• 23 كانون أول 2018
  • ثقافيات

 

بقلم : حسام الدين محمد

قدّم الكاتب البريطاني وعالم الحيوان ديزموند موريس، في كتابه «القرد العاري» الصادر عام 1967، تحليلا طريفا وفريدا لسلوكيات الإنسان. الفكرة كانت أن سلوكياتنا كبشر يمكن فهمها أفضل بمقارنتها بسلوكيات الرئيسيات الكبرى، خصوصا الـ192 نوعا من القرود والسعادين. والنتيجة أن موريس قدّم تشابهات مذهلة بين عالم الرئيسيات والإنسان في السلوك الجنسي، وطرق تربية الصغار، وأساليب الاستطلاع، والقتال، وطلب الطعام، والنظافة وغير ذلك.
رأى الكاتب أن هذه التشابهات الكبيرة ستساهم في استيعاب ظواهر يصعب علينا فهمها في سلوكيات البشر، وتفسّر قضايا يظنّها البشر «طبيعية» (مثل الزواج الثنائي الذي يعزوه الكاتب للتطور البيولوجي والحوافز التي صنعها نظام الصيد). خصائص «القرد العاري»، حسب موريس، فريدة لكونها ورثت سلوكيات «الأسلاف» وقامت بتعديلات عليها. لم تؤثر الحضارة المعاصرة، التي هي أحد هذه التعديلات، على أغلب نظم سلوكنا إلا قليلا جدا «لأن الأمور جرت بسرعة وفجائية بأكثر مما يستطيع التطوّر البيولوجي أن يعدّله». ليست صدفة مثلا أن تجد النظام الديكتاتوري سائداً بين البشر، حين تعلم أن النظام الاجتماعي لدى القرود هو نظام طبقات، يبقي أحد الذكور مهيمنا على الجماعة بينما يتدرج الآخرون وراءه في السلم الاجتماعي. هناك دائما فرد مستبد ولكنه، في بعض أنواع الغوريلا أحيانا، «مستبد عادل» (حسب المصطلح العربيّ البائس) يسمح بتقاسم الإناث مع الذكور الأقل شأنا، وسخي في توزيع الطعام إلا في حال الطوارئ التي تستلزم أن يحتفظ به لنفسه! وعليه ليس غريبا إذن أن نجد استمرار لهذا النظام لدى البشر.

من السلوكيات الشديدة الأهمية الناتجة عن «الحضارة» أن وظيفة العداء، في أنواع الحيوانات الرئيسية، هي الإخضاع وليس قتل العدو، وغالبا ما تنتهي المجابهات في عالم الحيوان بتسوية النزاع، لكنّ هذه الوظيفة تقلّصت لدى البشر عندما توقفت المجابهة الشخصية وصار الهجوم من مسافات بعيدة، والنتيجة هي مذابح رهيبة لا مثيل لها لدى الأنواع الأخرى. من المثير للسخرية، يقول الكاتب، إن دافعنا الفطري للمذابح هو مساعدة رفاقنا الذين يشبهونا، في الوطن، أو العرق، أو الدين، أو القبيلة الخ… وبما أن نزع الشعور «الوطني» من الإنسان هو عمل ضد طبيعتنا البيولوجية الرئيسية، فإن هذا الأمر قد يؤدي إلى انقراض نوعنا: الجنس البشري في ورطة وهناك احتمال كبير أن ندمر أنفسنا. على عكس موريس فإن الأمريكي ألفن توفلر، كان أحد الذين استشرفوا مبكرا التحولات المستقبلية الكبرى الجارية وأثرها على سلوك المجتمعات البشرية.
حلل توفلر في كتابه «موجة الحضارة الثالثة» (1980)، آثار حضارة المعلومات والاتصالات التي نعيشها حاليا، وفصّل نتائج التغييرات الهائلة المترافقة معها على النظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، كما قام في كتابه اللاحق «انتقال القوة» (1990) بدراسة النفوذ الهائل لاجتماع المعرفة والثروة مع العنف.
يقفز ماكس تيغمارك في كتابه «الحياة 3.0» قفزة أكبر حتى من توفلر، وفي حين يقدم في بداية كتابه سيناريو متخيلا لقيام مجموعة من العلماء بتطوير «الخطة الأكثر شجاعة في تاريخ الجنس البشري». المهمة سرية جدا ولو عرفت أي حكومة في العالم بها فإنها قد تقوم بخطف العلماء أو إقفال المشروع أو سرقته. تقوم الخطة على إنشاء مجمع للذكاء الاصطناعي Artificial Intelligence قادر على تمثل قدرات العقل البشري ثم تجاوزها. النتائج، حسب السيناريو المتخيل، هائلة لأنها ستغير الاقتصاد والسياسات نحو عالم بلا حروب يحقق أفضل الخدمات الاجتماعية والتعليمية والبنى التحتية، وهكذا تقود العالم قوة واحدة ممثلة بذكاء متقدم جدا بحيث يسمح للناس بالعيش مليارات السنين بسعادة على الأرض.
حسب «الحياة 3.0» فإنه في النسخة الأولى من الحياة كان تطوّر الكائنات الأولى بيولوجيا بحتا، وفي نسخته الثانية تدخلت الثقافة ونشأت الحضارة الإنسانية، أما في النسخة الثالثة فسيمكن تغيير «الهاردوير» (جهاز التفكير) و«السوفتوير» (الثقافة) عبر التكنولوجيا، وبذلك نصل إلى «الانسان السوبرمان» فهل هذا أمر جيد أم سيئ، يتساءل الكتاب؟
يخبرنا تيغمارك أنه تمكن من جمع فريق من كبار المختصين في المجال والفاعلين الكبار ومديري الشركات العملاقة أو المتخصصة في الذكاء الاصطناعي مثل «Deemind»، غوغل، فيسبوك، أبل، آي بي إم، مايكروسوفت وبايدو، واقتصاديين كبار، وقانونيين، فلاسفة ومفكرين التقوا جميعهم عام 2015 وساهموا في تأسيس «مؤسسة مستقبل الحياة». تعاملت الصحافة مع هذا المؤتمر بمخاوف كبيرة مستفيدة من تصريحات مثل أن «الذكاء الاصطناعي هو الشر المقبل» الذي قاله صاحب شركتي تسلا وإكس سبيس الشهير أيلون ماسك، رغم أنه كان من أكبر المستثمرين في المشروع، وكان المؤتمر اللاحق عام 2017، من دون صحافيين، كما خصص جزء كبير منه لبحث الضمانات ألا تؤدي نتائج البحث في الذكاء الاصطناعي إلى ذاك «الشر المقبل». لا نحتاج بحثا كبيرا لنكتشف جانب الاستخدام الشرّير في موضوع الذكاء الاصطناعي، فأخبار «الترولز» Trolls التي استخدمتها روسيا في التدخّل في الانتخابات الأمريكية صارت معروفة في العالم، وموضوع «كامبريدج أناليتيكا»، الشركة التي استخدمت المعلومات الرقمية ووسائل التواصل لأغراض سياسية خبيثة (ما أدى لسقوطها) معروف أيضا.

 

حوّلت الصين هذه الإمكانيات العلمية الكبيرة إلى سياسة فرز عنصري وطبقي هائل: باستخدام الكاميرات ووسائل المراقبة والتحليل، تقوم الدولة بمراقبة وأرشفة معطيات كل سكانها، وتقييم سلوكياتهم وتخفيض قيمهم الاعتبارية بناء عليها، فمخالفة سير لمرتين يمكن أن تجعل وجهك مألوفا للكاميرات وتعطيك علامة متدنية يمكن أن تمنعك من ركوب طائرة للسفر، كما أن أمورا قد تظنها تافهة مثل أنواع المآكل التي تأكلها، أو التدخين، أو التأخر في سداد بعض الفواتير، ستعطيك «علامة متدنية» ستسدد ثمنها عقوبة بشكل ما، فما بالك لو أن المواطن قام بالسخرية من قادة الحزب الشيوعي، باعتراض سياسيّ، أو شارك في مظاهرة؟ باستخدام تقنيّات الذكاء الاصطناعي للمراقبة وإيكال «العقاب» للخوارزميات (اللوغاريزمات) يقترب قادة بعض دول العالم من أجواء رواية «1984» لجورج أورويل، والصين التي تعتبر في المركز 19 بين ديكتاتوريات العالم الشرسة تتجه للتفوق على غيرها (كما فعلت في الاقتصاد) وستقفز إلى مرتبة أعلى بكثير.
في كتاب «ماذا بعد؟» الذي قام بتحريره والمشاركة فيه، يقدّم جيم الخليلي، الأكاديمي ومقدم البرامج البريطاني (العراقي الأصل) تحليلات عميقة لمصيرنا، ومنها الجوانب الديموغرافية للمستقبل ومصير كوكب الأرض، وتحليل مستقبل الإنترنت؛ وأخيرا صناعة المستقبل القريب (الأشياء الذكية والطاقة والنقل والروبوتات)، والبعيد (السفر عبر الزمن والإقامة في كواكب أخرى). في مجال بحثنا هذا، يخبرنا الكتاب، أن الذكاء الاصطناعي موجود في كل شيء نستخدمه الآن: في الإنترنت ومحركات البحث والتطبيقات، في القانون والطب، في بيوت العجزة وتطبيقات الاستشارة الزوجية، في بيوتنا ومكاتبنا وفي الشوارع، ولن يكون «الأخ الأكبر» (كما في رواية أورويل) هو الذي يراقبك بل تريليونات الإخوة الصغار، وكلها تتحدث إلى بعضها بعضا من دون توقف.
في كل هذه المعلومات والتحليلات، يحضر التفاؤل بالتطور البشري المذهل، كما تحضر المخاوف الكبيرة ليس على الجنس البشري فحسب، بل على كوكب الأرض نفسه، وسواء أشارت تلك التحليلات العميقة أم لم تشر فإن ظواهر التفاؤل والمخاوف تنبع جميعها من تلك المعادلة غير المتوازنة الناتجة عن حصول تطور علمي هائل يجعل الإنسان أقرب إلى سوبرمان (أو إله) وهو أمر لم يرافقه تطور بيولوجي مكافئ لدى «القرد العاري» الذي أضاف إلى ديكتاتورية واستئثار أسلافه من الرئيسيات العليا نقلة مرعبة من الميل الطبيعي إلى إخضاع الخصم نحو إبادته كليا هو وجماعته البشرية. نجحت بعض الأنظمة الاجتماعية للقرد العاري، نسبيّا، في الإفلات من إرث الاستبداد الذكوريّ لبعض الرئيسيات العليا، لكنّ الحضارة سلّحته بإمكانية السيطرة والإبادة الجماعية وهو يقترب من القدرة على إحداث نقلة كبرى قد تدفع به لطور حضاريّ جديد… أو للانقراض.

 القدس العربي