- 4 حزيران 2018
- من اسطنبول
إسطنبول - أخبار البلد- اخذنا الصديق العزيز الدكتور نزار الحرباوي في مقالة ممتعة بصحيفة ” الراى العام“ برحلة غاية في الروعة والدقة لمظهر اخر من مظاهر المدينة التي لا يستطيع الانسان إلا أن يحبها إنها إسطنبول، حيث يقول الدكتور نزار : تنتعش اسطنبول بالحيوية الدائمة فيها ، وتمدها وسائل المواصلات الكلاسيكية والعصرية بحياة داخل هذه الحياة، فلكل وسيلة مواصلات خط سيرها، ولها في الوقت نفسه معالم من المدينة توافقت على تحيتها جيئة وذهاباً .
المتروبوس في اسطنبول واحد من الحلول الناجعة التي تم ابتكارها لتجاوز أزمة المواصلات في اسطنبول بصورة فاعلة ، فإضافة لكونه يربط آسيا بأوروبا في خط سيره الطويل ، وفضلاً عن كونه مريحاً حديثاً مكيفاً رخيص الأجرة – دولار واحد يحملك بين قارتين – إلا أن وجوده بين خطوط الأزمة على جانبيه، وتنوع الملايين من البشر بألوانهم وثقافتهم ولغاتهم فيه تمثل قيمة معرفية بحد ذاتها .
لقد كانت رحلتي فيه هذا اليوم طويلة ومميزة ، وما بين ظروف العمل والانشغال بالاجتماعات التي توزعت على محطات عدة من مسار خطه الممتد ، كانت لي حكاية رغبت بمشاطرتكم إياها.
بجواري شاب يلبس على الطراز الغربي ويضع في أذنه حلقة معدنية مرخرفة ، ومقابله شيخ صوفي معمم يحمل سبحته ويتمتم بالتسبيح ، وبجواره امرأة أفريقية وافدة ، وحين نظرت حولي ، وجدت كل مقاعد المتروبوس تحكي حكاية التعدد والتنوع والثقافات العابرة للحدود .
ينهض الشيخ من المقعد المقابل لنا لينزل في محطته ،فتأتي طالبة منقبة تحمل كتبها وتضع سماعات الأذن وتسمع موسيقى صوتها يصل لآذاننا ، وبما أننا في شهر رمضان المبارك ، فالحديث عن الصوم والافطار له حكاية .
الجميل في الأمر أن الشاب لم ينكر على الشيخ سبحته ، والشيخ لم ينكر على الشاب ملابسه ، والمنقبة لم تعاتب المتبرجة ، والمتبرجة لم تسخر من المنقبة ، والطريق والرحلة مليئة بالأجناس والثقافات والمستويات والأفهام، كلها تسير في مسارٍ واحد ولكن لمحطات مختلفة .
تساءلت فعلاً لماذا هذا القبول للآخر ضمناً ، المسلم يقبل النصراني، والنصراني يقبل المسلم ، والمسلم ملتزم وغير ملتزم ، والنساء أفهام ، والثقافات ألوان ، ومشروعات الحياة المتفاوتة بين هذا وذاك بادية واضحة، ولكنك لا تجد من ينكر على الآخر واقعه أو سلوكه أو ملابسه .
قد تعجب من ذلك ، ولكنك ستعجب أكثر إن عرفت أن صلاة التراويح والجمعة والعيدين تحمل نفس الطابع ، تجد فيها المعمم بجوار الشاب غربي الطراز ، ولا ينكر أحد على غيره كونه يلبس قرطا أو عقدا أو زينة، شعب يقبل الحياة كما هي ، برغم كل مشاكله يريد أن يعيش ويعبد ربه ويتحرك بحرية، فلا ارتداء الحجاب دلالة عندهم على التدين ولا التبرج علامة على السفور، تراهم بالفعل يعيشون بإيمان العجائز في خراسان .
هذه الرحلة التي عشتها في المتروبوس فتحت عيوني على أنماط التعايش في المجتمعات الخليطة ، تلك المجتمعات التي تضم بين جنباتها العديد من الإثنيات والثقافات والديانات والمكونات العرقية والفكرية ، فالتشدد فيها يعني الموت والتشرذم والاقتتال ، والتفاهم فيها ولو بالحد الأدنى يعني ميلاد أجواء تمهد الأرضية للعيش المشترك وسط تفهم كل منهم للآخر وطبيعة فهمه ودينه وثقافته .
التساؤل الذي اعتراني في رحاب تركيا وفي هذه الجولة بالذات؛ كيف بنا لو تفاهمنا على هذه السلوكيات ، بأن يدعو كل صاحب فكر إلى فكره بكل أريحية ودون تكفير أو تحقير أو انتقاص من قيمة الآخر، ودون أنه صاحب الفكر الذي لا يمكن أن يكون خاطئاً ، ولا يمس بالنقض والاعتراض، بل بأن يكون صاحب فكرة ومشروع يدعو له كيفما أحب ، ودون أن يمتهن كرامة أو سلوك الآخر ليفرض نفسه على الناس بأنه الفكر الذي لا يأتيه باطل من بين يديه ولا من خلفه !
الناس أفهام ومستويات ، هناك الذكي الألمعي ، وهناك الساذج البسيط العامي ، وهناك في مجتمعات مثل المجتمع التركي حالة من التعايش النادر بين التركي والكردي ، والعلوي والشافعي والحنفي والنقشبندي والنصراني الكاثوليكي والأرمني ونحوه ، ولا يجوز التعامل مع المجتمع كوحدة واحدة بخطاب واحد وأسلوب واحد ، ليس في ماننا هذا ، وليس في ظل حالات الانفتاح الثقافي والمعرفي والتكنولوجي الذي جعل عالمنا قرية صغيرة معلومة التوجهات والمسلكيات والحالات ، فهل من متبصر واعٍ.