• 29 تموز 2019
  • ثقافيات

بقلم :  د . علي قليبو

نُسجت الهوية الفلسطينية على نقاط تقابل تاريخ فلسطين الجغرافي والاجتماعي. فأرض فلسطين وبلاد الشام عامة مثلها كمثل حدقة العين بالنسبة للجزيرة العربية، فهي تحدها شمالا  وترتبط بها بشكل مباشر ومؤثر منذ ما قبل الدعوة الاسلامية...

وفي خضم الصراع اليهودي الصهيوني للاستحواذ الايديولوجي على جغرافيا فلسطين من خلال تدمير وطمس وتزييف ارتباط فلسطين وشعوبها عبر التاريخ مع جذورها العربية السامية،تظهر لطمة مفاجئة للادعاءات الاسرائيلية في قضية اكتشاف المصلى الاسلامي في "رهط "على أطراف مدينة بئر السبع العربية و التي اعتبرها الاعلام الصهيوني وكانه مفاجاة عظمى إذ كان علماء الاثار الاسرائيليون يتوقعون ان يجدوا معبدا يهوديا او كنيسة نصرانيه و ليس مصلى أموي عربي إسلامي يعود إلى القرن الثامن الميلادي!

مِن منا لم يسمع  بسورة قريش وخاصة آية "لإيلاف قريش، ايلافهم  رحلة الشتاء والصيف"؟      قلة منا لا تعلم برحلة الشتاء التجارية الى اليمن ورحلة الصيف التجارية الى الشام والدور العظيم الذي لعبه جد النبي "هاشم عبد مناف" في ارساء الطرق التجاريه في القرن الخامس الميلادي .  ففي تلك الحقبة التاريخية  وحين بلغ النزاع اوجه بينالفارس والروم وحين تزعزع شان مكه التجاري وبدات عادة واد البنات خوفا من الاملاق، استطاع هاشم بن عبد مناف و اخوته ان يعقدوا مجموعة تآلفات تجارية مع الدول العظمي انذاك وبين مختلف القبائل العربيه لتوفير خط تجاري امن يمر من اليمن شمالا الى مكة و آخر من مكة إلى الشام و آخر إلى فارس و آخر إلى الحبشة. أما الخط التجاري الوارد إلى الشام، فقد تفرع صوب الكرك فالظاهرية  و منها إلى بئر السبع و أخيرا إلى غزة التي دفن بها "هاشم بن عبد مناف" وهو في الثلاثينات من عمره و لذلك عرفت المدينه باسم غزة هاشم. بهذه الخطوة الريادية وحنكته السياسية  أعاد هاشم بن عبد مناف مكة لتتبوأ مكانتها كملتقى لقوافل التجارةفازدهرت اقتصاديا و تخلصت من الجوع و الفقر اللذين لازماها ردحا من الزمن.

و ذلك في عمل مبارك ذكره الله في محكم تنزيله في تكملة سورة قريش"فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ، الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ."

ولم يقتصر الوجود العربي في فلسطين على مجرد مرور القوافل التجارية بل امتدت جذوره  ليشمل كافة القبائل العربية في النقب المنحدره من الشعوب السامية القديمة وبصوره خاصة بالانباط والادومييت التي امتدت رقاع ممالكهم لتصل جنوب النقب، فللعرب قبل الاسلام وبعده لهم تاريخ عريق يتغلغل جغرافيا فلسطين تحاول الدولة الصهيونيه طمس معالمه وما تهجير وتفريغ النقب من البدو الا جزءا من محاولتهم لمحو الوجود العربي والاسلامي.

وما إيلاف قريش إلا وصف عربي للقوافل التي كانت يتراوح عدد بعيرها بين 1500 الى 2500 بعير و تقصد غزة سنويا في تواصل تجاري و ثقافي و ديموغرافي مع الحجاز، حيث ازدهرت المدن الواقعة على هذا الطريق التجاري مثل دورا والظاهرية وبئر السبع و انتشرت الجوامع للمصلين ولم يتلاشى شأنها الا بعد فتح قناة السويس لتصبح الطريق الملاحية هي الطريق التجارية المفضلة.

أبرزت ابحاثي الميدانية للعادات البدوية أن البدو غالبا ما كانوا يجتمعون في المقامات الخاصة بشيوخهم الصالحين لاقامة للصلاة وايفاءالندور والتجارة، إلا أنهم لم يقوموا ببناء المساجد بشكل مستمر و اكتفوا بمقامات الأولياء و الصالحين للصلاة بها، حيث ان معظم المساجد في القرى الفلسطينية لم تُبنَ سوى في اواخر العصر العثماني، لذلك لا يمكن فصل المصلى المكتشف في رهط عن قوافل الحجيج والتجار المسلمين ممن كانوا يتبعون السنة النبوية المطهرة حسب المفهوم الحضري للاسلام المبني على الشريعة واحكامها. وعلى صعيد ثانوي اذكر من كتاب "عارف العارف" كيف أن البدو في منطقة بئر السبع كانوا يحلفون باسم النبي محمد كشفيع بدلا من الحلف بالله الواحد .

إن اعلان اكتشاف المصلى الاموي في "رهط" على يد عالم اثار اسرائيلي ومعاونه العربي كان لا مفر منه في مدينة مكتظة تعاكس المعنى العربي لتلك المدينة / القرية. فنستدل من اسم "رهط" إلى أنها كانت خربة، اي مكان بعيد عن العمران يسكنه قلة من الناس حيث غالبا ما كانوا يقيمون على مشارف المدينة لاستقبال من تخلف من الركب عن القافلة  وتبعا لذلك تجدهم اقاموا بعض الغرف لاقامة الوافدين والمصلى. وكلمة رهط باللغة العربية تعني حفنه من الرجال لا يزيد عددهم عن عشره.

و لتفسير الفروق اللغوية، نجد ان الجامع هو المسجد الذي يجتمع فيه المسلمين من مختلف المناطق المجاورة لاداء صلاة الجمعة بالاضافة إلى الصلوات الخمس اليومية أما المسجد فهو المكان الذي تقام به الصلوات الخمس في مواقيتها أما المصلى فهو مبنى لاقامة الصلاة في وقتها حال الحاجة إليه و هو كثيرا ما نجده  في المطارات الحديثثة و المستشفيات و غيرها.

و لكن يراودني تساؤل حول مصير بقية المصليات و المساجد؟ هل وجدوها أم سيستمر مسلسل انكار التاريخ العربي الاسلامي في أرض فلسطين.