• 4 كانون الثاني 2021
  • ثقافيات

 

  بقلم: كايد هاشم

 

في ذكريات الطفولة والصبا أطياف من أماكن أحببتها، ورغم أن ما بقي منها في الذاكرة  لا تفتأ السنون ربما تقضم منه شيئاً وتباعد بينه وبين الحاضر ما وسعها ، إلا أن استرجاعها قد يمنح الذاكرة بعض حيوية ويستعيد ما كنت أظنه نسياً منسيا، وقد استشعر ما أقوله بعض الأصدقاء الذين تمنوا علي أن أتابع رواية ما في جعبة الذكريات من باب التبسط في الحديث، والاستراحة من الكتابات التي تقتضي جهداً مختلفاً في البحث والتنقيب، ولكل كتابة رونقها ومتعتها .

كنت في كل زيارة مع الوالدين إلى بيروت خلال أواخر الستينات وحتى سنة 1975، أقود حملة صغيرة مكونة مني ومن شقيقي الأصغرين، لمطالبتهما بالذهاب إلى أماكن ترضي رغباتنا الصغيرة بالحرية في معقلها فور أن تطأ أقدامنا رصيف شارع الحمرا، وأذكر منها - عدا البحر أو شارع الكورنيش - حديقة الصنائع، والسبب في قصدها أن نستأجر من محل كان بقربها دراجة هوائية بنصف ليرة أو أقل - لمدة ساعة في كل مرة، وكان صاحب هذا المحل كأنه مراقب الحديقة أو حارسها أيضاً، وقد يفاجئك في ممراتها قبل انتهاء الساعة ينادي عليك بالعودة لتسليم الدراجة، إذا سرت بها فوق المساحات أو الأحواض المزروعة بالنباتات أو المغطاة بالنجيل، أو حاولت أن تستعرض مواهبك البهلوانية وأديت مشهداً سينمائياً في قيادة الدراجة بسرعة وتهور  وضايقت المتنزهين المارين أو اللائذين بظلال الأشجار الجميلة المنسقة بذوق مبدع يدعوك إلى تذوق جمال الطبيعة وسط المدينة . 

في كل الزيارات لم أرتكب أو أحد أخوي شيئاً من هذه المخالفات وربما غفل أحياناً صاحب محل الدراجات عن خروجي من حدود الحديقة لأكتشف ما هو خارجها بفضول طفولي فأجد والدي - رحمه الله - يعدو خلفي ... كنت أتخيل بيروت عالماً يمكنني ذرعه على الدراجة الصغيرة ! 

والمهم أننا كسبنا ثقة صاحب المحل وأصبح يعرفنا ويتغاضى عن التأخير لبعض الوقت في إعادة الدراجة أو الدراجتين المستأجرتين، فنستمتع ولا نزهد في الجري "بالبسكليت" في أرجاء الحديقة، والوالدان يرقباننا من مسافة غير بعيدة ... هذه المراقبة العائلية لم نحسب حسابها، لكنها لم تحرمنا من متعة المغامرة و"الصنائع" الحديقة هي التي تعلمت فيها بالتجربة الساذجة حب الطبيعة واحترام الأشجار وكل ما هو أخضر حي، ولا سيما في رحلات الربيع التي كانت النزهة فيها كما نزهة في الجنة بنظرنا، خاصة عندما تأتلق شمس العصارى في سماء بيروت، وأفواج المتنزهين من أهل البلد والسياح كأنهم في صحبة أشعتها الرقيقة في بيت الأسرة الكبير  يتناثرون على المقاعد، وشيء من الهدوء يخيم على المكان يشرح النفس ويهدهد تعب المتعبين، ويرأف بالمتأملين والسارحين بأفكارهم والسائرين بين أشجار وظلال تختزن قصصاً وأحاديث وضحكات وأصداء أصوات جاءت يوماً إلى هنا ..

ذكرتني بهذه المشاهد لقطات من فيلم "حبيبتي" لفاتن حمامة ومحمود ياسين شاهدتها على يوتيوب مؤخراً، وكانت صُوِّرت في هذه الحديقة سنة 1974 كما قرأت من معلومات عن هذا الفيلم، الذي أخرجه هنري بركات، ووضع موسيقاه التصويرية الياس رحباني بمعزوفة يعشقها كثيرون من أبناء جيلي والبعض يعرفونها باسم "عازف الليل" المسلسل التلفزيوني الشهير لهند أبي اللمع وعبد المجيد مجذوب . 

المكان الثاني الأثير سوق سرسق القديم، والوصول إليه تبرره رغبة الأهل في التسوق من متاجره التي كانت بضائعها من الأقمشة والملابس أسعارها معقولة ولها جودتها المرغوبة، ونعد نحن الصغار مكافأتنا من مرافقتهم في رحلة التسوق المضنية لنا، أن نتوقف في داخل السوق لنتناول شراب "الجلاب" من عربة أو عدة عربات في وسط ساحة صغيرة، وإحدى هذه العربات تحمل كومة وافرة من الثلج المبروش يجرف منها البائع كمية تملأ شيئاً من الكأس الزجاجي النظيف ويصب عليه الشراب العنابي اللون ويضيف إليه بضع حبات من اللوز المقشور والمنقوع في الماء البارد، ثم يمنحك إياه لتطفىء ظمأ القيظ في أيام الصيف ... وقد تستزيد من هذا الشراب اللذيذ، وغالبأً ما استزدنا وعدنا لنتناوله وسط عجقة السوق وتزاحم رواده حول عربات "الجلاب" الفخمة ... ولكن يوم عدت إلى بيروت قبل بضع سنوات لم أعرف المكان الذي كان فيه سوق سرسق إذ اختفى نهائياً، وما زلت منذ ذلك الحين أشعر بالظمأ إلى أجمل أيام عشتها ... وكانت أيام !

في صور من ذكريات مقبلة سأتحدث عن أماكن أخرى في بيروت ومدن أخرى، إلى اللقاء .