• 19 كانون أول 2019
  • ثقافيات

 

بقلم : خالد بريش

منذ أن خصصت منظمة اليونيسكو الدولية في تشرين الأول/أكتوبر عام 2012، يوما للاحتفال باللغة العربية، وحددته في الثامن عشر من شهر كانون الأول/ديسمبر من كل عام. والعالم العربي يحتفل بهذه المناسبة، من خلال ندوات، ولقاءات، ومهرجانات، توزع في بعضها الجوائز، والشهادات التقديرية. ومنذ ذلك الوقت، ونحن مازلنا في الأجواء الاحتفالية. ولم ننتقل إلى مراحل أكثر عملانية وفائدة للغتنا. وذلك بأن نجعل من هذه المناسبة، فرصة لقرارات ترى النور. إن كان على صعيد الدول العربية مجتمعة، من خلال المنظمة العربية للثقافة والعلوم، التابعة للجامعة العربية. أو أن يكون ذلك خاصا بكل دولة على حدة.
في الواقع أن مشاريع اللغة العربية، التي تقوم بها المجامع، ومراكز البحوث، والجامعات، في وطننا العربي، كثيرة جدا. ولكن للأسف، كثير منها، يتوقف من قبل أن يبدأ. إما لعدم وجود التمويل المادي اللازم لها، أو لأسباب أخرى تتعلق بغياب من بدأ بالمشروع ووضع أسسه، ولم يتيسر من يكمل المشروع من بعده، وينهيه. ومن المؤسف أن معظم مشاريعنا البحثية، والفكرية، في غالب الأحيان، تقوم على المبادرات الفردية. وليس على أسس العمل الجماعي المتكامل، بأن تكون هناك هيئة تتبناها، وتقوم على تنفيذها. وهو أمر لم يدخل حتى يومنا هذا، إلى عقليتنا وممارساتنا. وخير مثال على ذلك « دائرة المعارف »، للمعلم بطرس البستاني، التي تعتبر أول، وأهم عمل موسوعي في العصر الحديث، باللغة العربية. والتي توقفت بعد وفاته. مع العلم أنه تمت أكثر من محاولة لإتمامها، ولكن لم يقيد لها النجاح.
ومن ناحية أخرى، فإنه لا يخفى على أحد أن اللغة العربية اليوم، تعاني في بلاد العروبة من إهمال، وربما احتقار أبنائها المتحدثين بها. والذين من المفروض أن يكونوا حماتها، في وجه طغيان اللغات الأجنبية. وخصوصا الإنكليزية، التي غدت على لسان كثير من أبناء مجتمعاتها، إن كان في التعاطي اليومي، أو في النواحي الثقافية، وهي الأخطر بلا أي شك. ولقد كشفت وسائل التواصل الاجتماعي المستور. وأظهرت مدى التدهور الذي لحق باللغة العربية، على مستوى النحو، والصياغة، والإملاء. وأيضا على مستوى القاموس اللغوي الضحل، والمحدود، المستخدم من قبل شريحة كبيرة، بل من غالبية الشباب. فغدت هذه الوسائل وللأسف، عامل هدم، وتقزيم، عوض أن تكون عنصرا مساهما بفعالية، في تطور اللغة العربية كما هو الحال في اللغات الأخرى.
نحن اليوم، ما بين مستهتر باللغة العربية، يريد إخراجها من بعدها المرتبط بالقرآن الكريم، والأدب، والشعر على مختلف عصوره، وحصرها فقط باللهجات العامية. وهو ما يطلقون عليه: «المشروع الحداثي للغة العربية»، وبين آخرين متمسكين إلى أبعد الحدود بأهداب القديم، دون أي نوع من الانفتاح، بحجة أنهم يزودون عن حياضها، ويحمونها من المهرطقين. ولكنهم في الواقع يوصدون عليها الأبواب والنوافذ، لتموت! متناسين أن انفتاح الأجداد في الماضي على لغات العالم المعروفة، علميا وحضاريا وإنسانيا، عندما لم تكن اللغة العربية لغة علم ومعرفة، ولم تكن المجتمعات العربية أيضا على دراية بالعلوم التطبيقية والعملية، هو الذي أحدث النقلة الحضارية النوعية لأمتنا، التي يشهد لها بها العالم أجمع، ولا ينكرها إلا جاحد. وأن الفضل في ذلك يعود إلى إبداعات المترجمين العرب والمسلمين حينها. الذين توسعوا في بحوثهم اللغوية. فنحتوا من جذور بعض الكلمات، مصطلحات توافق المعاني التي تحملها المصطلحات العلمية الموجودة في اللغات التي يترجمون عنها. يونانية كانت، أو سريانية، أو هندية، الخ… فدخلت تلك المصطلحات، قاموس العربية، ومنها انتقلت إلى قواميس لغات العالم، وتربعت فيه. وما زالت إلى يومنا هذا مستخدمة في تلك اللغات، ويعول عليها…

كثيرون هم اليوم مدعو حماية اللغة العربية، وسدنة معبدها، ولكنهم في الواقع، لا يقدمون لتقدمها، وتطورها، والخطو بها نحو الأمام، أية خطوات عملية، سوى الادعاء بحمايتها، والاعتقاد بأن مجرد التمسك بأهداب الماضي، والأساليب القديمة في تعليم اللغة، وإخراج قواميسها، خير وسيلة للحفاظ عليها. ويتحفوننا كل يوم بلوائح مفردات، يقولون عنها عامية، وأخرى يؤكدون على أنها ليست ذات أصل عربي. وبالتالي يوصدون الأبواب على اللغة، وتطورها، متناسين أن كل لغة تنغلق على نفسها تموت، وتنتهي. وكم من لغة نسمع عنها في طيات الكتب، ولا نرى من يتحدث بها، إلا بعض الأكاديميين، والباحثين المتخصصين.
إن مشاكل اللغة العربية وتطورها كثيرة، إن كان من حيث طرق تعليمها وتدريسها، أو من حيث نوعية البحوث المحدودة النطاق، والتي تتكرر دائما، دون الولوج إلى الجديد، منهجا وبحثا وتطبيقا. وخصوصا في علوم اللغويات وهندستها، والصوتيات، وتأثير اللغة على تطور المجتمعات وتقدمها الخ…
ولكن يبقى القاموس العربي وتحديثه، من أهم مشاكل اللغة العربية اليوم. ويعود ذلك بالدرجة الأولى، إلى ثراء اللغة العربية، من حيث عدد مفرداتها، الذي يفوق اثنتي عشر مليون كلمة. وإلى عدم تحديث القواميس العربية بشكل دائم، شكلا ومضمونا ومنهاجا، وإخراجها من أثوابها القديمة، وإعطائها صفات حداثية، تتناسب مع المعطيات التقنية. وكذلك إدخال الجديد عليها من المصطلحات العلمية. والأهم من ذلك، هو عدم وجود مكان للقاموس العربي في حياة الطلاب العرب، في المراحل الدراسية، والعمرية المختلفة، لعدم وجود قواميس جادة وغير تجارية باللغة العربية في متناول أيدي الطلاب، تتناسب مع مراحل التعليم المختلفة. مع ملاحظة أن تحديث قواميس اللغة الفرنسية، والإنكليزية، والإسبانية، وغيرها… يتم دوريا كل عام. ويدخل عليها بالتالي عشرات الكلمات والمصطلحات. بينما ما زال قاموسنا يكرر نفسه من كل النواحي، بالرغم من وجود مجمعات عديدة للغة العربية، ومراكز بحوث أكاديمية متخصصة في تطور اللغة العربية، وتجديد قاموسها. في الوقت الذي نجد في مكتبة كل بيت، ومحفظة كل طالب في الدول الأوروبية قاموسا، يتناسب مع عمره، والمرحلة الدراسية التي هو فيها. ونجد كذلك في كل فصل دراسي قاموسا، يلجأ إليه المدرس، ويستعين به، وإن كان يعرف معنى الكلمة والمصطلح. وذلك لكي يربط الطلاب بالقاموس، ويلفت نظرهم إلى أهميته في تحديد معاني المفردات، واستقاء المعرفة. بينما يقوم المدرس في بلادنا بالاجتهاد والتأليف، والاختراع، وكثيرا ما يجانب الصواب…!
إن الاحتفالات باللغة العربية، لا تطورها، ولا تخرجها من مآزقها ومشاكلها التي تعاني منها إلى بر الأمان، والحداثة، وإلى مصاف اللغات الإنسانية العالمية الأخرى. ولهذا لا بد من إطلاق مشاريع بحوث لغوية مدروسة، ومعدة جيدا، على كل الأصعدة. تتضمن إعادة صياغة قواعدها، بأساليب جديدة حديثة، تتلاءم مع العصر. وكذلك نحت الكلمات والمصطلحات الجديدة، واجتراحها، في مجالات العلوم المختلفة، وإدخالها إلى القواميس، ووضعها في متناول الباحثين والطلاب، أي إخراج جهد علماء اللغة الذي بذل، ويبذل، من محبسه في دوريات ونشرات المجامع العلمية اللغوية وخزائنها. وكذلك إطلاق مشاريع دراسات لغوية متطورة، من خلال مؤسسات ومجامع، لا تعتمد على جهد فردي محض، وإحياء قواميس السابقين، وتنقيحها، وطباعتها، ووضعها على مواقع إلكترونية، مع محركاتها، ليسهل البحث فيها واستخدامها. فأمتنا العربية، غنية بأساطين اللغة العلماء، الذين بمقدورهم التجديد، وفتح الباب أمام اللغة العربية لدخول العصر، فيما لو أعطوا الفرصة المناسبة، والإمكانيات لذلك. وفيما لو تم دعم مشاريعهم اللغوية. وكل ما ينقصهم اليوم هو الخليفة المأمون، الذي يتبنى، ويرعى نتاجهم، ويقدره، ويساعد على نشره…

القدس  العربي