• 11 آيار 2019
  • ثقافيات

 

 

بقلم : د احمد سالم سالم

 

شاع لفترات طويلة وسط الأوساط الثقافية وبين باحثين كُثُر ما روَّج له مستشرقو القرن التاسع عشر، عن ركود وجمود وعزلة، عانى منها العالم العربي خلال قرون العصر الحديث في ظل الحُكم العثماني، فكان ذلك من الأسباب الرئيسية في تردي الأحوال بشكل عام في الولايات العربية، وبصفة خاصة في الفترة المتأخرة من سني هذا الحُكم؛ متشبعين بالنظرة الغربية بدون أن يفطنوا إلى أن هذه العزلة – إن جاز التعبير – لم تكن سوى حائط صَدًّ دفاعي منيع ليس له علاقة بالانفتاح الاقتصادي والتبادل التجاري، الذي وصل إلى ذروته في ذلك العصر كما تثبت الوثائق، وهو ما لم يعانِ منه سوى القوى الغربية نفسها، التي أرادت النفاذ إلى المنطقة منذ بداية العصر الحديث، استكمالاً للمشروع الصليبي القروسطي؛ ما جعل القوة الحامية في نظرها ليست سوى قوة عازلة حالت بين العالمين العربي والغربي، ما أدى إلى ذلك الجمود والركود؛ كما لو أن العالم الغربي هو المنطلق الوحيد لأي مشروع نهضوي تضطلع به أمة من الأمم، فلا يمكنها التقدم سوى عبر مسايرته ومقاربته.
إن إطلالة واحدة على الأوضاع الاقتصادية للمنطقة قبيل دخول العثمانيين كفيلة بنسف هذه النظرية من أساسها، فقد أدى التناحر والفرقة السياسية إلى تدهور اقتصادي واضمحلال كبير في المراكز الحضارية الكبرى في الشرق الأدنى، كبغداد ودمشق والقاهرة، فضلاً عن مدن المغرب العربي التي عانت فوق هذا من الهجمات الإسبانية والبرتغالية، كما أقرت بذلك دراسات أندريه ريمون وغيره. هذا غير التحول الكبير الذي شهدته التجارة العالمية على إثر اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح، وتحول التجارة العابرة من الشرق إلى الغرب إليه أواخر القرن الخامس عشر، بعد أن كانت تمر بطرق الشرق الأدنى منذ العصور الوسطى.
إذا نظرنا آنذاك إلى مصر على سبيل المثال، ذلك البلد المحوري في الشرق الأدنى، سنجد أنها عانت منذ عهد السلطان المملوكي برسباي، على أقل تقدير، بسبب بدء عصر احتكار التجارة من قبل سلاطين المماليك، ومحاولة السيطرة عليها والتحكم في أثمانها، بعد صدور مرسوم شهر أكتوبر 1428 الذي يحظر شراء التوابل – عصب التجارة في ذلك الوقت – سوى من مخازن السلطان. وأكد السلطان قايتباي هذا الأمر بقرار آخر صدر عام 1480. وأخيرًا في عهد الغوري (1501-1516)، زاد البؤس العام بإجراءاته التعسفية؛ ومنها جمع ضرائب عشرة أشهر دفعة واحدة، وفرض مزيد من الضرائب حتى على الأوقاف، وزيادة الرسوم الجمركية، فضلاً عن التلاعب بقيمة العملة، ما ألحق خسائر فادحة بالتجار واقتصاد البلد بشكل عام. ومن ناحية أخرى، أدى اتساع نشاط البرتغاليين في الهند وسيطرتهم على مصادر التجارة المشرقية، وفشل المماليك في التصدي لهم في البحار الشرقية، إلى حجب وصول السلع بكميات كبيرة إلى مصر والشام وندرة الكثير منها، وهو ما وضع التجارة والاقتصاد المملوكي في مأزق خطير. وأدت كل هذه الأمور إلى تحويل قوافل التوابل إلى أسواق لشبونة والغرب الأوروبي، فضلاً عن انتقال توازن أوروبا الاقتصادي من البحر المتوسط إلى المحيط الأطلسي، وهو ما قاد إلى الانهيار الاقتصادي الكبير الذي شهدته المنطقة مع مستهل القرن السادس عشر.
أدرك العثمانيون مع دخولهم إلى المنطقة ما أصابها من تدهور اقتصادي عقب تحول التجارة العالمية عنها، وما أسفر عن ذلك من كوارث حاقت بالعالم المتوسطي بشكل عام، خاصة مدن إيطاليا التجارية، وعلى رأسها البندقية؛ لذا حاولوا ملء الفراغ الذي عجز عن سده المماليك في أواخر عهدهم، وساعدهم على ذلك سيطرتهم التي امتدت لمعظم أجزاء شرق المتوسط، التي تضم القارات الثلاث آسيا وإفريقيا وأوروبا، فارتبطت بناءً على ذلك معابر التجارة القديمة من آسيا إلى أوروبا بسلطة واحدة؛ ما سهل وصول التجارة المارة بسرعة أكبر وتكلفة أقل. من هذا المنطلق لم يتردد السلطان سليم الأول منذ أول يوم في اتخاذ التدابير اللازمة لإنعاش حركة التجارة في الطريق التقليدي القديم المار بالشرق الأدنى، فبدأ بتأمين شرق المتوسط بالقضاء على القراصنة الصليبيين وهو ما سيتحقق فعليًّا بفتح رودس عام 1522 في عهد خلفه سليمان؛ ومن ناحية أخرى بدأ في إرسال الحملات إلى البحار الشرقية للحد من نفوذ البرتغاليين، وهو ما توسع كذلك بشكل كبير في العهد اللاحق. وأراد سليم أن يضمن تسويق ما يصل إلى الشرق الأدنى من التجارة عن طريق البنادقة الذين يقومون بتوزيعها في أوروبا؛ لذا عقد معهم معاهدة تجارية عقب دخوله إلى مصر مباشرة، في 22 من محرم عام 923هـ/ 14 فبراير 1517، تلتها الكثير من المعاهدات مع دول أوروبية مختلفة مثل فرنسا وإنكلترا في عهد خلفائه، زاد على إثرها التبادل التجاري بين الشرق والغرب عبر الأراضي العثمانية الممتدة على ثلاثة أرباع البحر المتوسط.

أشار أندريه ريمون إلى أن دمج البلدان العربية مع باقي الأراضي العثمانية في أوروبا وآسيا أدى إلى تنمية التجارة الداخلية الي حد كبير بين مجموعة دول متفاوتة للغاية، تمر عبرها منتجات شديدة التنوع تمثل عنصرًا فعالاً في التجارة الدولية؛ وفي نطاق هذا النشاط التجاري الواسع ازدادت حيوية العمليات الجارية داخليًّا إلى حد كبير بفضل ضخامة سوق الإنتاج والاستهلاك داخل الإمبراطورية، وهو ما أدى إلى حدوث نشاط ورفاهية في المراكز التجارية الكبيرة، خاصة في الحواضر العربية. وانتفعت مدن مثل القاهرة والإسكندرية انتفاعًا هائلاً من كونها أصبحت ملتقى طرق تجارية مهمة في العصر العثماني، ويرجع ذلك إلى تخلي العثمانيين عن سياسة التدخل في التجارية الدولية والاحتكارات التجارية التي مارستها الدولة المملوكية طوال القرن الخامس عشر، واستفاد من ذلك التجار من الدرجة الأولى، فلم يعد عليهم أن يشركوا الدولة في أرباحهم، ونتج عن ذلك زيادة فرص وصول جانب من تلك الأرباح إلى غيرهم من الفئات الاجتماعية الأخرى.
إن للدراسات الحديثة المبنية على الوثائق الكثير من الفضل في الكشف عن الوجه الحقيقي لذلك العصر، لاسيما من النواحي الاقتصادية والاجتماعية. فوثائق المحاكم الشرعية – على سبيل المثال – كشفت النقاب عن كم هائل من المعلومات الخاصة بالحياة العامة، وحركة وحجم الأنشطة التجارية والسلع والأسواق، وأهم الحاصلات والصناعات والموارد؛ هذا غير مضابط المحاكم وحجج الأوقاف ودفاتر الضرائب والجمارك وسجلات الديوان العالي. وهناك كذلك وثائق الأرشيف العثماني الزاخرة بملايين الوثائق باللغتين العربية والتركية، بها أدق التفاصيل الإدارية والمكاتبات الخاصة بالولايات العربية. ونشير في هذا السياق إلى عمل موسوعي غاية في الأهمية، هو «البلاد العربية في الوثائق العثمانية»، الذي لاتزال أجزاؤه تتوالى في الصدور تباعًا منذ عام 2010، للدكتور فاضل بيات، أحد القلائل الذين تمكنوا من الغوص في الأرشيف المذكور ليترجم الكثير من وثائقه ويخرجها للنور باللغة العربية.
هكذا بدأت مثل هذه الأعمال تفتح آفاقًا جديدة للباحثين العرب الجادين في رسم صورة صادقة لفترة مهمة من تاريخنا، وبدأت تنقشع على إثر ذلك تلك الصورة القاتمة المترسخة في الأذهان على مر عقود لتحل محلها الحقائق الموثقة، بعيدًا عن الأهواء المشربة بالأحقاد؛ فهل بعد كل هذا يمكن للصورة القديمة أن تعاود الظهور مرة أخرى؟ يقول الدكتور رؤوف عباس في تقديمه للنسخة العربية من كتاب دكتورة نيللي حنا الوثائقي المهم «تجار القاهرة في العصر العثماني»: «الرسالة التي أرادت المؤلفة أن توجهها إلى باحثي الغرب ومؤرخي المدرسة الاستشراقية على وجه الخصوص، تؤكد أن المجتمعات يمكن أن تتطور وفق سياق تاريخي مختلف عن النهج الغربي، كاشفة عن فساد الاستنتاجات التي توصل إليها المستشرقون في دراساتهم حول العصر العثماني عامة.. مؤكدة أن الثقافة الوطنية العربية الإسلامية توفرت لديها في هذا العصر مقومات التطور، وأن قدوم الغرب لم يكن بعثًا للحياة في مجتمعاتها، وإنما كان من معوقات تطورها».

عن القدس العربي