وقت متأخر من القرن التاسع عشر وإلى فترة طويلة من القرن العشرين زواج ابناء العم، كانت قد مارست الزواج الداخلي (الأقارب) والزواج الخارجي مع القبائل المجاورة، في بداية استقرارها؛ لكن ما أن ترسخت أقدامها في الأرض حتى عادت هذه الجماعات لتمارس الزواج من بعضها تمتينا لوضعها الداخلي كوحدة سياسية.
كما أنه بالإضافة إلى الصورة الدرامية، لا بد من الإشارة إلى أن فترة الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، شهدت اهتماما كبيرا من قبل الأنثروبولوجيين والمؤرخين بدراسات القرابة في الشرق الأوسط، وكان لهذه الدراسات دور كبير في نشر أسطورة الزواج بابن العم، الذي كان يجري، وفقا لهذه الدراسات، للإبقاء على الملكية داخل العائلة، أو لضمان التحالفات السياسية والانسجام والألفة داخل العائلة. ولعل من بين الأطروحات الأنثروبولوجية التي نالت رواجا في هذا السياق، أطروحة الأنثروبولوجية الفرنسية جيرمين تيلون «الحريم وأبناء العم» وهي ثمرة أبحاث أثنوغرافية أعدتها الباحثة في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين؛ إذ لاحظت تيلون أن المناطق الحضرية شهدت تغيرا في أنماط الزواج، فالعديد من المثقفين المغاربة الذين التقتهم آنذاك كانوا يعبرون عن رفضهم للأفكار البالية المتعلقة بزواج الأقارب، كما سُجِّلت نزاعات عائلية بين تقليد الزواج الداخلي والنزعة الفردية. مع ذلك ترى تيلون أن هذه المواقف هي مواقف حديثة وتبقى استثنائية، فعند العودة إلى الحياة العادية نجد، وفقا لها، أن الزواج النموذجي هو الزواج من بنت العم، والرغبة في الاحتفاظ بجميع فتيات العائلة لذكورها، وعدم التصاهر مع نسب خارجي إلا إذا اقتضت الأمور ذلك. وإذا جمعنا بين هذه الدراسات والرؤى الدرامية نجد أن صورة عائلات المدن شرق الأوسطية في فترة ما قبل الحداثة كانت مُتخيّلة كالتالي: أب وإلى جانبه زوجة صغيرة وأخرى كبيرة (بنت عمه في الأغلب)، وربما أكثر من ذلك، وعدد من الأطفال يسرحون بالقرب منهم، وغالبا ما يتراوح عددهم من 7 إلى 10 أطفال.

إعادة تركيب صورة العائلة العثمانية

في مقابل هذه الصورة النمطية، التي ما تزال سائدة إلى يومنا هذه، أعاد عدد من الباحثين المهتمين بتاريخ المدن العثمانية النظر في هذه الصورة، أو بالأحرى أعادوا تقميش المشهد من جديد؛ ليكشفوا لنا عن مشهد تاريخي أكثر حيوية ومرونة على مستوى أنماط الزواج (داخليا/خارجيا)، أو على مستوى تعدد الزوجات، والأغرب من ذلك على مستوى عدد الأطفال في كل أُسرة.
وكمثال على هذه القراءات الجديدة أشير إلى كتاب «القرابة الحقة: العائلة والمجتمع في حلب العثمانية 1770ـ1840»، ترجمه خالد الجبيلي، الذي صدر قبل سنوات عن دار شعاع الحلبية. بيد أنه كحال عدد من الترجمات المهمة التي أصدرتها الدار، لم يستطع أن يرى النور إلا من فترة قريبة في ظل الحصار الذي عاشه مع أهل المدينة خلال السنوات الماضية. لن أبالغ إن قلت، إن المؤرخة الأمريكية مارغريب ميريويذر، تعيد في هذا الكتاب قلب الصورة التقليدية للعائلة شرق الأوسطية، أو بالأحرى للعائلة المُتخيلة الدرامية. إذ نكتشف معها أن العائلة الحلبية لم تكن تعتمد على زواج أبناء العم بأعداد كبيرة، كما أن الرجال الحلبيين لم يتزوجوا بكثرة من زوجة ثانية، وأن عدد الأطفال داخل العائلات لم يكن كبيرا.

أسطورة الزواج من ابن العم:

وبالاعتماد على سجلات المحاكم الشرعية لمدينة حلب، فإن الزواج من أبناء العمومة لم يكن شائعا في الماضي. فما تلاحظه المؤرخة أنه من بين 665 اختيارا زوجيا، كان 24٪ منها من أبناء العمومة. وكان الأعيان الأكثر ممارسة له (وهذه صورة مغايرة للصورة التي تربط بين زواج أبناء العم والفقراء أو العامة). ويلاحظ أن نسبة الزواج بين أبناء العمومة داخل عدد قليل من العائلات عالية تصل إلى 70٪. فكان في 6 عائلات خمس زيجات من أبناء العمومة أو أكثر: الجزماتي والميري وقرنة وأبري وطه ويكن، وهنا نجد أن أربع من هذه العائلات كانت من بين أكبر عائلات التجار وأكثرها ثراء في المدينة. كما نجد أن من العائلات التي بلغت فيها نسبة الزواج بين أبناء العمومة أعلاها هي عائلة آل طه، وهي عائلة علماء؛ ومما تلاحظه المؤرخة في هذا الشأن أن هذه العائلة تعد من العائلات القديمة وتعود إلى القرن السابع عشر، ما يوحي بأن احتمال اختيار الزواج بين أبناء العمومة كان أقوى بين العائلات الأقدم، في مقابل العائلات الصاعدة التي كانت بسبب حاجاتها إلى إقامة تحالفات تلجأ إلى الزيجات من خارج الأسرة في سبيل التوسع.

وماذا عن الزواج من أكثر من امرأة؟

كان عدد من الرحالة الأجانب الذين زاروا سوريا أو استقروا فيها قد أشاروا، في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، إلى ندرة الحالات التي تتعد فيها الزوجات. فقد ذكر الكساندر وباتريك راسل في كتابهما «تاريخ حلب الطبيعي في القرن الثامن عشر» أنه رغم سماح الشرع بتعدد الزوجات، فإن عددا قليلا من الرجال في حلب كان متزوجا بأكثر من زوجة واحدة، وعزى ذلك غالبا إلى النفقات المترتبة عنه. وكان وجود عدد كبير من الحريم عادة من ميزات الرجال الأكثر ثراء والأكبر سنا. وفي سياق آخر كان المستشرق حاييم جيربر قد بيّن من خلال دراسة عينة مؤلفة من ألفي رجل في مدينة بورصة في القرن الثامن عشر، أن عشرين رجلا فقط (1٪) كان متزوجا من أكثر من زوجة واحدة عند وفاته. أما في القرن التاسع عشر، فتتوفر أدلة مفصلة وموثقة أكثر عن تعدد الزوجات في شكل بيانات إحصائية عن السكان. وعند تطبيق هذه البيانات على مصر وجد كينيث كونو في دراسة له بعنوان «أسر الأعيان الريفية المصرية 1847ـ1868» أن 10٪ من الأسر فيها تعدد زوجات في قرية بدوي في الدلتا. أما في إسطنبول فقد كشف عدد من المؤرخين في تاريخ الأسر التركية أن نسبة تعدد الزوجات في أسطنبول في نهاية القرن التاسع عشر كانت تقل عن 3٪ من مجموع الزيجات. 
وبالعودة إلى حلب، تُبين مؤلفة كتاب القرابة الحقّة أن البيانات المتعلقة بتعدد الزوجات في حلب كانت قريبة من البيانات في بورصة وإسطنبول. فمن بين عينة تضم 270 عائلة، نجد أن 6٪ فقط من الذكور كان لهم أكثر من زوجة واحدة، بينما كان لدى أقل من 1٪ أكثر من زوجتين، لكننا لا نعرف بدقة إن كان لديهم أكثر من زوجة واحدة في الوقت ذاته. وكان تعدد الزوجات مُركّزا في عدد قليل من التجار الأغنياء وعدد من الرجال الطموحين، وفي المقابل نجد أن نسبة الطلاق كانت منخفضة كذلك.
وبالاعتماد أيضا على سجلات الميراث، تشير المؤرخة إلى أن حجم الأسرة بين مجموع السكان كان صغيرا. إذ لم يتجاوز متوسط عدد الأطفال في الأسرة الزوجية 3.3، وهو قريب من متوسط عدد الأطفال في بورصة في القرن السابع عشر الذي كان بنحو 2.15.
ولدعم فكرتها حول محدودية حجم الأسرة في حلب، تستعين بملاحظات القنصل الفرنسي في حلب، التي كتبها في العقود الأولى من القرن التاسع عشر، إذ أشار الأخير إلى أن الأسرة المسلمة كانت صغيرة وتتألف عادة من الأب والأم وطفلين أو ثلاثة أطفال، وفي بعض الأحيان كانت تقيم الأم أو الخالة أو أخت الزوج/الزوجة مع الأسرة.
ورغم أن الباحثة لا تنفي أنه كان لبعض العائلات عدد كبير من الأطفال، كما في حال عائلة عبد الوهاب الشريف 13 طفلا، أو عائلة الحاج موسى أميري 11 طفلا، إلا أن العائلات الكبيرة كانت نادرة. وفي حين كان ارتفاع معدل الوفيات يشكل العامل الأكثر أهمية في تفسير هذا الحجم، بيد أنها تشير كذلك إلى عوامل أخرى كالقيود على الخصوبة؛ فالمعرفة بوسائل منع الحمل واستخدامها كان شائعا، على الأقل عند بعض السكان في المدن، وانخفاض متوسط العمر المتوقع، وهذا يعني أن الناس يموتون وهم في متوسط عمرهم الإنجابي، الأمر الذي كان يؤثر على معدلات الخصوبة، ويؤدي إلى تشكل عائلات صغيرة، خلافا لتلك الصورة النمطية التي تتحدث عن عشرة أطفال وأكثر في كل عائلة.