• 5 تشرين أول 2015
  • حكايات مقدسية

 

  حكاية اليوم هي حكاية يعشقها اهل القدس بل يحاولون ان يعيشوا لحظاتها ، انها حكاية المقاهي التي تحكى تنوع المدينة فلكل مقهى حكاية ولكن حكاية مقهى

 الزميل عبد الرؤوف ارتاؤوط كتب عن المقاهي لصحيفة السفير البيروتيه وايمانا من “اخبار البلد” من اهمية ما كتب فانها تقوم بنشر المقالة بعد اخذ موافقة المؤلف  

يتوسط "مقهى صيام" زاوية يتفرّع منها طريق إلى كنيسة القيامة وآخر إلى المسجد الأقصى في البلدة القديمة في مدينة القدس الشرقية. وخلافاً للعديد من المقاهي التي تحولت لبيع الملابس والأحذية أو أغلقت تماماً، فإنه ما زال يحافظ على الكثير من تفاصيله القديمة.

 

"المقهى قائم منذ 130 عاماً، عمل فيه جدي ومن ثم والدي وها أنا أواصل هذه المسيرة. وسيبقى كذلك إلى أن يشاء الله"، قال موسى صيام (50 عاماً) وهو منهمك بإعداد نارجيلة لأحد الزبائن ظهيرة يوم ماطر في المدينة.

وبعدما كانت المقاهي واحدة من معالم المدينة، إلا أنها بدأت تنقرض شيئاً فشيئاً، نتيجة التطوّرات السياسيّة.

فالقدس الشرقية التي كانت على مدى سنوات طويلة مركزاً للقرى والمدن المحيطة تحوّلت، منذ إقامة إسرائيل جدار الفصل لعزلها عن محيطها الفلسطيني، إلى ما يشبه القرية.

قصة "مقهى صيام"

"قبل الحصار الإسرائيلي الذي بدأ فعلياً في العام 1993، كان المقهى يعجّ بالرواد من كل أنحاء الضفّة الغربية، أما الآن فبات عملنا يقتصر على الزبائن فقط، وهم سكان المنطقة المحيطة في البلدة القديمة أو من هم قادرون على الوصول إلى هنا من الأحياء القريبة"، يقول صيام. ويتفق معه سعيد عبد ربه، الذي قال إنه يرتاد المقهى منذ العام 1982، وقال بينما يسحب نفساً من نرجيلته: "عندما بدأتُ بارتياد هذا المقهى، كنت أشاهد هنا أناساً من كل مكان، من وسط أو شمال أو جنوب الضفّة الغربية، أما الآن فالوجوه هي ذاتها التي أراها كل يوم".

بالنظر إلى وجوه الزبائن الذين جلسوا على مقاعد بلاستيكية وانتشروا فيه، كلٌ لا رفيق له إلا نرجيلته، في جنبات المقهى المكون من محلين وركن صغير خارجي، بدا وكأنهم يحملون هموم الدنيا.

أصوات تقلّب مياه النرجيلة هي السائدة في المكان، تعقبها غيومٌ دخان تنفث من صدور رجال تفاوتت أعمارهم ما بين الثلاثين والستين عاماً، وربما أكثر.

تطل زاوية المقهى على مفرق طريق ما بين سوق خان الزيت وسوق العطارين، اللذين يشبّههما الكثيرون في القدس بسوق الحميدية في دمشق، برغم أنهما أصغر حجماً. العشرات من الأجانب، من كل الأجناس، يتدفقون ناحية كنيسة القيامة، ولكن قلوب من فضّلوا الجلوس في الجزء الخارجي من المقهى كانت في الجانب الآخر غير المرئي لهم.. حيث المسجد الأقصى. ففي تلك الأثناء، كان العشرات من المستوطنين الإسرائيليين يقتحمون المسجد الأقصى فيما العشرات من الشبان المسلمين لم يتمكنوا من الدخول إلى المسجد بسبب القيود الإسرائيلية.

"التطورات في المسجد الأقصى هي الحديث الدائم للزبائن"، قال صيام.

للمسجد الأقصى تاريخ مع المقهى، فيشير صيام إلى أن جدّه، عند افتتاح المقهى، كان يجلب الماء من بئر في المسجد، يستخدمه في إعداد القهوة والشاي. ومع مرور الزمن، أصبح للمقهى بئره الخاص في داخله، قبل أن يتم ربط المحال والمنازل بشبكات المياه.

وأشار صيام بيده إلى آثار ثقب صغير في الجدار: "هنا كان خزان حفظ المياه بعد إخراجها من البئر". ويضحك مضيفاً: "زمان، كنا نستخدم البابور للتسخين. الآن نستخدم الغاز".

ليس ذلك وحده ما يدلّ على قدم المقهى، وإنما أيضاً البلاط القديم المزركش الذي تكسّر بعضه. وفي زاوية حجرية في أعلى بابه، تحضر مجموعة من الفوانيس القديمة: "جدي كان يستخدم هذه الفوانيس في إضاءة المقهى قبل أن تكون هناك كهرباء"، قال صيام مبتسماً. ولكن، قلما تجد مقاهيَ كهذه في البلدة القديمة في القدس بشكل خاص والمدينة بشكل عام، فكثير من المقاهي التي يذكرها كبار السن في المدينة تحولت لبيع الملابس أو الأحذية أو إلى منازل، والبعض الآخر أغلق.

"علوان".. كحال المدينة

ما زال الكثير من المقدسيين يذكرون مقهى "علون" في حارة باب حطه أو "السويقة" في البلدة القديمة. يقول زياد (48 عاماً): "ما زالت تفاصيل المقهى في مخيلتي تماماً، فقد كانت تتوسطه نافورة، وكان كبار الحارة والحارات المجاورة يجلسون فيه للعب الورق أو الدومينو وطاولة الزهر، وكان دائماً عابقاً بالدخان الناتج عن نرجيلة التمباك". وأكمل متذكراً: "كنا نخشى المرور من أمامه لأنه قد يكون جالساً فيه والدي أو عمي أو خالي، فينالنا نصيب من العتاب، وأحياناً الغضب، لأننا لا نراجع وظائفنا المدرسية في المنزل.. كنا ننظر إليه على أنه مكان تجمع كبار البلد".

عنه، كتب سمير سعد الدين، الصحافي الذي ترعرع في الحارة: "مقهى علوان يعتبر الأكثر شهرة، وقد شهد أهم المناسبات السياسية والاجتماعية والأفراح وربما الأحزان، والذي أعرفه عن هذا المقهى في المجال السياسي أنه كان مكاناً مميزاً ومقرباً لمرشحي الانتخابات في العهد الأردني، وأن صالتيه الداخلية ثم الخارجية التي تفتح صيفاً كانتا تكتظان بالمشاركين والمستمعين لأي مرشح".

وأضاف: "كأطفال، كنا دوماً نتحلق حول شبابيك المقهى التي كانت لا ترتفع عن الأرض أكثر من متر بحيث كنا نستطيع أن نشاهد ونسمع ما يقوله الحكواتي ويردده المنشدون وما يقوله السياسيون والمرشحون ونردد شعارات كل من رفع صوته".

ولكن المرور من جانب المقهى الآن بات يذكّر بواقع الحال في القدس. فباب المقهى ونوافذه أغلقت بالطوب والإسمنت في سنوات التسعينيات، وتحول إلى منزل لأن صاحبه، شأنه شأن الكثير من المقدسيين، لم يتمكن من الحصول على رخصة بناء من بلدية القدس الغربية، فرأى أن أفضل الحلول تحويل المقهى إلى منزل.

ويعيش أكثر من 300 ألف فلسطيني في القدس الشرقية، لكن إحاطتهم بجدار إسمنتي يصل طوله إلى 8 أمتار وتتخلله 11 بوابة من جهات المدينة الشمالية والجنوبية والشرقية لا يُسمح بعبورها إلا للحاصلين على تصاريح خاصة من السلطات الإسرائيلية، جعلتهم أكثر فقراً وأكثر عزلة".

 

القرويون والأفندية

يقول عزام أبو سعود، الروائي المقدسي والمدير السابق للغرفة التجارية في القدس، إن الحكواتي كان جزء لا يتجزأ من المقاهي القديمة في القدس.

يحكي: "الأصل في المقاهي هو أنها مكان للتواعد واللقاء بين الناس، إذ لم تكن وسائل الترفيه التي نعرفها اليوم موجودة فكان المقهى هو مكان لقاء رجال المدينة. يجلسون ويتحادثون بالسياسة والثقافة، ويروحون عن أنفسهم بلعب طاولة الزهر والدومينو والشدّة".

ويضيف: "في ساعات المساء، كان الناس يتجمعون حول الحكواتي الذي كان يجلس على مقعدٍ طويل مرئيّ من قبل الجميع، ويقرأ قصص أبو زيد الهلالي وعنترة بن شداد وغيرها.. الآن، لا يوجد حكواتي، لقد اختفى وتم استبداله بشاشات التلفزة الكبيرة".

إلى الحكواتي، "الكثير من العطاوي"، أي الصلح ما بين العائلات، كان يتم في المقهى. وأيضاً، "كان كبار أبناء العائلات يتواجدون في المقهى، فيأتي إليهم الفلاحون من الأرياف المحيطة بالمدينة طلباً للمساعدة، سواء لجهة العمل أو تسهيل دراسة الأبناء وهكذا".

وقد ذكر مدير "دار إسعاف النشاشيبي للثقافة والفنون والآداب في القدس" بشير بركات، في دراسة له بعنوان مقاهي القدس في العهد العثماني، أن شرب القهوة "انتشر في القدس أواسط القرن السادس عشر الميلادي"، لافتاً إلى أن "بعض مقاهي القدس كان يقوم بدور النوادي الثقافية، حيث أسّسها بعض أعيان المدينة وارتادها بعض الأكابر".

لذلك ربما، منذ ذلك الحين وحتى العام 1993، كانت القدس الشرقية مركز الحياة للفلسطينيين من سكان القرى والمدن المجاورة.. إلا أنها ليست كذلك الآن.

ويقول أبو سعود: "كان محيط القدس مرتبطاً بالمدينة، فإذا ما أراد شخص أن يلتقي شخصية كان المقهى هو مكان اللقاء. في ذلك الحين، كانوا يتحدثون بلغة القروي والأفندية، فكان البكوات والأفندية هم ملجأ القرويين من محيط القدس وكانت لهم مصالح مشتركة. فالقروي يأتي إلى المقهى جالباً معه الزيتون والجبنة والزيت والزبدة والسمنة البلدية، بالمقابل كان الأفندي يسهل له معاملته في الدوائر الرسمية بما في ذلك التهرّب من التجنيد أو تسجيل الإبن في مدرسة حيث كانت القدس هي مركز المدارس".

وأضاف أبو سعود: "ولكن، جرى استغلال القرويين من قبل الكثير من عائلات القدس. فهم مثلاً كانوا يقرضونهم الأموال، وإذا ما عجز القروي عن السداد، فإنه يخسر رهنيته، وهي عادة ما تكون أرضه. ما يفسر سبب امتلاك العديد من عائلات القدس أراضيَ خارج القدس".

غير أن المقاهي لم تكن فقط مراكز ترفيه بالنسبة إلى الفلسطينيين، وإنما مقار قيادة وتحرّك ضد اليهود والإنكليز أثناء الانتداب البريطاني. يشرح أبو سعود: "استمعنا من كبار السن أن المقاهي أدت دوراً مركزياً في الثورات ضد اليهود والإنكليز في أثناء الانتداب البريطاني.. كانت المقاهي المكان الذي تأتي إليه الأنباء عن الثورات من خلال الناس، فيتم نقلها من شخص الى آخر حتى تصل الى المقهى. أيضاً، كان المقهى مركز التخطيط للعمليات ضد الإنكليز واليهود".

الأرنونا ورام الله

تتوسط المقاهي حارات البلدة القديمة وأسواقها. فكان التجار يلجأون إليها في نهاية عملهم لشرب النرجيلة والترفيه عن أنفسهم مع الأصدقاء قبل العودة إلى منازلهم: "البعض من التجار ما زال يحافظ على هذه العادة"، قال صيام الذي أشار إلى انه يبدأ العمل في الساعة التاسعة صباحاَ ليغلق أبواب مقهاه الساعة العاشرة ليلاً باستثناء الأيام التي تشهد اشتباكات ما بين الشبان الفلسطينيين والقوات الإسرائيلية، وهي كثيرة هذه الأيام: "الوضع السياسي يؤثر على الجميع، والوضع الاقتصادي الصعب يحرمنا أحياناً من بعض الزبائن المحليين".

وأضاف صيام بألم: "بعد الحرب الإسرائيلية على غزة، استقوى الاحتلال الإسرائيلي علينا. فترى أفراد الشرطة يعتقلون الشبان وينهالون عليهم بالضرب ويلاحقون الأطفال في الأزقة، كما نعاني نحن من الضرائب الباهظة التي تفرضها البلدية الإسرائيلية، أنا ادفع 16 ألف شيكل ارنونا (4300 دولار) سنوياً، بالإضافة إلى الضرائب والكهرباء والمياه، فماذا يتبقى؟".

يجدر التذكير هنا بأن الأرنونا هي ضريبة تفرضها بلدية القدس الغربية على المساكن والمحال التجارية، بحسب مساحتها، وتعتبر كابوساً دائماً للمقدسيين لا سيما غير القادرين على دفعها.

ولأن المقدسيين الفلسطينيين يعيشون بكلفة حياة الإسرائيليين في القدس الغربية ذاتها، من دون أن يتمكنوا من الحصول على الدخل ذاته، فهم يضطرون في الكثير من الأحيان إلى التوجه إلى مدينة رام الله المجاورة، حيث الأسعار أرحم بهم.

ويقول أبو السعود: "الكثير من الناس يفضلون التوجه إلى رام الله لأنها أقل تكلفة، وهي حديثة. فيها كل أنواع المشروبات بما في ذلك نرجيلة المعسل، كما أن البعض يرى في الذهاب إلى رام الله ترويحاً عن النفس بعد يوم عمل طويل".