• 19 تموز 2020
  • ثقافيات

 

عمّان- أخبار البلد -  ناقش أكاديميون ومسؤولون عرب سابقون وإعلاميون مضامين كتاب "المدينة العربية والحداثة" للمفكر والمؤرخ وسفير لبنان في مصر ومندوبها الدائم في الجامعة العربية سابقاً د. خالد زيادة، في لقاء نظمه منتدى الفكر العربي  الأسبوع الماضي وأداره وزير الصناعة والتجارة ووزير المالية الأسبق والأمين العام للمنتدى د. محمد أبو حمور، وشارك في المداخلات وزير السياحة والآثار الأسبق وأمين عمان الكبرى السابق عقل بلتاجي، ومحافظ الاسكندرية السابق د. هاني المسيري، والإعلامية اللبنانية في القسم العربي بتلفزيون B.B.C- جيزال خوري، وأستاذ الفلسفة المغربي د. المهدي مستقيم، والمؤرخ ومدير عام مركز الحسن بن طلال لدراسات القدس/ عضو المنتدى د. محمد هاشم غوشه، والأستاذ في الجامعة اللبنانية ورئيس لجنة الثقافة في بلدية طرابلس بلبنان د. باسم بخاش .

أوضح مؤلف الكتاب المؤرخ والمفكر د. خالد زيادة أن المدن العربية الأكثر تأثرًا بالتحديث العمراني، ونمط العيش والعادات هي المدن – المرافىء التي كانت في الماضي تستقبل الجاليات الأجنبية والقناصل، وتوسعت فيها أعمال التجارة مع أوروبا منذ بدايات القرن التاسع عشر؛ مشيراً إلى أن كتابه "المدينة العربية والحداثة" الصادر عن دار رياض الريس للكتب والنشر في بيروت، يتناول التطورات التي لحقت بالمدن العربية، وخصوصًا المدن المتوسطية، والتي بدأت تظهر ملامحها بوضوح مع المؤثرات الغربية خلال تلك البدايات، وأول هذه المدن القاهرة بفعل الإجراءات التي أنجزها نابليون بونابرت خلال حملته على مصر، والتي شملت هدم معالم وشق طرقات، ثم كانت التطورات اللاحقة التي عرفتها القاهرة والاسكندرية خلال عهد محمد علي باشا . وذكر الرائد التنويري رفاعة الطهطاوي خلال مروره بالاسكندرية في طريق رحلته إلى باريس إن اسكندرية أشبه بمدينة أوروبية. ومن بين المدن التي عرفت المؤثرات الأوروبية الحديثة مدينة بيروت، والتي بدأت معالمها بالتبدل خلال حملة إبراهيم باشا على بلاد المشرق العربي، فيما كانت استامبول أو الآستانة عاصمة الدولة العثمانية أول المدن التي ظهرت فيها المؤثرات الغربية قبل ذلك بقرن من الزمان .

وأضاف د. زيادة أن التحديث مرّ بثلاث مراحل تمثلت في المرحلة الأولى بما قام به الحكام المصلحون أمثال محمود الثاني في استامبول ومحمد علي باشا وإسماعيل باشا في القاهرة، وخلال هذه المرحلة كان ثمة اندفاع في تمثل أنماط العمران والثقافة والعادات الأوروبية، بما في ذلك إقامة المؤسسات البلدية. ثم كانت المرحلة الثانية التي تعرف بالمرحلة الاستعمارية في البلاد العربية، التي شهدت خلالها المدن التخطيط وفق العقلانية الغربية دون الأخذ بالاعتبار البيئة والثقافة. كذلك فإن الإدارات الاستعمارية كانت تهدف إلى تأمين مصالحها التجارية بالدرجة الأولى. وخلال هذه المرحلة أصبح التناقض بارزاً بين الحيّز الحديث والحيّز القديم  في المدينة الواحدة، وهذا التناقض لا يقتصر على الجانب العمراني، وإنما على الجوانب الثقافية كذلك، فإن الحيّز القديم أصبح مركزاً وموقعاً لمناهضة الاستعمار.

وقال د. زيادة حول المرحلة الثالثة : إنها كانت مرحلة ما بعد الاستعمار، حين برزت الحكومات الوطنية التي اندفعت هي الأخرى في التحديث ورسم الخطط العمرانية والتنموية، وتحت سلطة حكومات ما بعد الاستعمار تضخمت العواصم بسبب الهجرة من الأرياف الإدارية والتجارية والصناعية. وخلال ذلك بدأت الأزمات بالظهور من حيث نمو الضواحي أو العشوائيات، التي تنقصها الخدمات الأساسية من كهرباء، وشبكات مياه وصرف صحي، والتي كانت تضطر السلطات إلى تشريعها تفادياً للأزمات الاجتماعية.

كما أشار د. زيادة إلى الكيفية التي تتم من خلالها دراسة المدن بين المؤرخين وعلماء الاجتماع، وقال: إذا كان المؤرخون يخبروننا بما اندثر من المدن التاريخية، التي لم يبق سوى القليل من معالمها العمرانية التراثية، فإن علم الاجتماع الحضري الذي تأثر بأعمال ماكس ڤيبر وجورج زيمل، واشتهرت في أبحاثه بشكل خاص مدرسة شيكاغو في غضون النصف الأول من القرن العشرين، لكنها لم تعد قادرة على تفسير التطورات التي تشهدها المدينة، فيما الأعمال الأكثر جدّة من هنري لوفيفر صاحب كتاب "الحق في المدينة"، إلى ديفيد هارفي صاحب كتاب " مدن متمردة"، إلى آصف بيات صاحب كتاب" الحياة كسياسة"، نجد فهماً جديداً للتطورات التي تعيشها المدن من جهة أزمات النمو والإخفاقات التي واجهها التحديث العمراني وفشل السلطات في استيعاب التحولات الاجتماعية والاقتصادية .

وقال الوزير الأسبق والأمين العام لمنتدى الفكر العربي د.محمد أبو حمور في كلمته: إن المدينة العربية الحديثة والمعاصرة هي البيئة التي تشكلت فيها المجتمعات، والتي تؤثر تأثيراً كبيراً في التجربة الحضارية والمفاهيم الجديدة لها . وعلينا في هذا الصدد أن نطرح التساؤلات حول أسباب انقطاع المدينة العربية عن ماضيها، وما إذا كان هذا الانقطاع جزءاً من مشكلة الانقطاع الثقافي وسقوط القيم وتلاشي التصورات للمدينة العربية في عصور ازدهارها، وبالتالي تشخيص عوامل فقدان الخصائص التي تميزت بها المدن العربية عندما طغت عليها الطوابع الثقافية والعمرانية والهياكل الاقتصادية الأجنبية بفعل الهيمنة الغربية والاستعمار، وعلاقة ذلك بالغربة ومظاهرها لدى كثير من المجتمعات، والذي أصبح مع طول المدة شعوراً مستحكماً لدى الإنسان العربي .

وأضاف د. أبوحمور أن دراسة المدن على النحو الذي انتهجه د. خالد زيادة في هذا الكتاب وغيره من مؤلفاته، هو جزء من إعادة كتابة التاريخ بالاستفادة من مناهج البحث الحديثة ولا سيما مناهج علم الاجتماع، وتوسيع أفق الدراسة التاريخية، كما أن رصد أثر الحداثة في سيرة المدن العربية يطلعنا على أنماط العلاقات داخل المجتمعات نفسها، سواء كانت مجتمعات مدنية أصلاً، أو مجتمعات ريفية أو حتى بدوية الأصول انتقلت إلى المدينة واندمجت فيها، أو تأثير الهجرات بين المدن من الريف ومدن أخرى بل وبلاد أخرى . ودعا د. أبوحمور إلى فهم طبيعة التنوع ومصادره في المجتمعات المدينية العربية، قائلاً: إن الحياة الحديثة والعولمة التي اجتاحت مجتمعاتنا غطت على الكثير من مكامن حل المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وهو الحل الذي يحتاج إلى فهم الجذور والأسباب وراء الأزمات التي تعاني منها أكثر المدن.

وأكد محافظ الإسكندرية السابق د. هاني المسيري ضرورة الحفاظ على هوية المدينة وآثارها وتراثها، ولا سيما مع تكاثر المدن الريفية حول بعض المدن كما في حالة الاسكندرية؛ مشيراً إلى أن عدد القاطنين فيها يتراوح في أوقات معينة مثل الصيف ما بين 9 – 12 مليون .

وأوضح د. المسيري أهمية تعريف الأجيال الجديدة بتراث مدينتهم؛ مؤكداً أن الثقافة تفوق التعليم في الحفاظ على الهوية، وأن تطوير البنية الأساسية ينبغي أن يراعي سمات أصالة المدينة كأن لا يكون التطوير على حساب سمة تميز المدينة كالبحر ورؤيته في الاسكندرية، وبالتالي توسيع الرؤية لاستثمار الميزة في إيجاد موارد جديدة للدخل كالسياحة العلاجية والتعليم .

كما أشار د. المسيري إلى أن عقبات التمويل وتضاؤل الوجود الثقافي هما من أبرز المشكلات في تطوير المدن وفي الوقت نفسه الحفاظ على هويتها .

وبيّن وزير السياحة والآثار وأمين عمّان الكبرى سابقاً عقل بلتاجي في مداخلته أن القرن الحادي والعشرين يوصف بأنه قرن المدينة، إذ تعد المدينة اليوم مصدراً للحياة في جوانب كثيرة، وهناك علاقة أصبحت وثيقة بين الإنسان والمدينة، فقد عرّف أرنولد توينبي التاريخ بأنه جغرافيا متحركة، وقياساً على ذلك يمكن القول إن التاريخ أيضاً هو ديموغرافية متحركة بين مدن العالم .

ودعا بلتاجي إلى العمل على إثراء الجوانب الثقافية للمدن، وقال إن هنالك تراثاً عمرانياً يجب المحافظة عليه بشتى الوسائل، والحيلولة دون أن تؤدي الحداثة إلى تغييب هذا التراث وضياعه إلى الأبد؛ مشيراً إلى أن عمّان التي عانت من الزيادة السكانية المتسارعة ووصل عدد القاطنين فيها حوالي خمسة ملايين نسمة، تحتاج إلى المزيد من الاهتمام والوعي بالمحافظة على طابعها التراثي، محذراً من السلوكيات المتغولة على هذا التراث بسبب الزيادة السكانية .

واعتبرت الإعلامية اللبنانية المعروفة جيزال خوري من القسم العربي في إذاعة B.B.C أن ما يدعو للقلق هو ترييف المدينة العربية، مما يخضع التطور والحداثة والديمقراطية وحرية التعبير لمفاهيم قبلية مختلفة تماماً، ذلك أن أفكار التطور يفترض أن تبدأ في المدينة وتطبق فيها ثم تنتقل إلى ما حولها، وعكس ذلك يعني وجود عقلية ضد دولة القانون .

وأشارت خوري إلى ما تحدث عنه أمين معلوف في كتاب جديد له عن الغرق، حينما استخلص أن هدم بعض المدن التي حملت بذور التطور والتعددية والتنوع والتواصل بين الشرق والغرب، كان في الواقع هدماً ترتبت عليه هزيمة على أكثر من صعيد .

وتناول أستاذ الفلسفة د. الهادي مستقيم من المغرب ضرورات الاستفادة من نتائج المقاربات الدراسية لمشكلات الحداثة في المدن العربية، ولا سيما في ما يتعلق بالمدينة كمجال للعيش المشترك الذي يمهد لمعالجة العديد من الأزمات ومنها الطائفية؛ مشيراً إلى أن كتاب د. خالد زيادة يحفز الباحثين العرب على الخوض في الناحية السوسيولوجية للمدينة العربية، وينبه إلى أن التخطيط للمدن ليس مقتصراً على المهندسين والمساحين وإنما أصبح علماء الاجتماع والانثروبولوجيا والاقتصاد والسياسة هم من المخططين أيضاً، كما أصبح فهم العلاقات الاجتماعية داخل المدينة ضرورياً لفهم كيفية تشكلها .

وأضاف د. مستقيم أن التركيز على دراسة الجانب الاجتماعي في الحياة الحضارية يؤدي إلى فهم الكائن الإنساني داخل المدينة، والعوائق التي تحول دون تحقيق مدينة عربية بالمعنى الحقيقي، أي فهم عوائق الوعي، فلا يمكن أن نتحدث عن مدينة عربية حديثة في ظل وعي تقليدي، أو على أنقاض ثقافة ماضوية، والوعي الحديث يعني إنساناً حديثاً مستوعباً لسنّة التطور .

وتحدث المؤرخ ومدير عام مركز الحسن بن طلال لدراسات القدس د.محمد هاشم غوشه حول التجربة الحضارية التاريخية للمدن العربية منذ العصر الأموي؛ مشيراً إلى أن الخليفة مروان بن عبد الملك اهتم بربط المدن بشبكة من الطرق، وتطور هذا الاهتمام في العصور اللاحقة ولا سيما العصر المملوكي الذي أقيمت خلاله جسوراً على الطرق بين المدن.

وركز د.غوشه في مداخلته على تأثير التغلغل الغربي في المدن الفلسطينية خلال القرن التاسع عشر من جانب الأوروبيين ومنهم الروس والألمان، إذ بدأت هذه المدن تتطور خارج أسوارها القديمة كما حدث في يافا وحيفا والقدس، فنشأت أحياء عصرية تحولت بدورها إلى مدن بشوارع كبيرة ومبانٍ حديثة الطراز، وخرجت الطبقة المقتدرة لتسكن خارج الأسوار . وقد أسهمت شبكة الطرق والتعليم الحديث في هذا التطور، وفي عهد الانتداب البريطاني أصبحت في المدن موانىء جوية ومطارات كما في اللد وغزة وأريحا والقدس- قلنديا، وعرفت القدس أحياء عصرية مثل القطمون والبقعة . وزادت مدن فلسطين تطوراً مع دخول الكهرباء إلى البلاد، ما ساعد في تطور الصناعة والزراعة والتجارة مع الخارج بسبب سرعة الإنتاج كما في بيارات البرتقال بيافا التي كانت تصدر ملايين الصناديق من الثمار كل عام، غير أن الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين جعل الزمن وكأنه بات متوقفاً في مدنها العربية التي اتسمت بالحيوية والنشاط قبل هذا الاحتلال .

ومن جانبه، قال الأستاذ في الجامعة اللبنانية ورئيس لجنة الثقافة في بلدية طرابلس بلبنان د. باسم بخاش: إن كتاب د. خالد زيادة يساعد على فهم أسباب التغيّر في المدن العربية بطريقة سوسيولوجية جديدة، وخاصة ازاء مشكلات تبدل المعالم والأحياء، وتضاعف أعداد السكان، وفقدان التراث والهوية؛ مشيراً إلى أن مثل هذه المشكلات تعانيها أيضاً مدن أوروبية وليس فقط معظم المدن العربية، لكن المدينة العربية ما تزال تفتقد إلى اللمسات الجمالية التي تجدها في مدن أوروبا من خضرة وجمال، وتطور في أفكار الإنسان نفسه .

وأضاف د.بخاش أن المدينة العربية تعاني الانقسام بين مدينة شرقية وغربية أو منطقة فقيرة ومنطقة ثرية، أو مدينة قديمة ومدينة جديدة، وذلك جراء ما قسمه الاستعمار، وهذه التقسيمات أدت إلى ظهور العشوائيات والفوضى في التنظيم واجتياح الساحات العامة والشواطىء في المدن الساحلية؛ محذراً من أن الفوضى التي تسببت بها تناقضات الحداثة كانت بالنتيجة أخطر من تأثير الحرب .

واعتبر د. بخاش أن مشكلات المدينة العربية تأتي من انعدام التخطيط الجيد وقلة الكفاءة وسوء التنفيذ، وعدم احترام القوانين والاستهتار بها؛ داعياً إلى مقاربات جديدة لفهم التحولات وإعادة النظر في المناهج، ومشاركة المفكرين في صناعة القرار، والاهتمام بالتنمية المستدامة والشاملة حتى لا تصبح المدن التي تعاني مثل هذه المشكلات منفرة وغير قابلة للحياة .