• 9 كانون الثاني 2021
  • ثقافيات

 

بقلم : إبراهيم عبد المجيد

بين هذه التداعيات على التطبيع مع العدو الصهيوني، لم أجد أفضل من هذين الكتابين للباحثة الفلسطينية نائلة الوعري، أقدمهما لمن يريد أن يعرف بالتفاصيل كيف تمت المؤامرة الصهيونية. الكتابان يقدمان أعظم ما يمكن من معلومات وحقائق وأفكار وتحليل لتطورالقضية الفلسطينية، منذ منتصف القرن التاسع عشر، وهي البدايات التي كرست للمشروع الصهيوني. الكتابان كبيران يحتاجان إلى أكثر من مقال، وهذا المقال الموجز دعوة لقراءة الكتابين الأشبه بالملحمة.
الكتاب الأول عنوانه «دور القنصليات الأجنبية في الهجرة والاستيطان اليهودي في فلسطين 1840-1914» الصادر عن دار الشروق الأردنية عام 2007، والكتاب من خمسة فصول وملاحق درست خلالها الكاتبة الصراعات الأوروبية والأطماع الأورةبية والأمريكية في فلسطين، ونشاة القنصليات وما فعلته لتوطين اليهود. ركزت الباحثة على الفترة من 1840 إلى 1914 أي قبل صدور وعد بلفور، ما يؤكد على أن نظرة الغرب لهذه المنطقة قديمة، وأن الحركة الصهيونية غير منفصلة عن أطماع الغرب في المنطقة، واعتمدت على سجلات ووثائق يطول الحديث عنها وعن كتب للكثيرين، منها يوميات ثيودور هرتزل ومؤلفات عربية مهمة.
الفصول تتوالي فتعرف كيف دخل النظام القنصلي في فلسطين والشام بدعوى الحرص على امتيازات الدول الأجنبية، والادعاء بحماية الأقلية المسيحية واليهودية. لقد قدمت الدولة العثمانية كثيرا من الامتيازات للدول الأوروبية ومع ضعفها زاد الطمع في الامتيازات وازداد نفوذ القناصل وصارت أعمالهم لخدمة أهدافهم. إن أول محاولة لتوطين اليهود قام بها نابليون بونابرت عام 1798، غير أن اليهود في آسيا وأوروبا لم يتجاوبوا معه، إلى أن بدأ الحاخامات اليهود بالدفع لذلك عام 1833، وهو ما صار الأرضية الراسخة لما تم من استيطان. يمثل عام 1840 بداية فعلية لحركة الاستيطان، وتوجه الحركة الصهيونية إلى فلسطين ومنها، محاولة مونتفيوري أحد زعماء الحركة الصهيوينة مع محمد علي باشا، للحصول على امتياز استثمار منطقة الجليل في فلسطين وإقامة مستوطنات عليها، وفشل المحاولة بانحسار نفوذ محمد علي، ومحاولات كثيرة حتى أسس اليهود في فرنسا الاتحاد الإسرائيلي العلمي للمساعدة على الهجرة والاستيطان، وكذلك في إنكلترا تم تأسيس صندوف استكشاف فلسطين لذلك أيضا عام 1865 والأمر نفسه في ألمانيا وأمريكا وهكذا.
كان من أبرز قناصل إنكلترا جيمس فن، الذي عمل على تسهيل حياة اليهود والتدخل في حياة الفلسطينيين، كما فعل القنصل تيمبل مور على مساعدة اليهود في شراء الأراضي من الأجانب ـ لا الفلسطينيين من فضلك – وفعلت الأمر نفسه القنصلية الفرنسية، التي كانت تشتري الأراضي ثم تبيعها لليهود، وتفاصيل رهيبة عما اشتروه وباعوه. الأمر نفسه فعلته روسيا مع اليهود الروس، وتستطيع أن تمد الحبل لكل القنصليات وما فعلت ألمانيا مثلا من دعم القنصل الألماني لجمعية إغاثة اليهود الألمان، التي تأسست عام 1901.
حاولت الدولة العثمانية منع هجرة اليهود من روسيا ورومانيا وبلغاريا، لكنها فشلت فقررت منعهم من شراء الأراضي، لكن اليهود كانوا يشترونها بأسماء بعض العرب من غير الفلسطينيين، وبأسماء القناصل أو وكلائهم وبدأت تظهر المستوطنات وكانت الأراضي المباعة لهم كلها أميرية، لا يملكها أفراد فلسطينيون. لكن في عام 1901 تمتع اليهود العثمانيون والأجانب بحقوق الرعايا العثمانيين، فأصبح من حقهم شراء الأراضي والبناء عليها، فأدى ذلك إلى تنظيم وضع اليهود، الذين أقاموا في فلسطين بطريقة غير شرعية.
كان رد الفعل الفلسطيني كبيرا فظهرت المجلات والصحف مثل «الكرمل» و«فلسطين» تندد بما يحدث، وواكبت ذلك احتجاجات شعبية فلسطينية يطول الحديث فيها حتى تعرض بعضهم للقتل من السفاح العثماني جمال باشا، الذي اعتبرهم يريدون الانسلاخ عن الدولة العثمانية وشنق وقتل الكثير منهم، لكن ظلت المقاومة.
ويأتي الكتاب الثاني «موقف الولاة والعلماء والأعيان في فلسطين من المشروع الصهيوني 1856-1914» الصادر عام 2012 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، في أربعة فصول وخاتمة تتابع الجذور الأولى للمشروع الصهيوني من مرحلة التغلل، واستمرار أبناء الطائفة اليهودية في الضغط على الدولة العثمانية، لشراء الأراضي الأميرية، وبناء المؤسسات الاستيطانية والضغط على الدول الأوروبية لتشجيع اليهود على الهجرة إلى فلسطين.

وكان من أهم المشروعات الصهيونية مدرسة نيتر الزراعية في قرية يازور العربية قرب يافا، وما استخدمته من أراض واقامة مستعمرة بتاح تكفا على أراضي قرية ملبس قضاء يافا، وعلى أراض اشتروها من تاجرين مسيحيين هما سليم الكسار وانطون التيان، وكيف صارعدد سكانها عام 1900 مئة وسبعين عائلة يهودية، ومستعمرة ريشون ليتسيون على أراضي تبلغ مساحتها 2340 دونما من قرية عيون قارة ومستعمرة زخرون يعقوب في قرية زمارين، وحتى عام 1914 أقام اليهود 24 حيا مستعمرا في غرب القدس وغيرها، أنشأها البارون أدموند روتشيلد وتذكر أسماءها، وهكذا كانت معظم الأراضي تصل اليهود من الدولة والملاك الكبار غير الفلسطينيين، ولم يبع الفلاحون الفلسطينيون والإقطاعيون إلا قليلا جدا لا يذكر، رغم الاغراءات المادية التي عرضها اليهود، وكان الموقف الرسمي للحكومة العثمانية متذبذبا ما بين الرفض والمقاومة، لكسب ود الدول الأوروبية العظمى. وتقدم تفاصيل الرفض من فرمانات وقوانين تمنع الهجرة اليهودية ومحاولات هرتزل للتأثير في السطان عبد الحميد، الذي رفض بيع ولو قدم واحد من البلاد، لأنها ليست له، بل لشعبها ما جعل الحركة الصهيونية ترحب بخلعه من قبل حكومة الاتحاد والترقي عام 1909، وتولي السطان محمد رشاد الذي سار على نهجه، لكن ضعف الدولة العثمانية كان يجعلها أحيانا تلجأ للمراوغة والمداهنة، فتسمح ببعض التملك كما سمحت لفريدريك غليوم الثالث ولي عهد ألمانيا، بتملك أراضي قامت عليها الكنيسة الأنجيليكانية الألمانية، وكما أعطى السطان عبد العزيز الإذن لتشارليز نيتر عضو جمعية الإليانس الصهيونية في باريس بقطعة أرض من قرية اليازور، التي أشرنا إليها سابقا حتى نصل إلى موقف العلماء الفلسطينيين من المشروع الصهيوني، في الفترة نفسها والنهضة العلمية والثقافية في مواجهة المشروع، الذي قام به مثقفون وعلماء مثل أحمد سامح راغب الخالدي، وأحمد عارف الحسيني، وأسعد الشقيري وإيليا زكات، وحنا عبد الله عيسى وغيرهم، وميادين العمل ضد المشروع الصهيوني وفضح من يسعون لذلك من ولاة في الشام وفلسطين، ومن سماسرة متعاملين مع الحركة الصهيونية، كذلك الفتاوى التي كانت كلها ضد ذلك، وضد المتعاونين مع الصهاينة، ما دعا الحكومة الاتحادية العثمانية عام 1912 لإصدار أوامرها إلى أجهزة الأمن بإيقاف الخطب والفتاوى التي اعتبروها متطرفة ضد المشروع الصهيوني.
لقد رسخ العلماء والمثقفون فكرة أن بيع الأرض خيانة عظمى، ما كان له أثر كبير وتكون رأي عام نجح في فسخ عقود كثيرة مع الصهاينة أو إبرامها من الأساس، واستمر دور القناصل والدول الأوروبية في الضغط على الدولة العثمانية لإيقاف هذا كله، وأيضا تذكر أسماء من تورطوا في المسألة مثل مفتي طبرية، الذي أساغ بيع 3000 دونم من قرية أم جبيل للحركة الصهيونية، وكذلك تورط أبناء الشيخ عبد القادر الجزائري في دمشق في بيع بعض ممتلكاتهم في الجليل وكانت الحكومة العثمانية منحتها لوالدهم، بعد أن نفاه الفرنسيون من الجزائر، كما سهّل توفيق أيوب عضو مجلس إدراة قضاء يافا بيع 4700 دونم من الأوقاف. ثم ننتقل إلى موقف الأعيان من المشروع الصهيوني 1856-1914فنجد هنا محورا للمعارضة والتصدي ومحورا للمهادنة والاعتدال ومحورا للمسايرة والانحياز وكيف كانت طبقة الأعيان تملك مساحات شاسعة من الأراضي وأسماء العائلات المالكة بالتفصيل، وما يملكون وكان أكثرهم بيعا للأراضي للصهاينة عائلة سرسق اللبنانية، التي كانت لها إقطاعيات كبيرة في فلسطين، وعائلة آل التيان وهي مسيحية استقرت في يافا وبيروت. في النهاية وبعد إحصاء واعتماد على أوراق رسمية هائلة، لم يبع الفلسطينيون أرضهم كما يُشاع، واقرأوا الكتابين تعرفون كل المعلومات التي يغيبها المتعاونون مع الصهاينة.

القدس العربي