• 18 تشرين أول 2018
  • ثقافيات

 

 

بقلم : ابراهيم نصر الله 

 

لا شيء يبدو براقا وجميلا وآسرا مثل العناوين العريضة، الكبيرة، التي تحمل أفكارا نبيلة، وليس هنالك ما هو خادع مثلها أيضا. فالعناوين العريضة سهلة، لا تتطلب شرحا لمن يحتاج إلى شرح، ولا لتحليل لمن لا يريد أن يفهم أكثر؛ إنها المُسلَّمَات، القواعد العامة المتّفق عليها، إنها الاختبار العام الذي يعرف الجميع إجاباته، الاختبار الذي لا يمكن أن نرسب فيه! لا لشيء إلا لأننا نعرف الحلّ، نحن الذين لم نفتح كتاب هذا العنوان، ولم نتأمل جوهره، ولم نكلف أنفسنا أدنى حدّ من العناء لنرفع طرفه ونرى ما تحته، وهكذا نعيش فرحين بسطحه، كما يعيش أي شخص فرحا بالبحر وهو يتأمل هدوء مياهه أو ثورتها، مستريحا، لا يخطر بباله أن يسأل: هل هنالك شيء ما تحت السطح؟ وهل هنالك شيء ما بعد الأفق؟
هكذا نعيش حياتنا واثقين من أننا عشناها كما يجب، رغم أننا لم نعش شيئا منها، ونموت في النهاية راضين. حولنا كثير من الطيبين الذي يعددون مناقبنا في المجالات كلها: الوطنية، والإنسانية، والروحية، ويستفيضون في مديحهم للمدى الذي بلغناه في تصالحنا مع ذواتنا ومع ما حولنا؛ في حين أننا في الغالب الأعم، كنا متصالحين مع العناوين العريضة المتعلقة بالمبادئ الكبرى، لا مع تفاصيل هذه العناوين وجذورها العميقة.
نبدأ بالوطني، فتكتشف أن الجميع يحبون أوطانهم، ويكتفون بهذا حقيقة لا جدال فيها، حقيقــة راسخة، بحيث لا يُسمح لأحد أن ينال من وطنيتــهم هذه؛ لكن الواحد منهم في الحقيقـــة لا يسأل: كيف أحب وطني؟ إنه يحبه ولا شيء غير ذلك، وكأن الحب نفسه هـــو كل ما هو مطلوب منه، وكما لـــو أن الوطـــن كائن كبــير وعملاق، يستطيع أن يعيش مكتفيا بنفسه، فلا هو بحاجة إلى يد تمتد إليه لتفتح له باب المستقبل لتبنيه، وتفتح المدى لأطفاله، أو تحافظ على نظافة أي شارع أو ساحة فيه.

ويدافع الناس عن الأرض، ويحبونها، الأرض باعتبارها عنوانا عريضا جميلا براقا أصيلا، لكن الخروج من هذا العنوان والنزول إلى عنوان فرعي صغير، يبدو أمرا غريبا بالنسبة لهم. إنهم مستعدون لترديد عبارة مثل: نموت من أجل الأرض. لكن الدفاع عن الطبيعة نوع من البذخ! فإعدام غابة أو عدة أشجار، بما يعنيه من إفناء لحياة كاملة تحتضنها هذه الغابة، أو تلك الأشجار، أمر لا يستحق عناء الدفاع عنه، وكأن سيدتنا الأرض هي أكبر من أن تَنقُص، وأكبر من أن تموت، سواء اجتُزَّتْ أعناق غاباتها وكذلك سيقانها، أو أطبقت البنادق والشِّباك على قلوب طيورها وكائناتها.
يبدو الإنسان في هذه البقعة قانعا بصورة مرعبة: أن العالم بخير ما دام هو بخير، ما دام حيا وقادرا على الحصول على وجبته التالية من أقرب سوبر ماركت أو دّكان، والضوء الكافي لإضاءة ليله منذ اللحظة التي تغيب فيها الشمس. أما من أين تأتي الوجبة أو خيط النور، فمسألة لا ضـــرورة للتفكير فيها، ما دامت موجودة.
وعلى الجانب الآخر، نبدو قانعين بإنسانيتنا، بل وواثقين بها، سواء أكنا نهلناها من تربيتنا أو من ثقافتنا السائدتين أو معتقداتنا الدينية. وفي أحيان كثيرة نبدو مغرورين باتساع إنسانيتا هذه، وكأننا شمس هذا العالم، العالم الغارق كله في العتمة، ونحن النور! وكأن كل ما هو خارجنا على هذه الأرض ملعون بفقدان إنسانيته! مع أننا منخورون بعنصريات من كل لون.
لكننا تحت هذا العنوان العريض لا يخطر ببالنا أن هنالك تفاصيل أخرى وجذورا؛ فكل واحد منا لم توجد الحرية إلا من أجله، وكأن لا آخرين سواه، وهنالك حقه الكامل في الاعتقاد، وحقه الكامل في الكلام، والملابس، والطعام والشراب، وحقه الكامل في الاجتهاد أو الاختلاف.
إننا باختصار: شموليون، طيبون، أشرار.
ولكن هل هذه حقيقتنا؟ أم أن هذه هي الصيغ المرخّص لنا بها، الصيغ التي يُسمح لنا بالتحرك في عمومياتها والعيش، موهِمين أنفسنا، وقابلين بهذا الوهم المفروض علينا؟ هل التزامنا هذا هو رضانا عن أنفسنا، أم حرصنا على أن تظل الأنظمة، والعائلة، والمجتمع والبلادة التي قايضناها بالبلاد راضية عنا؟!
في واحد من الأفلام الفرنسية الجميلة جملة تقول: إذا أردت أن تعرف حقيقة الناس أشعل حربا.
هل لهذا تحولنا-نحن عبيد العناوين العريضة الجميلة-إلى قتلة بهذه السرعة في كل مكان وضعت فيه البنادق في أيدينا وأتيح لنا فيه أن نُطلق الرصاص؟!
وبعد:
لو أنَّ الريحَ أتتْ تسألُنا أن تتفجَّرَ أو تهدأْ
لو أن الأشجارَ على التلِّ أتتْ تسألُنا أن تَخْضَرْ
لو أن العصفورَ لكي يُنشِدَ طالعنا يلتمسُ العُـذْرْ
لانطفأَ العالمُ وبقينا
غرباءَ معا.. في هذا القَــبرْ

عن القدس العربي