• 19 كانون أول 2015
  • حكايات مقدسية

 

 

     القدس- اخبار البلد- نشر الزميل عبد الروؤف الارناؤوط تقريرا موسعا  في صحيفة السفير البيروتية حول الاستيطان في البلدة القديمة بشكل خاص  ، والمعاناة التي تعانيها العائلات المقدسية التي تجد نفسها بين مطرقة الاستيطان وبين سندان القضاء الاسرئيلي الداعم للاستيطان  

أقامت عائلة صبّ لبن في منزلٍ لها في عقبة الخالدية في البلدة القديمة من مدينة القدس الشرقية منذ العام 1953، غير أنها  تخشى أن تضطر قريباً للبحث عن منزلٍ آخر بعدما حكمت محكمة إسرائيلية بتحويل ملكية المنزل لمصلحة جمعية استيطانية يهودية.

وليست عائلة صب لبن هي الوحيدة التي يتهددها الطرد من منزلها، فالعديد من العائلات الأخرى في القدس اضطرت في السنوات الأخيرة الماضية لترك منازلها، والمزيد من العائلات الفلسطينية تقف في صف الانتظار الرهيب.

"الأنباء" يعودون

تلاصق عقبة الخالدية المسجد الأقصى من جهة باب القطانين، وتعتبر من المناطق المستهدفة من قبل جماعات المستوطنين الإسرائيليين. فالعديد من المنازل الفلسطينية استولى عليها مستوطنون، وحوّلوا بعضها إلى مدارس دينية أبرزها مدرسة "شوفو بانيم" أي "عودوا أيّها الأبناء"، والمقصود بالعودة هم محكومون جنائيون تقول إدارة المدرسة إنها "تعيدهم إلى التعاليم اليهودية".

وليس بعيداً عن عقبة الخالدية في الحي الإسلامي يقع مقر جمعية "عطيرات كوهانيم" التي تنشط في الاستيلاء على المنازل الفلسطينية في مدينة القدس القديمة، وخاصة تلك القريبة أو المطلّة على المسجد الأقصى.

وبالإجمال، فقد تمكن مستوطنون إسرائيليون على مدى السنوات الماضية من الاستيلاء على 70 منزلاً في البلدة القديمة، بعضها عن طريق الشراء عبر السماسرة، والبعض الآخر من خلال تواطؤ جمعيات حكومية إسرائيلية مع المستوطنين، تماماً كما هي الحال مع عائلة صب لبن.

 

قصة صب لبن: مثالٌ شديد الوضوح!

يشرح احمد صب لبن ما جرى مع عائلته: "استأجر جدي من طرف والدتي البيت في العام 1953 من الحكومة الأردنية. وبعد وفاة جدي وجدتي، انتقلت والدتي للعيش في المنزل مع أبي. ومع احتلال إسرائيل للمدينة في العام 1967، انتقل المنزل إلى مسؤولية دائرة الأملاك العامة، وهي دائرة إسرائيلية مهمتها إدارة الأملاك التي يقول اليهود إنهم امتلكوها قبل العام 1948".

يكمل: "حاولت الحكومة الإسرائيلية إخلاءنا من المنزل مراراً منذ بداية الاحتلال، ولكننا كنا ندفع إيجاره بالبريد المسجل إلى دائرة الأملاك العامة الإسرائيلية لمنع أيّ إجراء ضدنا. اشتدت الحملة علينا في سنوات السبعينيات، تارة بادعاء تغيّر معالم المنزل وتارة بادعاء إصلاحه. وفي الفترة الممتدة ما بين 1976 وحتى 2001، تمّ رفع 10 قضايا إخلاء ضدنا، وقد كسبناها جميعاً".

لم تيأس الجمعية الاستيطانية. وفي العام 1986، تمكّنت من تسجيل نقطة لمصلحتها في صراعها مع عائلة صب لبن، إذ تمكنت آنذاك من الاستيلاء على منزل يتشارك مع عائلة صب لبن في ممر الدخول. فقررت منع العائلة من استخدام هذا الممر، ما اضطر العائلة لاستئجار منزل في بلدة بيت حنينا، شمالي القدس، حتى العام 2001.

فقط في العام 2001، اضطر أحد قضاة المحكمة المركزية الإسرائيلية للانتقال إلى المنزل كي يرى بنفسه أن الجمعية الاستيطانية جعلت وصول عائلة صب لبن إلى منزلها مستحيلاً. فأمرها بتمكين العائلة من المرور. وهكذا كان، فعادت العائلة إلى المنزل الذي تتواجد فيه حتى الآن.

لاحقاً، اتفقت سلطة الممتلكات العامة مع المستوطنين، فقررت في منتصف العام 2010 نقل ملكية المنزل إلى جمعية استيطانية يهودية لتتصدر بذلك الصراع ضد عائلة صب لبن.

يقول أحمد صب لبن، وهو باحث ميداني ينشط في الدفاع عن أملاك الفلسطينيين في القدس والكشف عن المخططات الاستيطانية الإسرائيلية في المدينة: "لقد قامت سلطة الأملاك العاملة الإسرائيلية بهذه الخطوة خلافاً للقانون. وفي الوقت الذي تمنع فيه الفلسطينيين من استرجاع أملاكهم في القدس الغربية، فإنها تسمح للمستوطنين بالمطالبة باستعادة أملاك يدّعون أنهم امتلكوها قبل العام 1948".

ويقدّر فلسطينيون أن الغالبية من الأملاك في القدس الغربية تعود لفلسطينيين غير أن العديد من المحاولات التي جرت عبر المحاكم لاستعادة هذه الأملاك قد باءت بالفشل، رغم وجود مستندات الملكية.

سوار الاستيطان حولها يخطو نحوها

عبر ادعاءات ملكية تسبق العام 1948، حكمت محاكم إسرائيلية بحق استملاك جمعيات استيطانية إسرائيلية لعشرات الممتلكات الفلسطينية في القدس القديمة ورأس العامود وسلوان والشيخ جراح ووادي الجوز وغيرها من الأحياء في مدينة القدس.

ويؤكد مدير دائرة الخرائط في "جمعية الدراسات العربية" خليل التفكجي، أن "هناك تواطؤاً واضحاً بين المؤسسات الحكومية الإسرائيلية والجمعيات الاستيطانية والمحاكم الإسرائيلية في قضية الأملاك في مدينة القدس". ويوضح: "ثمة العديد من الحالات التي صدرت فيها أحكام في محاكم إسرائيلية لمصلحة جماعات المستوطنين على الرغم من وجود أوراق تثبت الملكية الفلسطينية لهذه المنازل".

ويرى التفكجي أنه "بعد استكمال السوار الاستيطاني الإسرائيلي في محيط الأحياء الفلسطينية في مدينة القدس عبر سلسلة من المستوطنات التي يقيم فيها ما يزيد عن 200 ألف مستوطن، فقد بات من الواضح أن هناك حراكاً باتجاه الأحياء نفسها".

وتحيط بالقدس مستوطنات عديدة أبرزها: التلة الفرنسية، والنبي يعقوب، ومعاليه أدوميم، وراموت، وغيلو، وتلبيوت، ورامات شلومو، وبسغات زئيف، وهار حوماه. والواقع يحكي عن نفسه، إذ لا يخلو أيّ حيّ من تلك المحيطة بالبلدة القديمة من مستوطنة أو بؤرة استيطانية أو منازل يقيم فيها مستوطنون، ويرفعون عليها الأعلام الإسرائيلية لتمييزها.

ويضع أحمد صب لبن ذلك في سياق الاقتراح الذي قدمه الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون لحلّ قضية القدس في العام 1999، معتبراً أنه قد أعطى الضوء الأخضر لإطلاق حملة واسعة في داخل الأحياء الفلسطينية في المدينة": "كلينتون آنذاك اقترح أن ما للفلسطينيين يبقى للفلسطينيين، وما لليهود يبقى لإسرائيل. فوجدت الجمعيات الاستيطانية الإسرائيلية في هذا الاقتراح ضالتها، وبدأت تنشط في وضع اليد على الممتلكات الفلسطينية لمنع أي إمكانية لإقامة عاصمة للدولة الفلسطينية في مدينة القدس".

كيف يتم الاستيطان؟

في العام 1999، كان التواجد الإسرائيلي يقتصر على الحي اليهودي الذي أقيم على أنقاض حارة الشرف في البلدة القديمة وبعض المنازل المتناثرة في البلدة القديمة وسلوان. أما الآن فقد تحولت البؤر الاستيطانية إلى نقاط جلية في الأحياء الفلسطينية التي تضمّ ما يزيد عن 370 ألف فلسطيني.

إذ بالإضافة إلى 70 منزلاً تم الاستيلاء عليها في البلدة القديمة، ثمة 86 منزلاً استولى عليها مستوطنون في بلدة سلوان، جنوبي البلدة القديمة، من بينها 33 منزلاً تم الاستيلاء عليها في الأشهر القليلة الماضية، بحسب صب لبن والتفكجي.

وليس بعيداً عنها، وفي قلب حي رأس العامود، تمت إقامة مستوطنة "معاليه هزيتيم" التي تضم الآن 110 وحدات استيطانية، وبجانبها مركز للشرطة الإسرائيلية تحوّل إلى مستوطنة يطلق عليها اسم "معاليه دافيد" تضم 17 وحدة استيطانية، ويراد توسيعها لتضم 104 وحدات استيطانية.

واستولى مستوطنون على عمارتين سكنيتين في حي الطور رفعوا عليهما علماً إسرائيلياً كبيراً تمكن رؤيته من العديد من الأماكن في المدينة، وأطلقوا على تلك البؤرة اسم "حوشي .

وسبق ذلك استيلاء مدرسة "أوروط" الاستيطانية على منزل فلسطيني كبير في الطور، وقد توسّعت مؤخراً باتجاه حيّ الصوانة من خلال مستوطنة تضم 24 وحدة استيطانية تم استكمال بنائها مؤخراً وسيجري توزيعها على المستوطنين خلال أيام.

وليس ببعيد عنها في حي وادي الجوز، حوّلت الحكومة الإسرائيلية مدرسة كان من المقرر أن تُقام للبنات إلى مقر لوزارة الداخلية الإسرائيلية.

وتفصل أرض كرم المفتي هذا المقرّ عن منزل مفتي القدس الأكبر الحاج أمين الحسيني الذي تمّ هدم فندق "شبرد" الملاصق له لإقامة مستوطنة جديدة يجري حالياً وضع اللمسات الأخيرة على 24 وحدة استيطانية فيها. وقال صب لبن: "ثمّة مخطط لتوسيع هذه المستوطنة باتجاه كرم المفتي لتضم 650 وحدة استيطانية".

على بعد أمتار، يقع حي الشيخ جراح الذي تمكّن مستوطنون إسرائيليون من الاستيلاء على العديد من المنازل الفلسطينية فيه بادعاء ملكيتها قبل العام 1948. وقد استولت هذه الجماعات الاستيطانية في السنوات الأخيرة الماضية على 3 منازل مملوكة لعائلات الكرد والغاوي وحنون وتهدّد بالاستيلاء على 20 منزلاً آخر بادعاء إقامتها على ارض كانت مملوكة لليهود قبل العام 1948. ويؤكد مستشار شؤون القدس في ديوان الرئاسة المحامي أحمد الرويضي أن الجماعات الاستيطانية تخطط لإقامة 200 وحدة استيطانية على أنقاض هذه المنازل.

ومؤخراً، حكمت محكمة إسرائيلية لمصلحة إخلاء عائلة شماسنة من منزلها في كوبانية أم هارون الملاصقة في الشيخ جراح، توطئةً لإقامة مستوطنة على أنقاض المنزل ومنازل أخرى مجاورة يتهدد العائلات المقيمة فيها الطرد.

وعلى الطريق سيراً من هناك باتجاه البلدة القديمة، أعلنت جمعيات استيطانية قرارها إقامة 3 بنايات تضم 33 وحدة استيطانية في منطقة باب الساهرة في داخل البلدة القديمة.

بالإجمال، تقول معطيات مكتب "تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة – اوتشا" إن "أكثر من 2000 مستوطن إسرائيلي يعيشون في بيوت تم الاستيلاء عليها بوسائل مختلفة، بما في ذلك تطبيق قانون أملاك الغائبين وقيام المحاكم الإسرائيلية بالنظر في ادعاءات مزعومة بشأن عقارات مملوكة لليهود قبل العام 1948 ضمن وسائل أخرى".

وتضيف: "إن إقامة مستوطنات في قلب الأحياء الفلسطينية يتطلب عادة إخلاء فلسطينيين بالقوة وتهجيرهم. وبالإضافة لحرمان العائلات من بيوتها، فقد أدّى ذلك في كثير من الأحيان إلى عراقيل في معيشتهم ووصولهم إلى الخدمات الأساسية مثل التعليم والمياه اللازمة للنظافة الصحية".

وتؤكد: "هذا النشاط الاستيطاني أدى إلى توترات متزايدة، وتقليص للمساحات العامة والتوسع الإسكاني وحرية الحركة، والانتشار المتواصل للحراس الأمنيين الخصوصيين وقوات الشرطة لحماية المستوطنات".

وتشدد تقارير "اوتشا" على أن "إسرائيل، كقوة محتلة، عليها التزام بحماية السكان المدنيين الفلسطينيين، ويحظر القانون الدولي التهجير القسري للمدنيين ونقل المستوطنين إلى الأرض المحتلة، وكذلك مصادرة الممتلكات الخاصة أو تدميرها".

أما التفكجي فيشرح أن "هذه الجماعات لا تخفي هدفها، وهو منع إقامة عاصمة للدولة الفلسطينية في القدس الشرقية، وهي بذلك تكرر النموذج القائم في مدينة الخليل".

في جميع الحالات، لجأ الفلسطينيون إلى القضاء الإسرائيلي ولكن التجربة بينت أن خوض المعارك القانونية عبر هذا القضاء لا يعدو كونه شراء للوقت.

يرى مسؤول ملف القدس في حركة "فتح" حاتم عبد القادر أن "حالنا مع القضاء الإسرائيلي هو تماماً كالمثل القائل: إذا كان غريمك القاضي، فلمن تشكو همك؟". يكمل: "هي فقط محاولة لشراء الوقت، ونحن لا نثق إطلاقاً بالقضاء الإسرائيلي".

وينطبق هذا المثل على عائلة صب لبن، فيقول أحمد إنه بعدما حوّلت "دائرة الأملاك العامة" ملكية منزل عائلته إلى جمعية استيطانية، حكمت محكمة إسرائيلية لمصلحة المستوطنين في شهر تشرين الأول/أكتوبر 2014..

ومنذ ذلك الحين، "جرت محاولات من قبل المستوطنين، مدعومين من الشرطة، لإخلائنا من المنزل 3 مرات، في شهر كانون الأول/ ديسمبر 2014 وشباط/ فبراير وآذار/ مارس من هذا العام. ولكن لم تنجح جميع هذه المحاولات التي كان أشدّها في شهر آذار، حيث توجهنا إلى المحكمة العليا الإسرائيلي، وهي أعلى هيئة قضائية في إسرائيل، وحصلنا على قرار تجميد غير نهائي لإخلاء المنزل بانتظار قرار المحكمة المركزية".

ويتابع صب لبن: "شبح الطرد من المنزل يلاحقنا في كل ساعة وكل دقيقة، فنتواجد في المنزل بشكل دائم خشية قرار مفاجئ بالإخلاء. وفي حال صدور قرار من المحكمة المركزية في شهر أيار/مايو بإخلائنا من المنزل، فإننا سنتوجه إلى المحكمة العليا لتكون بذلك الملاذ الأخير".