• 25 شباط 2019
  • ثقافيات

 

 القدس – أخبار البلد -  الدكتورة نائلة الوعري ابنة القدس ، الباحثة والكاتبة  المتخصص بالتاريخ ،والتي خصصت جهدها من اجل المدينة التي تعشق  ، تلك المدينة التي تحملها في قلب  في حلها وترحالها ، انها بلا شك مدينة القدس التي ولدت فيها وترعرعت في حاراتها . نشرت مقالة في صفحتها على الفيسبوك حول خط الحجازي الذي كان يربط العالم العربي والإسلامي ، ذلك الخط الذي كان هدفا للحقد الغربي ، ونحن في شبكة " أخبار البلد" نعيد نشر المقالة كما جاءت في الأصل :

في الأول من سبتمبر عام 1908م انطلقت الرّحلة الأولى للقطار من محطة “حيدر باشا” في اسطنبول باتجاه المدينة المنوّرة. كانت لحظات استثنائية بكل معاني الكلمة، فبعد ثماني سنوات من العمل المستمرّ والشاق، وبعد تشييد سكة تمتد على مسافة 1400 كلم تحقق الحلم الذي راود السّلطان عبد الحميد الثاني رحمه الله بإنجاز هذا المشرُوع العظيم. لقد انبعثت سُحب الدّخان من القطار مؤذنة ببدء مرحلة جديدة يملؤها الأمل في وقت كانت الدّولة العثمانية تعيش أقسى لحظاتها وسط تآمر كُبرى القوى الدّولية. وانطلقت الرّحلة الأولى للقطار الذي تمّ تشييده بأموال المتبرّعين المسلمين وسواعدهم ومهندسيهم، إنها الإرادة عندما تَصنع المُستحيل.

طُرحت فكرة إنشاء الخط الحجازي أول مرة في عهد السلطان عبد العزيز الذي حكم بين سنتي 1861 و1876م، وهو السلطان الوحيد الذي قام بجولات خارجيّة إلى كل من ألمانيا وفرنسا وبريطانيا للاستفادة مما وصلت إليه هذه الدّول من تقدم وحضارة. وكان همّ السّلطان عبد الحميد الثاني بذل كلّ ما في وسعه من جهود من أجل وقف الانهيار الذي تسير نحوه الدّولة، وإيقاف تمزّقها وبعث روح جديدة في شرايينها، ولذلك أخذ على عاتقه إنجاز هذا مشروع خط حديد الحجاز، رغم ما يتطلبه من أموال طائلة ومن جهود مضنية.

أوكل السّلطان عبد الحميد الثاني مهمة تنفيذ هذا المشروع العملاق لـ”أحمد عزت باشا العابد” والمعروف في التاريخ باسم “عزت باشا العربي”. ويتضمن المشروع، إنشاء خط سكّة حديد الحجاز ليربط بين خط سكة حديد الأناضول وخط سكة حديد بغداد، وكذلك تأسيس شبكة اتصال تلغرافية بمحاذاة ذلك الخط الحديدي.

وكان السلطان يهدف من وراء ذلك إلى خدمة حجّاج بيت الله الحرام من خلال توفير وسيلة سفر يتوفر فيها الأمن والسرعة والراحة، وحماية الحجاج من غارات البدو ومخاطر الصحراء التي كانوا يتعرضون لها في الطريق البري ومن هجمات القراصنة في الطريق البحري. كما يحتلّ الهدف العسكري مكانة مهمة ضمن أهداف الخطّ الحجازي، ويتمثل في سرعة التصدي لأية هجمات خارجية قد تتعرض لها مناطق الحجاز والبحر الأحمر واليمن، وإحكام السيطرة على البقاع الجغرافية ذات التوتّر السياسي الدائم.

كما أن الهدف التّجاري حاضر بقوة في هذا المشروع ويتمثل في إنعاش الاقتصاد الرّاكد بالمنطقة من خلال تحقيق نهضة تجارية واقتصادية لمدن الحجاز وكافة المدن الواقعة على امتداد الخط، وإحداث عملية رواج للمنتجات التجارية والزراعية من خلال نقلها نقلاً سريعا بالقطار إلى المناطق الأخرى. وبتحقيق هذا المشروع أراد السلطان أن يثبت للدّول التي تطمع في تمزيق الدّولة العثمانية وخصوصا الدول الأوروبية أنّ ثمة منجزات حضارية عظيمة يمكن للعثمانيين تحقيقها دون الحاجة إلى طلب مساعدتها. كما أن إنجاز هذا المشروع يعني تحقيق قدر من الاستقلالية للدولة العثمانية عن أوروبا، عسكريا وسياسيا واقتصاديا وتقنيا. فالسّلطان عبد الحميد المسكون بفكرة “الاتحاد الإسلامي” كان يبذل ما بوسعه بُغية توحيد صفوف المسلمين لمواجهة الأطماع الأوربية الاستعمارية وهجماتها الغاشمة على الدولة العثمانية.

كان البدء في إنشاء خط حديد الحجاز في الثاني من مايو عام 1900م، وفي الأول من سبتمبر عام 1900م، والذي يوافق العام الخامس والعشرين لجلوس السلطان عبد الحميد الثاني على عرش الدولة العثمانية، تم تدشين العمل في خط الحديد بين الشّام ودرعا في احتفال رسميّ مهيب. ووصل خط الحجاز إلى عمّان عام 1903م، وإلى معان عام 1904م. وفي الأول من سبتمبر عام 1905م اكتملت المرحلة الأولى من خطّ الحجاز، وانطلقت أولى رحلات القطار بين الشّام ومعان لنقل الركاب والبضائع.

وفي الأول من سبتمبر 1906م وصل الخط إلى مدائن صالح، ثم في 31 أغسطس 1908م وصل إلى المدينة المنورة. وخلال الثمانية أعوام التي جرى فيها تنفيذ خط الحجاز وصل طول الخط إلى 1464 كلم. وقد شيد المشروع في أغلبه بسواعد الجيش العثماني، كما ساهم في إنشائه عمال وافدون من أماكن إسلامية مختلفة في مقدمتها سوريا والعراق.

وتولّى منصب كبير مهندسي الأعمال الفنية، مهندس ألماني يُدعى “مايسنر باشا”، وعمل تحت قيادته أربعة وثلاثون مهندسا، سبعة عشر منهم عثمانيون والآخرون كان معظمهم من الألمان، بالإضافة إلى مهندسين من إيطاليا وفرنسا والنمسا وبلجيكا واليونان.

وبعد وصول الخط الحديدي إلى محطة مدائن صالح أصبح الجزء المتبقي من الخط داخل حيّز المنطقة الحرام. ولما كان من المحظور شرعاً دخول غير المسلمين إلى هذه المنطقة، فقد جرى إنشاء الخط الواقع بين مدائن صالح والمدينة المنورة كله بأيدي مهندسين وعمال مسلمين. وفي المراحل اللاحقة اكتسب المهندسون العثمانيون الخبرة اللازمة، ولذلك قلّت أعداد المهندسين الأجانب في المراحل المتقدمة.

عمل في المشروع نحو خمسة آلاف عامل معظمهم من الأتراك وبعضهم من العرب وبعضهم من أجناس مسلمة أخرى. ولا شك أن قيام الجنود العثمانيين بالعمل في هذا المشروع خفض كثيراً من النفقات، كما كان لتديّن الجنود العثمانيين وحبهم للنبي صلى الله عليه وسلم دوره البالغ في إنجاز هذا العمل في فترة تُعد قصيرة، حيث قاموا بشق الطرق عبر الفيافي والقفار والجداول والوديان. وقد استشهد عدد كبير من العمّال جراء العطش أو سوء التغذية أو بسبب غارات البدو.

كانت الدول الأوربية تعتبر إقدام الدولة العثمانية على إنجاز هذا المشروع ضربا من ضروب الخيال ومغامرة لا يمكن أن تنجح، حتى أن بعض الصحف الأوربية آنذاك قد نشرت على صفحات جرائدها صورا كاريكاتورية ساخرة وتعليقات بذيئة تمس من هيبة الدّولة والسّلطان. ولكن مع التقدم في إنشاء الخط وإظهار القائمين عليه لتضحيات كبيرة، أخذت الدول الأوربية تضع العراقيل للحيلولة دون إكمال هذا المشروع حيث قامت بنشر الشائعات بين المسلمين الهنود الذين يقومون بالتبرع لإقامة الخط الحجازي، وأطلقت شائعات مثل أن “التبرعات لا تُستخدم في إنشاء الخط الحجازي”. غير أن جميع جهودهم في التثبيط والعرقلة ذهبت سدًى، واستمر المسلمون من كل مكان في جمع التبرعات وإرسالها إلى الدولة العثمانية. وممّا يلفت النظر أنّ تعطيل خط حديد الحجاز كان أول ما قامت به بريطانيا بعد انسحاب العثمانيين من مكة والمدينة المنورة؛ إذ كانت تنظر إلى الخلافة العثمانية باعتبارها التهديد الأكبر ضد طموحاتها الإمبريالية في الشرق الأوسط والشرق الأقصى، ومن ثم فقد شعرت بارتياح شديد بعد أن قامت بقطع الروابط بين الأناضول وشبه الجزيرة العربية من خلال تعطيل الخط الحجازي.

قام هذا المشروع على التّبرعات التي يجمعها المسلمون في شتى أقطار العالم دون أن تشوبه أي مساهمة من الدّول الأجنبية، وخصصت له الدولة العثمانية 18% من ميزانيتها، لكن المبلغ بقي قليلا جدّا فوجّه السلطان نداءً إلى العالم الإسلامي من أجل التبرع للمشروع، ليدشّن بذلك حملة تبرعات قلّ أن نجد لها نظيراً في تاريخ العالم.