• 26 تشرين أول 2019
  • ثقافيات

بقلم : محمد تركي الربيعو

يظل كتاب «الفكر العربي في العصر الليبرالي» العمل الذي حدد مجد ألبرت حوراني في عالم الكتابة والتأريخ. فمنذ أن أصدرت منشورات جامعة كامبريدج الطبعة الثالثة منه عام 1983، وهو يعد من أكثر عناوين منشورات الجامعة بيعاً في الدراسات الشرق أوسطية. وقد صنفه استطلاع جرى قبل سنوات في الجامعة الأمريكية في القاهرة بوصفه ثالث أكثر كتاب مؤثر في هذا المجال، مباشرة بعد كتاب إدوارد سعيد «الاستشراق» وكتاب حنا بطاطو «الطبقات الاجتماعية القديمة والحركات الثورية في العراق» المنشورين كليها أول مرة عام 1978، قبل صدور كتاب تيموثي ميتشل «استعمار مصر» عام 1988. ورغم أن ألبرت غدا في يوم ما عميد دراسات تاريخ الشرق الأوسط الحديث في العوالم الأكاديمية البريطانية، مع ذلك بقي تأثير كتاباته أقل في منطقة الشرق الأوسط، وهو ما بدا في عالمنا العربي من خلال الاقتصار على ترجمة كتب قليلة له فحسب، وأهمها كتاب الفكر العربي، الذي أثار حفيظة حوراني بعد ترجمته بسبب استعمال كلمة النهضة في العنوان، بدلاً من كلمة الليبرالية، وهو ما رأه حوراني غير دقيق، كون المقصود بالليبرالية هنا هو مرحلة الفكر العربي، في فترة الإمبريالية الليبرالية البريطانية، التي كانت تعتقد أن دور بريطانيا يتمثل في السلام والمساواة بين المواطنين، ولكن تحت إشرافها، قبل أن تعلن عن نهايتها مع خسارة فلسطين وفق ما يراه حوراني.


وخلافاً للعالم العربي، تحول كتاب حوراني السابق إلى مرجع مهم لغالبية الطلبة في الدراسات الشرق الأوسطية، ولعل هذا التأثر هو الذي دفع بعدد من علماء تاريخ الشرق الأوسط إلى جعله موضوع ندوة في جامعة برنستون في عام 2012 بمناسبة مرور خمسين عاما على صدوره، للنقاش حول مسيرة حوراني في الدراسات الشرق الأوسطية إضافة إلى دراسة المناخ الثقافي والفكري، الذي كان يحيط بحوراني أثناء إعداده لهذا الكتاب، كما حاول عدد من الباحثين (ومنهم تلاميذ لحوراني) إعادة النظر ببعض المسلمات والأفكار التي طرحها في كتابه السابق، عبر تقديم قراءات جديدة، أو تسليط الضوء على زوايا لم يتح له نقاشها أو تجاهلها في سياق تأريخه لرواد الفكر العربي الليبرالي. وقد صدرت هذه الأبحاث لاحقًا في كتاب بعنوان «الفكر العربي بعد العصر الليبرالي: نحو تاريخ فكري للنهضة». ليكون بذلك واحدا من أهم الكتب التي تتناول إرث حوراني، حول الفكر الليبرالي والنهضوي، وكالعادة، لم ينل فرصة الترجمة للعربية إلا مؤخرا، من خلال جهود مؤسسة مؤمنون بلا حدود والمترجم فؤاد عبد المطلب.
في مقدمتهما للكتاب الذي حرراه، يرى كل من دجنس هانس، جامعة تورنتو في كندا وماكس وايس، جامعة برنستون الأمريكية، أن السنة التي كتب فيها حوراني كتابه مثلت نقطة تحول في تاريخ الاستعمار وعلاقتها الأليمة بالليبرالية. فقد احتفلت جامايكا والجزائر، وكانتا مستعمرتين حيويتين للإمبراطورية البريطانية والفرنسية باستقلالهما في تلك السنة، ونشر كتاب فرانز فانون «معذبو الأرض»، وكان بيير بورديو قد عاد لتوه من الخدمة العسكرية الفرنسية في الجزائر مدة أربع سنوات، لينشر كتابه الأول «الجزائريون». وخلال هذا الوقت كان فوكو يطلق نوعا مختلفا من الثورة في فرنسا لما نشر كتابه الأول «الجنون والحضارة».
وفي ألمانيا نشر يورغن هابرماس كتابه «التأهيل حول تحول المجال العام» وصحح كتاب حنة أرندت حول الثورة. أما في بريطانيا فقد نشر برنارد لويس كتاب «ظهور تركيا الحديثة» عام 1961، وكانت مقالة مصالح بريطانية في فلسطين 1800 الى 1901، الأولى في سلسلة مقالات نقدية كتبها عبد اللطيف طيباوي، درست تأثير المبشرين البروتستانت في نظام التعليم العربي. وجاء عمل المؤرخ التركي شريف ماردين «تكوين الفكر العثماني الشاب» ليعالج تاريخ جيل واحد من المفكرين السياسيين بالمقارنة مع الأجيال الثلاثة، التي بحثها حوراني. لكن عثمانيي ماردين الشباب وضعوا سياسة مشابهة على نحو مدهش للنهضويين، فكلاهما مزج أفكار من الغرب رافقته محاولة تخيل ماض أصيل. في هذه المناخ الفكري جاء كتاب حوراني، ولعل ما ميزه بحسب المحررين أنه جاء كتابا بمزاج مأساوي، بل سوداوي، لا لمجرد أن مؤلفه اكتشف ضعف الاستعداد العربي زمن الاستقلال، ولا بسبب بقاء القواعد العسكرية الغربية في الدول الحديثة الاستقلال، ولم يحصر ألمه بحقيقة أن القوى المتطرفة والمحافظة سلبت المفكرين الليبراليين ثمار عملهم المناهض للاستعمار، بل كانت الحرب العالمية الثانية قد دمرت تراث التنوير في أوروبا نفسها، وبإنهاء كتابه رسميا عند عام 1939 ترك حوراني السؤال عن قدرة الفكر الليبرالي الأوروبي فعلاً أن يصبح ثانية نموذجا يحتذى به للحياة السياسة والفردية، بعد الأعمال الوحشية التي حدثت خلال الثلاثينيات والأربعينيات. ولكن كيف وصل ألبرت البريطاني إلى عالم الشرق الأوسط؟

.

في دراسة حول عالم ألبرت، يعيد هانس بناء حياة سياسية أنكرها حوراني، حين شرع في تأليف الفكر العربي في العصر الليبرالي، واستناداً إلى قراءة دقيقة يتناول عالم البرت، بوصفه حالة دراسة أو «متاهة إنكليزية عربية» في اللحظة التاريخية لحل ألغاز العصر الليبرالي. لم يكن ألبرت مهتما مطلقا بالشرق الأوسط قبل عام 1936، غير أن لقاء عابراً جمعه مع فيليب حتي (1886/ 1978) الذي جاء لزيارة والد حوراني في مانشستر، وهو في طريقه لتقديم مخطوطته تاريخ العرب عام 1936، سيؤدي لحدوث أكبر انعطافة في حياة الشاب البريطاني من أصول لبنانية.

في عام 1937 كان حوراني قد أنهى دراسته في أكسفورد، وعلى أثرها قرر زيارة بيروت لإشباع شغفه الجديد بالشرق الأوسط؛ كان شعور الارتباك هو كل ما حس به عند وصوله للمدينة «عند رؤيتي الأولى لعالم المتوسط أدركت أنني لم أعرف النور قبل ذلك ابداً». وقد حصل على وظيفة تعليمية في قسم العلوم السياسية في الجامعة الأمريكية. كانت الجامعة مهد النهضة منذ أن فتح المبشرون الأمريكيون بابها باسم الكلية البروتستانتية السورية عام 1866. وفي الثلاثينيات ظهرت بوصفها موقع ارتكاز للأيديولوجيات المتطرفة المتنافسة، فانطوان سعادة 1904/ 1949 ذو الشخصية الجذابة، الذي أعطى دروساً بالألمانية داخل الحرم الجامعي، كان قد أسس الحزب القومي الاجتماعي السوري عام 1932. يومها وجد البرت أن سعادة كان «مصاباً بجنون العظمة»، ورغم أن سعادة غادر بيروت عام 1938، لكن أفكاره القتالية وفق تعبير حوراني بقيت وراءه، وسيست جيلا كاملاً من أهمهم تلميذه الأكاديمي هشام شرابي. مقابل هذا المشهد كان حوراني قد بدأ يتأثر بأفكار الاستاذ في الجامعة الأمريكية قسطنطين زريق، وهو ما سيظهر في العديد من كتاباته لاحقا، كما وقع تحت سحر زميل مسيحي آخر في الجامعة الأمريكية، حيث كتب في عام 1943 في تقرير للمخابرات البريطانية: «في الجامعة الأمريكية حركة إحداث فلسفة مسيحية بالعربية ترتبط بشارل مالك».
عاد حوراني إلى لندن مع بداية الحرب العالمية الثانية ليتولى وظائف في المعهد الملكي للشؤون الدولية (معهد تشاثام)، وبعد ذلك قطاع الشرق الأوسط في قسم بحوث وزارة الخارجية. وعمل هناك لدى الرجلين اللذين سيكون لهما إلى جانب شارل مالك أكبر تأثير في حياته. فأرنولد توينبي، وهاملتون جيب، كان كلاهما متحمس للنظر إلى التاريخ، بأنه سلسلة من التفاعلات المبدعة بين الحضارات العظيمة، مثل اليونانية واليهودية والمسيحية والإسلام.
وسرعان ما عاد ألبرت الى الشرق الأوسط ثانية، ليقوم برحلة استقصائية لتقويم المزاج السياسي لدى المفكرين العرب في لبنان وسوريا والعراق، في أعقاب الحماس الناجم عن ثورة رشيد عالي الكيلاني العسكرية ضد البريطانيين خارج بغداد في صيف 1941. وكانت النتيجة المباشرة، تقريراً رسمياً ووظيفة جديدة (مساعداً للشؤون العربية لدى وزير الدولة البريطاني المقيم في القاهرة). وأدى هذا بدوره الى وضع تقارير أخرى أصبحت في النهاية أساس كتابيه الأولين «سوريا ولبنان» 1946 و«الأقليات في العالم العربي» 1947، مع ذلك تبقى أبرز أعماله هي تلك التي أعدها لصالح المكتب العربي في القدس، متضمنا شهادته أمام لجنة التحقيق الإنكليزية /الأمريكية في مارس/آذار 1946 من أجل فلسطين موحدة.
في عام 1947 عاد حوراني إلى أكسفورد بناء على اقتراح هاملتون جيب، وقد بدا وفق ما يذكره تلميذه روجر أوين، في دراسته وذكرياته عن حياة حوراني الأكاديمية أنه كان ممتناً على الانسحاب من عالم السياسة المخيب للآمال. لاحقاً سينشغل حوراني بمهمة تدريب نفسه ليصبح مؤرخ الشرق الأوسط الحديث، عن طريق القراءة وتمضية الوقت في القاهرة، وتعلم الكثير بالعمل مع أوائل طلابه الخريجين، ولا سيما جمال محمد أحمد من السودان وأندريه ريمون من فرنسا.

في بداية الستينيات، كانت لجنة هايتر البريطانية، قد طالبت بإحداث مراكز لدراسة الشرق الأوسط في البلاد، لتكون موازية للمراكز الموجودة في الولايات المتحدة الأمريكية. هذا المناخ سيتيح لحوراني الفرصة لتأسيس مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة أكسفورد، وخلق شبكات عمل أكاديمية، ولعل ما ساعده على ذلك كما يرى روجر أوين، أنه لم يحصل على تدريب مستشرق، لذلك لم يكن بأي شكل مقيداً بممارسات المستشرقين التقليدية وأنماط الفكر، بما فيها الاعتقاد السائد آنذاك بأن ما يسمى الحضارة الإسلامية قد شاركت في عملية طويلة من التراجع السياسي والاقتصادي والثقافي، حتى نهاية القرن الثامن عشر. وقد استطاع حوراني استعمال طرق وفتح قنوات للتعامل مع بعض المستشرقين الأمريكيين مثل صمويل ستيرن، ثم مع آخرين في بلدان أوروبية أخرى عبر اتصاله مع جاك بيرك، الذي كان آنذاك شخصية أكاديمية هامشية جداً في فرنسا نفسها، الأمر الذي نتجت عنه سلسلة مؤتمرات نظمتها مجموعة تاريخ أكسفورد حول «المدينة الإسلامية» 1965 و«الإسلام وتجارة آسيا» 1967و»القرن الثامن عشر» 1971 ساعدت على صياغة أرضية مشتركة مع علماء أوربيين آخرين مثل كلود كاهن ومكسيم رودنسون.

حلقات مفقودة

وبالعودة إلى كتابه «الفكر العربي وفرضياته» تناقش المؤرخة دينا خوري تلميذة حنا بطاطو، ومؤلفة كتاب «الدولة ومجتمع الولاية في الموصل» الذي نقضت فيه أطروحة حوراني الشهيرة حول سياسات الأعيان، فكرة مدى إمكانية أن نبدأ سردنا لتاريخ الشرق الأوسط منذ القرن الثامن عشر. وانطلاقاً من الفترة الممتدة بين ثمانينيات القرن الثامن عشر وعشرينيات القرن التاسع عشر، ترى خوري أن هذه الفترة كانت أساسية لظهور ما عرف لاحقاً بالأفكار الإصلاحية للقرن التاسع عشر. فقد عرفت هذه الفترة انتشار آراء تجديدية بين العلماء من الهند إلى غرب آسيا، ما بدا تأثيره واضحا في بغداد. كما أن ما ميز هذه العقود هو ظهور نوع جديد من الخطاب والممارسة السياسية الناشئتين من الأسفل، لا من برامج أعمال الإمبراطورية العثمانية الإصلاحية. فقد أحيت الوهابية والصوفية الخالدية النقشبندية خطاباً أقدم ضمن الإسلام، والحق بالثورة ضد الحكام الفاسدين المبيحين لممارسات غير إسلامية، ولدور المسلم الفرد في مجتمعهم، وكان لنقاش هؤلاء العلماء دوراً كبيراً في التأثير في ما عرفه حوراني بالمثقفين الليبراليين في الفترة المقبلة، إذ لعب مثلاً أبو ثناء الآلوسي (1802/ 1854) في تشكيل الخطاب السلفي في القرن التاسع عشر، من خلال تلامذته الذين ارتبطوا بقوة مع رشيد رضا.
في زوايا أخرى من الكتاب، نكتشف أن حوراني قلل من شعبية رجال الدين المحافظين في عصره الليبرالي (أمل غزال)، كما لم يول اهتماما وافيا لدراسة تأثير ثورة تركيا الفتاة عام 1908 في التاريخ الفكري العربي خلال الحرب العالمية الأولى (ليلى دخلي)، بالإضافة إلى إهماله دراسة تجارب فكرية أخرى (كتابات أحمد فارس الشدياق مثلاً لصالح شخصيات مركزية مثل عبده ورشيد رضا (فوازطرابلسي).
رغم هذا الكشف عن بعض الحلقات المفقودة، وإعادة تقميش كتاب الفكر العربي لحوراني، إلا إنها لم تنل من أهمية هذا الكتاب، كما يرى غالبية الباحثين المشاركين، بل ساهمت في إظهار أهميته ككتاب مؤسس في دراسات تاريخ الشرق الأوسط إلى يومنا هذا.

 عن القدس العربي