• 25 تموز 2020
  • ثقافيات

 

بقلم : تحسين يقين

 

-       لماذا الرواية!

-       تعجب لا استفهام!

-       فنيا وأدبيا، شكلت وعاء إنسانيا ومقترحا أدبيا جماليا للحياة، ومنها ومن القصة، اتجهت الى السينما والمسرح والتلفزيون. ولعلها الشكل الأدبي، الذي يحتمل مجمل حياة الأفراد وتفاصيلهم، وما يمرون به من تغيرات وتحولات، والمجتمع والعالم. ولعل وصف النقاد نجيب محفوظ بأنه ضمير عصره، يعني ما يتجاوز هذا المعني الخلقي، لما هو أكثر سموا، وهو التعبير عنه، بشكل نقدي فلسفي باتجاه التغيير والإنسانية.

-       ........

فمرة أخرى، نجد أنفسنا رابطين المضمون بالشكل، بل لو تأملنا سنجد أن الشكل هنا هو جزء من المضمون؛ فمن المهم الآن، ونحن نتحدث عن الرواية، رصد المضامين الجديدة في الروايات العربية المعاصرة، وكيف استدعت أشكالا جديدة، أي كيف تجلت في الأسلوب، وهنا سنكون في وضع استراتيجي في رؤية تعامل الكاتب إبداعيا، شكلا ومضمونا، كونه أبا شرعيا لعصره ومكانه.

وبالطبع فإن المضامين الجديدة غير منفصلة عن المضامين الإنسانية الخالدة، فمنذ بدأ الإنسان يسرد حكايته، ويعبر عنها؛ فإن تقنياته الأسلوبية تتفاعل مع مضامينه، حتى ليصيرا واحدا هو الرواية ذاتها.

في ملتقى فلسطين الثالث للرواية العربية الذي تم عبر الإنترنت، لفت نظري محورا هاما، ألا وهو "الرواية وأنماط الكتابة الجديدة"، حيث ما زال يحضر بقوة، لا في النقاش والبحث، بل في الكتابة الروائية، ولربما، نستطيع الآن أن ندعي بأن تلك الكتابة الروائية هي تجريبية، تؤسس للرواية المعاصرة الآن وغدا. وقد تحدث فيه كل من دكتورة أميرة غنيم، من تونس، وكل من ناجي الناجي وتغريد الأحمد ونسمة العكلوك، من فلسطين. وكان للدكتورة أميرة غنيم تناولا عميقا في تناول الرواية شكلا ومضمونا عبر تأمل السرد وتقنيته.

ود. أميرة هي ناقدة اتجهت مؤخرا للكتابة الروائية، عبر روايتها "الملف الأصفر، لذلك جاء حديثها أكاديميا من جهة، و"مذوتا" من جهة أخرى؛ فهي تتحدث عن الإبداع السردي من خارجه كناقدة، وعنه كروائية انخرطت فيه، بناء على شغف بالكتابة، غير متخلصة تماما من الوعي النقدي. وذلك هو التحدي؛ حيث أن الناقد يحيا على الإبداع فعلا، وهو من يشكل النظريات، لكن حينما يأتي هو ليكتب، فذلك أمر آخر كون الإبداع شغف وتعبير لا ينطلق من القوالب تماما، وإن كان يعيها. وهذا ما حدث معها، حين انحازت لعالم الإبداع بدون شروط. لقد أبدعت فعلا في شهادتها العميقة، والتي ذهبت فيه الى جذور المضمون، والذي تركته "يختمر" عبر الشكل الفني.

وهي تتحدث عن الإبداع والتقنية، أعادتنا إلى ما جادل فيه الجاحظ وما اشتهر قوله " والمعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي والقروي والبدوي، وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ وسهولة المخرج وصحة الطبع وكثرة الماء وجودة السبك، وإنما الشعر صياغة وضرب من النسج وجنس من التصوير". وما جادل عليه عبد القاهر الجرجاني فيما بعد؛ حين ركزت "على الجانب التجريبيّ في الكتابة الروائية والتي تحاول، انطلاقاً من التجربة الشخصية أن تصف تردّد المنجز الإبداعيّ، بين إكراهات الجنس الأدبيّ، بما يستوجبه من شروط تقنية تحدد أنماط الكتابة، ووظائفها، وبين إشراقات الإلهام، وتمرده على النظامي بفوضاه الخلاقة"، رابطة ما بين القرن الثامن الميلادي (الجاحظ) والقرن الحادي عشر الميلادي (الجرجاني)، حيث لم يبتعد الجدل العالمي عن ذلك حتى الآن، وذلك حين تحدثت عن تيارين في الكتابة، الأول الذي يرى أن الرواية تقنية، إذ يرى هذا التيار أن كتابة الرواية لا تختلف عن كتابة البحث العلمي، مضيفة أن كل باحث جيدٍ يمكن أن يتحول إلى روائي جيد، إذا امتلك الخبرة الكافية وهذا التيار الذي شجعها لدخول السرد. أما التيار الثاني وهو أن الرواية ليست تقنية بل هي الهامٌ وموهبة".

أما ما أجادل فيه من كون المضمون يستدعي شكله، فلا فضيلة لأحدهما على الآخر، بل هما معا واحدا.

ومع الإشارة لأكثر من مكان للسرد الافتراضي، سنتذكر أعلام عرب وعربيات كانت رواياتهم الرائدة، دافعا لتخصيص ملتقى الشارقة للسرد العربي في الدورة 16 التي عقدت قبل عام تقريبا في عمان للحديث عن "واقع وآفاق الرواية التفاعلية".  ومنهم: محمد سناجلة، وعبد الواحد استيتو، وعبد الله النعيمي وريهام حسني ود. مشتاق عباس، وآن الصافي، وحوال 40 كاتبا، كتبوا ونشروا في الفضاء الافتراضي وورقيا. وقبلهم إبراهيم عبد المجيد (السايكلوب) وبشرى أبو شرار في تاج الياسمين، والأخيرة وظفت الفيسبوك في الحوار الروائي. *

بقراءة الواقع الأدبي وباستشراف المستقبل، يكمل ملتقى الشارقة للسرد العربي طريقه في الاهتمام الواعي بالسرد، والذي ارتبط منذ البداية بأساليب وتقنيات ومذاهب، كان للمضمون دوما، شكله، مرتبط بالعصر وأدواته، وأحداثه. لذلك نرى، أن ذلك كله يأتي في سياق جدلية العلاقة بين أسلوب العيش، سواء في الوصف الروائي لعالم الاتصال من خلال الانترنت، تماما كما كان حال التليفون، أو علاقات العالم الافتراضي في الاعلام المجتمعي، فيما يتعلق بشخصيات الرواية، كذلك الحال في تأثير ذلك كله على الكاتب نفسه في كتابته السردية في بعدها الذاتي-السيرة والشهادات.

فربما أن التفاعل-التواصل بين الكاتب والقارئ، أكثر دقة من وصف الرواية بحد ذاتها بالتفاعلية، كونها "تستخدم اللغة الجديدة والتقنيات المختلفة التي وفرتها الثورة الرقمية بما فيها النص التشعبي (الهايبرتكست) ومؤثرات "المالتي -ميديا" المختلفة في الفعل الإبداعي" كما يرى أحد المرجعيات في الرواية التفاعلية، محمد سناجله، الذي يكتبها ويجتهد باستمرار في التنظير الإبداعي عنها في إطار بحثه وتفكيره الهام حول النظرية العامة للواقعية الرقمية (في الشكل).

في مجال الكتابة الجديدة ومن منظور التواصل الاجتماعي، تحدث ناجي الناجي عن الأثرين الإيجابي والسلبي لذلك الفضاء الافتراضي على الكتابة بشكل عام والسرد بشكل خاص، فأما ما هو إيجابي فكان تحليق "تلك النصوص في فلكٍ أكثر رحابة للتعبيرِ عن الرأي، وأتاحتْ التماسَ ردودِ الأفعالِ المباشرةِ من القرّاءِ تجاهَ ما يُنشر، وكرّستْ مواهب جديدةً شقتْ سبلًا بعيدة عن تقليدية وسائل الصعود وإشكاليات النشر، وتوجّهتْ مباشرة إلى الفئات المستهدفة"ـ وأما ما هو سلبي فقد تعلق بالمستوى الفني نفسه.

 فيما مالت تغريد الأحمد إلى أمر آخر، تعلق بالحدث-المضمون، من خلال شهادتها عن روايتها "تحت خط النسيان"، التي بنتها كمتطوعة في مخيم لجوء باليونان بين 2015 و2017 إلى التوثيقية والمعايشة، وما يستلزم ذلك من قدرات تصويرية للمحيط من جهة ولداخل النفوس من جهة أخرى، لربما مبررة اهتمامها بالمضمون الذي انحازت له إنسانيا. وأظن أن الكاتبة نسمة العكلوك قد تمحورت مداخلتها حول المكان الجديد، المنفى الاختياري، في روايتها "نساء بروكسل"، حيث وجدت الفرصة للكتابة بأريحية أكثر.

وضمن هذا الاتجاه، أي منطلقات المضمون، كانت جلسات: "دلالات المكان في الرواية العربية والفلسطينية"، و"صور الهوية في الرواية العربية"، و"الرواية كخطاب ثقافي: التحديات والآفاق". بالإضافة لخصوصية فلسطين المحتلة، البلد المضيف، في جلسات: "أدب الأسرى" و"فلسطين في السرد العربي" و"السرد الفلسطيني في رواية اللجوء والشتات"، والذي أصبح يتقاطع مع اللجوء العربي المعاصر.

إن أنماط الكتابة الجديدة، لا تكون بالطبع كن فيكون، بل لها حالات من التكون، وصولا الى المخاض وما بعده من تجريب الحبو والزحف والمشي فالركض، ليؤسس لكتابة معاصرة تقف على أرض صلبة لا رخوة، وهذا ما يمكن أن ينطلق من المحترفون/ات، وكذلك من يبدؤون الكتابة الروائية؛ هناك قضايا قديمة وحديثة يعيشها الأفراد والمجتمعات، تشكل مجالا للتفاعل فكريا وإنسانيا وفنيا.

عربيا وعالميا، تشكل التحولات عصب الرواية بشكل خاص، وهي تنتقل وتتأثر زمانيا ومكانيا، أكان بسبب الوضع السياسي او الاقتصادي، أو حتى المرض، حيث سنجد قريبا نصوصا تعبر عن تحولات المجتمع خلال وبعد كورنا، لما للحياة الاقتصادية والاجتماعية دور في تشكيل شخصية الإنسان.

 فلسطينيا، فإن هناك أمورا ما زالت حاضرة، وعلى رأسها الاحتلال، إضافة الى ما جد من تأثيرات مرحلة أوسلو التي لم تقف عند التأثير السياسي، بل امتدت عميقا في الجذور، فكادت سلوكيات تنتهي، لتحل محلها سلوكيات جديدة، ارتبطت بنخب جديدة، ذات دخول اقتصادية عالية، أثرت كثيرا على دوافع المواطنين. فلم يكن سهلا ألا تؤثر علينا الليبرالية الجديدة، وما تبعها من سوق حرّ تحت الاحتلال، جعل ملامح الفقر الباهتة ظاهرة للعيان. 

لقد ساعد تبلور الرواية بعد عام 1967، على أيدي حفنة من روائيي/ات السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات، الذين استفادوا من المنجز الفلسطيني والعربي والعالمي، في تبلور الشكل الجمالي، الذي شكّل حاضنة لرؤية نقدية لما يدور من تحولات، حيث اشتبك الروائيون/ات مع هذا كله عبر تجريب جمالي وتفكير نقدي، تحلى بحس عال بالمسؤولية الوطنية والفكرية. 

ولأننا تفاءلنا بالملتقى الثالث، قبل أن يتم، فقد أشرنا قبل عام، ومن خلال كون الرواية هي نتاج وجسر، بين الأدب والحياة، حيث يصعب عزل الظاهرة الروائية عن ظواهر المجتمع الأخرى، لضرورة مشاركة علماء الاجتماع والنفس والسياسة، ولعلنا هنا في فلسطين نملك تلك الأصوات الأكاديمية التي تقدم لنا دراسات ثقافية اجتماعية تتناول الادب والفن. كما نكرر طموحنا أن يصار لاعتناء بأدبيات المؤتمر، من خلال نشر كتاب بأوراق الملتقى، ونشر على الأقل كتابين كل عام، حول الرواية الفلسطينية والعربية.

جميل أن يرسخ ملتقى فلسطين للرواية العربية مكانه في صدارة أشقائه في مصر وتونس ولبنان، والذي يتفعل من خلال قيادة شابة رغم الحصارين: الاحتلال والكورونا.