• 21 آذار 2020
  • ثقافيات

 

بقلم : محمد تركي الربيعي

 

مع الانتشار السريع لفيروس كورونا، واضطرار قسم كبير منا إلى الالتزام بالمنزل، وفرض شكل من أشكال الحجر الصحي، أخذ كثير من رواد التواصل الاجتماعي والقراء يعكفون على مشاركة ونشر تقارير، أو روابط لكتب تتناول تاريخ الأوبئة خلال العصور. ولعل ما يلفت النظر في قسم كبير مما هو منشور اليوم في عالمنا العربي الأزرق، أنّ غالبيةَ هذه الكتب تتناول حوادث وأوبئة في عوالم أخرى، وبالأخص قصة الطاعون الأسود في أوروبا؛ بينما لا نعثر بالمقابل على تواريخٍ محلية بالشكل الكافي، بالإضافة إلى أن جزءا منها يتناول العلاقة بين هذه الأوبئة والإمبريالية. كما أنّ اللافت في بعضها الآخر، خاصة بعض المنشورات، هي حالة التضخيم في نسب الوفيات، حول الذين ماتوا في مدينة إسلامية في القرن الخامس عشر أو السادس عشر جراء وباء ما، كأن يقال مثلاً، إن الطاعون أودى بحياة مئة ألف شخص من هذه المدينة أو تلك، نقلاً عن مؤرخ ما عاش تلك الفترة؛ والإشكالية في هذه الأرقام أنّ حجم التهويل فيها وصل أحياناً إلى ذكر أعداد ربما تزيد عن أعداد سكان تلك المدن في ذلك الوقت! في حين يؤكد مؤرخون معاصرون، من خلال قراءتهم لتواريخ الأوبئة، أنّ بعض هذه الأرقام لا تبدو دقيقة على الأغلب، بل جاءت نتيجة للشعور بالخوف وغياب السجلات أكثر منها تقديرات فعلية لعدد الوفيات.
ولعل هذا التهويل هو ما نعيشه اليوم من خلال التشكيك أحياناً ببعض الأرقام، أو القول بأنّ هناك ملايين الوفيات المقبلة، وهو أمر، للأسف، لا يقتصر ترديده اليوم على الناس العاديين، بل بات يشمل أيضاً تصريحات السياسيين، كما في حال رئيس الوزراء البريطاني، الذي تحدث عن قرب عودة مشاهد الموت الجماعي، التي عرفتها بعض مدن القرون الوسطى الأوروبية.
وبالعودة إلى بعض التواريخ المحلية واليوميات التي سجّلها عدد من محدثي الكتابة عن الأوبئة في القرن الثامن عشر، والتعبير هنا للمؤرخة دانا السجدي، التي كتبتها مجموعة من الأفراد من خارج حلقة العلماء (تجار/ حلاق/ مزارع)، فإن ما يلفت النظر أنهم سجلوا لنا معطيات ومعلومات وفيرة عن تعامل الناس مع هذه الأوبئة، والأهم من ذلك أننا نعثر في كتاباتهم على إحصائيات وأرقام أقل تضخيماً، وهو ما يعكس ربما وعياً جديداً بأسلوب التعامل مع هذه الأوبئة، وقدرة أفضل من الأهالي والسلطات المحلية، على حصر المرض مقارنة بالقرون السابقة.
ومن بين التواريخ التي تحمل هذا النفس الجديد، في إحصاء وتسجيل وفيات مرضى الطاعون، هناك كتاب «حوادث حلب اليومية 1771- 1805» الذي ألّفه تاجر مسيحي حلبي يدعى يوسف بن جرجس الخوري. إذ لا نعثر في هذا الكتاب على صور ومشاهد من يوميات الناس مع الطاعون في حلب وحسب، الذي يبدو أنّه اجتاح المدينة أكثر من مرة، خلال القرن الثامن عشر، بل نعثر أيضاً على تصرفات وسلوكيات طبية ووقائية، اتبعها جزء من أبناء المدينة، وهي سلوكيات لم تكن موجودة في السابق، كما يبدو، بالإضافة إلى ما ذكرنا سابقاً، نقرأ في يوميات تاجرنا الحلبي عن أرقام وإحصائيات وأسماء بعض ممن أصيبوا بالطاعون قبل أن (تنيح أرواحهم/أي تستريح) وفق تعبيره.
مؤلف اليوميات هو رجل ثري، ذو منزلة واعتبار عند طائفته، وعند المجتمع الحلبي عامة، وقد ألف كتابه بأسلوب يجمع بين الفصحى والعامية، وهو أسلوب امتاز به كل محدثي الكتابة خلال هذا القرن. وعن أحوال الطاعون، يأتي التاجر يوسف على ذكر ما عرفته المدينة من أهوال هذا المرض بين عامي 1785/1787. فيذكر أنّ هذا المرض وصل إلى عكا في يناير/كانون الثاني 1785، وقد ورد إليها من مصر، «كان ساكنا سنتين هناك»، كما يذكر، ومن عكا أخذ يمتد نحو صيدا وبيروت وما يليها، ليحصد مئات الأرواح. وقد شهد له أناس يثق بهم أنه في قرى قريبة من بلدة بيروت ومن شدة الخوف، كان إذا أصيب أحدهم بالطاعون يترك ليموت في مكانه، وأن رجلاً هرب من قريته خوفاً من أن يطعن، لكن بعد هروبه بلغه خبر حول إصابة زوجته بالمرض وموتها، ولأنه كان يخشى المرض، اتفق مع خمسة رجال على الذهاب إلى منزله ودفنها مقابل الحصول على حليها، لأنهم كانوا ميسوري الحال؛ فمضوا إلى هناك ودفنوها، لكنهم سرعان ما أصيبوا بالمرض وماتوا بدون أن يدفنوا. هذه الحكاية التي قد تكون صحيحة أو رمزية، تعكس بشكل أو بآخر حالة الخوف والهلع الذي كان الناس يعيشونها، كلما سمعوا بقدوم الطاعون، ويبدو أنّ تاجرنا قد وظّفها منذ البداية في سرده لليوميات، لإيصال رسالة للقارئ حول القلاقل التي عرفها الناس آنذاك، وكيف كانت تؤثر في رؤيتهم للأحداث والموت والأقدار (خمسة رجال يطعنون في الوقت نفسه ويموتون بدون دفن) أي مرض هذا؟
يكمل يوسف حديثه عن رحلة الموت المقبل إلى حلب، فيذكر أنّه في هذا العام نزل عدد كبير من أهالي الساحل ومن المقادسة إلى المدينة، وكانوا مطعونين، «وما أن وصلت المدينة في حزيران حتى وقع المرض». هنا يذكر لنا، وخلافاً لبعض الأرقام التي بالغت في تسجيل عدد الإصابات، «أنه من أول يونيو/حزيران إلى 20 يوليو/تموز، مات من المسيحيين مقدار سبعين أو ثمانين، ومن المسلمين لا نعلم». ويبدو أن المرض قد تراجع بعد ذلك، إذ لا يذكر لنا أي تفاصيل عن هذا العام، قبل أن يعود ليسجل أحداث الطاعون بعد ذلك بعام، حيث نعثر على تفاصيل تتعلق بكيفية تعامل هذا التاجر وجزء من مسيحيي المدينة مع الطاعون، ففي يناير/كانون الثاني انتشر المرض في إدلب وجسر الشغور، ما دفع بعض العرب من هذه المناطق للهرب إلى باب النيرب، وخارج باب المقام. كما وقع ما يقارب الـ9 مسيحيين و100 من المسلمين، يقول «ما عدنا نزلنا على المدينة، بل مكثنا في البيت من غير طلوع وهذه الجمعة الثانية بعد العيد، صار أخف من التي قبلها، لأن صار هواء وبرد واستقمنا متحجبين إلى 21 إبريل/نيسان سنة 1787.. وقد بقينا كذلك إلى يوم عيد ماري الياس الحي قبل أن ينقطع تقريباً في 16 تموز» .
لا يقتصر صديقنا التاجر على ذكر هذه التفاصيل فحسب، بل يأتي أيضاً على ذكر بعض أسماء من قضوا في تلك الفترة، بالإضافة إلى عدد الوفيات من المسيحيين في كل يوم خلال هذه السنة، فمثلاً يذكر أنه في 20 حزيران توفي ما يقارب 58 مسيحياً من بينهم خطيبة نقولا بنت قس أنطوان شاهيات، كما يذكر أنّ عدد الوفيات قد بلغ ما يقارب 2475، بناء على معطيات جمعها من الحفارين ومتولي التربة، الذين لم يمت أحد منهم في كل هذا الطاعون، ولا يبين لنا سبب ذلك.

ولكن كيف عاش الناس يوميات الطاعون؟
نعثر في يومياته على بعض المشاهد، تلك التي تتعلق بارتفاع الأسعار، وغياب القمح والشعير، وقدوم خلق كثير إلى المدينة وسكنهم في أحياء عديدة. كما يذكر في هذا السياق طرق التعامل مع المتوفين، إذ يأتي على ذكر حادثة إجبار أحد القسيسين المشيعين على إعادة جثمان أخيه من المقبرة إلى الكنيسة، ودفنه هناك، ما أثار اعتراضات خوفاً على رعايا الكنيسة من انتشار المرض، فما كان من القس إلّا أن شتم المعترضين بقوة. كما يذكر أنّه مع انتهاء الطاعون لم تعد الأمور على حالها بسرعة، فالغلال بقيت قليلة، ما أدى إلى ارتفاع الأسعار أو بقائها كما كانت خلال غزو الطاعون للمدينة.
من جانب آخر، فقد مثّل حديث يوسف عن العزل في المنزل لعدة أسابيع مدخلاً مهماً لعدد من المؤرخين المعاصرين، لإعادة النظر في طرق تعامل الناس مع الطاعون خلال هذه الفترة، فقد لاحظ المؤرخ في جامعة تكساس إبراهام ماركوس في كتابه «الشرق الأوسط عشية الحداثة.. حلب في القرن الثامن عشر»، أنّ الأرقام والإحصائيات وطريقة العزل التي ذكرها التاجر الحلبي تمثّل معطيات جديدة عن تلك الفترة، وعن علاقة الناس بالمرض والطب وحتى بالدين؛ فعلى صعيد الأرقام، نجد أنّ البعض قد تحدثت عن وفاة 120000 وهي أرقام تبدو على الأغلب غير دقيقة وتعكس شعوراً بالخوف. وربما الأرقام التي ذكرها التاجر يوسف تؤكّد هذا المعطى، وهذا ما يؤكده كذلك إحصاء باتريل راسل في كتابه (حلب التاريخ الطبيعي)، إذ ذكر أنه خلال عامي 1761 و1762 فإنّ هناك ما يقارب الـ 11883 حالة وفاة ودفن جرت، اعتماداً على تقارير من مراقبين ضمن المقابر، خلافاً للأرقام التي تحدّثت عن وفاة 50000 وأكثر في ذلك العام. ما يلاحظ هنا أنّ الإشاعات وتضخيم الأعداد والخوف، كانت أول رد فعلي من قبل الأهالي لتفسير أو تصوير ما يجري. لكن حتى في هذا الجو من الشك والخوف، يذكر إبراهام، أنّ المجتمع الحلبي بقي محافظاً على حسن تصرفاته. لم يحدث هناك أي رعب أو هروب عام من المدينة، فقد بقيت الأسواق مفتوحة واستمر قسم كبير من الناس يقضون أعمالهم. هذا لم يكن يعني أنّ محاولة الوقاية منه لم تكن في الحسبان، غير أن الظروف الاقتصادية، بالإضافة إلى عدم الإحاطة الكافية بالمرض، كانت تحول أحياناً دون التزام الجميع، أو بالأحرى لا تتيح للجميع أخذ الاحتياطيات الكافية ذاتها. ومما يلاحظه إبراهام هنا أن بعض العائلات المسلمة، خاصة الثرية بينها، التي اعتبرت خطر العدوى جدياً بما فيه الكفاية، لزموا بيوتهم أو انتقلوا إلى خارج المدينة بشكل مؤقت، وهو خيار كان يعكس تغيراً في تصرفات العائلات الميسورة. كما أنّ اليهود والمسيحيين، وبحكم قربهم من بعض الأوروبيين القاطنين في المدينة، استطاعوا أن يتعرّفوا على المعارف والاحتياطات الجديدة التي ينبغي اتباعها، وهذا ما بدا من خلال حجزهم لأنفسهم بشكل منتظم وشديد، ضمن أماكن سكنهم خلال فترات انتشار الطاعون، كما بيّنت يوميات الحلبي وشهادته المذكورة سابقاً، وبالإضافة إلى العزلة المحدودة، كان هناك بعض الإجراءات الأخرى التي اتّبعها أهالي المدينة، مثل الامتناع عن زيارة المرضى، وتجنّب حضور الجنائز، كما قام غالبيتهم بمغادرة منازلهم عند إصابة أحد أفراد العائلة بالمرض. ومما تكشفه السجلات الشرعية، فإن ّالطاعون استطاع اختراق منازل بعض العائلات الثرية، لكن ضرره كان محدوداً بشكل عام بالنسبة لهذه الشريحة من المجتمع، كما أن نسب الوفيات بين المسيحيين كانت أقل من جيرانهم المسلمين. وبالتالي تكشفُ لنا يوميات الحلبي، ولاحقاً الدراسات التي انطلقت من يومياته لإعادة دراسة تاريخ المدينة، أنّ القرن الثامن عشر قد عرف تعاطياً جديداً مع الأوبئة في المدينة، مخالفاً لعادات الوقاية السابقة، كما أنّه أسهم في تقديم إحصائيات وأرقام أكثر دقة حول عدد الوفيات مقارنة بأرقام بعض العلماء الذين بالغوا أحياناً في النسب والأرقام.

 القدس العربي