• 28 حزيران 2016
  • حكايات مقدسية

 

بقلم : راسم محيي الدين خمايسي

يدور نقاش وجدل مستمر ين العامة والمثقفون بشأن محاولة تعريف وتحديث سمات المدينة العربية الفلسطينية التي نشأت أو تطورت بعد ما اصطلح عليها نكبة عام 1948، ونشوء إسرائيل. هذا النقاش تجاوز كونه نظريا، بل له أبعاد وإسقاطات تطبيقية؛ ويساهم في فهم سياق، وضع وحالة هذه المدن التي نشأت وتطورت في ظروف لها بعض الخصوصية في بعض المركبات، وهي جزء من سياق ونمط عام يؤثر على نشوء وتطور المدن والمجتمع المديني في مركبات أخرى. أي أن فهم شكل وعملية نشوء وتطور هذه البلدات يتطلب منا تناولها بشكل مركب وليس مسطح ومبسط. لان الواقع الذي آلت إليه مدننا وقرانا بسبب ظروف خارجية وداخلية ساهمت في التأثير على تشكيل هذا المُكَون المديني البلدي الذي نعيش فيه، ونحاول فهمه خارج المكونات الفيزيائية المرئية، إلى الولوج إلى أعماق مكوناته الاجتماعية، السياسية، النفسية، والوظائفية. جزء من التناول المُرَكب لواقع بلداتنا يبدأ بالتعريف التقليدي الثنائي هل يوجد لدينا مدن ونحن نعيش بها أم ما زلنا قرى؟ على سبيل المثال, الكثير يسأل هل كفركنا مدينة أم قرية؟ هذه النمطية ومحاولات التأطير المبسط، تُحدِث إشكاليات وتساهم في حجز فهمنا لواقعنا المركب، والذي يشمل، أو بالأحرى هو نتيجة وجزء من واقع نعيشه مليء بالتناقضات والازدواجيات بعد نشوء الدولة الوطنية العبرية في وطننا وتحولنا إلى أقلية مقهورة مغلوبة بها، نحاول في البداية صراع البقاء ولاحقا التمدن من خلال استئناف التطور المديني وإنشاء المدينة ذات سمات خاصة بها. هذا ما سنحاول في هذه المقالة طرحها لفتح نقاش وليس انجازه أو إتمامه.

توجد مُؤشرات مقنعة أنه كان للفلسطينيين سبق في عملية نشوء المدن مثل أريحا، القدس، يافا، عسقلان، نابلس, الخليل وعكا. كل هذه المدن ليست مدن جديدة، بل يعود تاريخها إلى عهود قديمة. وإن القول أن فلسطين ومدنها قديمة متقدمة متصلة ومتواصلة هي سمة رئيسية من سمات الاستيطان البشري المتقدم، المستمر والمتواصل مع محيطة، وإن واقع المدن والتمدن بها سَبق الثورة الصناعية وشكل نموذج متميز للمدن. ولكن هذه المدن كانت صغيرة ومراكز حضرية لمحيط ورديف قروي اعتمد عليها، وشكلت مراكز خدمات له. وان انفتاح وتواصل فلسطين مع محيطها، وتبعيتها الجيو-سياسية لمراكز حضرية كانت تُوَطِن المركز السياسي مثل دمشق، بغداد، القاهرة اسطنبول، جعلت مدنها مراكز ثانوية وإقليمية. هذا الواقع استمر حتى بداية القرن العشرين الميلادي. حتى هذا القرن كانت مدن مركزية تشكل مركز إمبراطورية وتسيطر من خلالها على مدن ثانوية. مع بداية القرن العشرين انطلقت الدولة القوميةَ/الوطنية وتكونت حدودها ومعها نشأت مراكز مدن جديدة لها مثل عمان. هذا الواقع نشأ في فلسطين ولكن مع مزيد الأسف تحت ظل احتلال أجنبي وانتداب بريطاني اعتمد مدينة القدس مركز حضري وسياسي له, وساهم في إقامة مراكز إدارية حكومية في مدن ثانوية مثل حيفا. هذا الانتداب البريطاني صَدَّرَ إلينا نظم ومفاهيم تخطيط وإدارة بلدية نشأت في بيئته بعد الثورة الصناعية التي مر بها، وحاول فرضها، كجزء من عملية هيمنة كولونيالية، على مدننا التي نشأت في سياق جيو-سياسي واجتماعي ثقافي واقتصادي مختلف. بالموازاة استمر تطور المدينة العربية الفلسطينية في النصف الأول من القرن العشرين، بالرغم وبالمقابل لبدء ظاهرة الاستيطان العبري الصهيوني الزراعي، ولاحقا تحول لاستيطان مديني انشأ مدن وعلى رأسها مدينة تل أبيب التي أصبحت لاحقا المدينة العبرية الأولى. هذه المدينة التي أصبحت المركز ألمديني الرئيسي في إسرائيل، انطلقت بداية كحي من أحياء يافا العربية الفلسطينية، استقلت عنها بدعم عوامل خارجية مفروضة، وهزمتها واستولت عليها بعد عام 1948، وتحولت مدينة يافا إلى حي من تل أبيب، يعاني صراع البقاء لحفظ مجتمعه، هويته وطابعه بعد نكبة المدينة الفلسطينية كجزء من نكبة الإنسان والمكان والمجتمع العربي الفلسطيني. بعد هذه النكبة، والتي ما زلنا نعاني من إسقاطاتها وتبعاتها، تحول العرب الفلسطينيون من أغلبية ديموغرافية يسعون إلى بناء دولتهم الوطنية المستقلة بقيادة حركه وطنية تشكلت من نخب نشأت وتطورت في المراكز المدينية الفلسطينية، حيث توطنت الأحزاب والحركات السياسية، الصحف والمراكز الثقافية، إلى مجتمع مشتت ومكان/وطن مقسم ومدينة مُهجرة ومُحتَلة. المدينة الفلسطينية التي بدأت تتطور حسب النموذج المتعارف عليه عالميا والذي يشمل هجرة ايجابية إليها، توطن طبقة وسطى بها، تطورها كمركز اقتصادي وخدماتي ونشوء بنى تحتية مدينية، بما في ذلك مركز ثقافي، حيز عام كما هو شأن مدينة يافا التي أطلق عليها "أم الغريب" أي قبول الهجرة وتقبل الفرد الذي يأتي إليها، خارجة عن نمط بنى الحمائل والعشائر المحافظة، التي تسيطر على البنى الاجتماعية في القرى، وتحول دون دخول هجرة حرة إليها رغبةً منها تأمين وحفظ حماها القروي. 

هكذا فان المدينة العربية الفلسطينية نشأت وتكونت في حالة صراع مع الحركة الصهيونية التي سعت إلى إقامة المدينة العبرية مكان المدينة العربية في جزء من فلسطين الانتدابية. وان عملية التمدن والمَديَنة التي تطورت في فلسطين على نمط مشابه للنمط العالمي عامة والدول الوطنية في الشرق الأوسط المجاورة، مع اخذ خصوصية كل مكان بعين الاعتبار، كجزء من تشكيل الشبكة الحضرية في الدولة الوطنية بُتِرَت عام 1948 حين حدثت النكبة. وإحدى سمات هذه النكبة نكبة المدينة العربية الفلسطينية داخل المكان الذي أعلنت دولة إسرائيل عن استقلالها به. هذه السمة هي فاصلة ومشكلة لواقع التمدن والمدينة لدى العرب الفلسطينيين الذين تحولوا من أغلبية إلى أقلية مغلوبة، جزء كبير منها مُهَجَر إلى خارج وطنه، وعلى وجه الخصوص أهل المدن منهم كما حدث لأهل يافا، حيفا، اللد، الرملة، بئر السبع، طبريا وصفد. وان خير شاهد على نكبة المدينة داخل حدود إسرائيل هو مقارنتها مع أختها المدينة العربية الفلسطينية في الضفة الفلسطينية الغربية وقطاع غزة التي استمرت في الوجود كما هو شأن مدينة نابلس، جنين، الخليل غزة. صحيح أن هذه المدن استوعبت جزء من المهجرين من مناطق احتلت عام 1948. جزء من هؤلاء المهجرين واللاجئين سكنوا في مخيمات لاجئين محاذية لهذه المدن كما هو شأن مخيم جنين، مخيم بلاطة وعسكر في نابلس، ولكن المدينة المركزية بقيت تنمو، ولولا احتلالها من قبل إسرائيل عام 1967، لشهدنا بها تطورا مختلفا. هذا الاحتلال الذي ما زال يفرض قيودا وأدوات مصفوفة, ضبط ورقابة ما بين القاسية واللينة على المجتمع الفلسطيني للسيطرة عليه وعلى مدنه تساهم في إعاقة تطور المدينة العربية الفلسطينية أسوة بمدن أخرى في العالم.

بعد نكبة المدينة عام 1948 وبتر عملية التمدن والمدينة سيطرت المدينة العبرية والمركز الصهيوني العبري على المدن وحولها إلى مدن عبرية، رغم انه في بعضها بقيت أقلية عربية فلسطينية مغلوبة وضعيفة، رُكِزت في أحياء مفصولة، وفرضت عليها الحكومات الإسرائيلية ضوابط تحد من حركتها، وصادرت جزء كبير من أراضيها باستخدام أذرعتها القاسية، وعلى رأسها جهاز الحكم العسكري، الذي فُرض على العرب الفلسطينيين بين عام 1949- 1966 وضبط حركتهم الحيزية، تنظيمهم السياسي وتطورهم الاقتصادي والاجتماعي. ويمكن أن نلخص أن سمات منطلق استئناف التمدن وإعادة إنشاء المدينة العربية في الوطن بعد البتر والنكبة: فقدان وغياب المدينة والمركز الإداري والثقافي، تبعية مطلقة للمدينة والمركز العبري، مجتمع في غالبيته العظمى هو قروي يعيش في بلدات قروية صغيرة موزعة، ويسلك بموجب نظم اجتماعية وتقاليد قروية، أقلية ضعيفة ومستضعفة تعيش في مدن تعاني من تمييز مُمَؤسس ومبرمج على المستوى القطري والمديني-البلدي، لا تشكل عامل جاذب لهجرة ايجابية إليها، سياسة حكومية قاسية تسعى للسيطرة على المكان، تهويده وحصر بقية الوجود العربي الفلسطيني في مساحات محدودة، ومُقصى من إدارة وإنتاج وامتلاك الحيز العام ورفض إشراكه في إنتاج هذا الحيز رغم أن العرب الفلسطينيون هم مستهلكون له، وأصبح العرب الفلسطينيون في حالة انتظار لتغيير هذا الواقع الذي فرض عليهم وكأنه مؤقت وفضاء سوف يزول. كل هذه العوامل أدت إلى توزيع وشرذمة إقليمية بين مناطق لا يوجد بينها تواصل جغرافي وتتمتع بتنوع ثقافي واجتماعي لم يتم صقل أهداف مشتركة بينها، وعدم وجود برنامج عمل متفق عليه بشكل واضح بين سكان الجليل، المثلث والنقب. ذلك بالإضافة إلى توترات مجتمعية داخلية كما هو حال كل مجتمع ضعيف مغلوب. هذه السمات رافقت واقع يشمل انفجار سكاني يعتمد على زيادة طبيعية عالية كانت سبب رئيسي في انتفاخ البلدان وزيادة عدد السكان العرب الفلسطينيون بها.

إن النقاش حول فهم حال ومكانة المدينة العربية الفلسطينية في إسرائيل حاليا هو نتاج لخصوصية هذا الواقع، رغم أن هناك بعض التشابه في سماته لما يحدث في دول وثقافات ينتمي لها العرب الفلسطينيون مثل المجتمع الفلسطيني في الضفة الغربية، المجتمع الأردني، السوري واللبناني، أو مجتمعات تعيش في منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط. خصوصية واقع المدينة العربية الفلسطينية المستأنفة يتمثل بالنقاط التي يمكن أن نوجزها بما يلي:

1) زيادة سكانية عالية نسبيا تعتمد على الزيادة الطبيعية بالأساس، وما زالت لا تصاحب الزيادة الطبيعية هجرة  ايجابية تعتمد على عوامل جذب. بل السمة الرئيسة تحول القرية إلى مدينة كما هو حال سخنين، عرابة، طمرة، كفر قاسم، باقة الغربية، وذلك يشمل تغيير مكانتها البلدية بالأساس، بعد زيادة عدد سكانها وتجاوزهم عشرون ألف نسمة، وما يرافق ذالك مع ظهور سمات مدينة وسطية صغيرة مرتبطة بالمكان والدور الوظائفي الاقتصادي الذي بدأ ينشأ بها. هذه المدن الوسطية "القروية" الصغيرة ما زالت لا ترغب بهجرة ايجابية إليها من بلدات عربية، وتمر عملية تمدن وتمدين كامن وكابح، وبعضة انتقائي ومشوه. 

2) غياب مدينة أُم تشكل مركز حضري وإداري وثقافي. لقد حاولت مدينة الناصرة تأدية هذا الدور، خاصة وأنها كانت مدينة صغيرة بعد بتر عملية التمدن عام 1948 واستقطبت إليها واستوعبت بها لاجئين ومهجرين داخليين من قرى محيطة كما هو شأن مدينة طمرة وشفاعمرو، إلا أنها بقيت مدينة صغيرة لم تَرقى لتكون مدينة أُم. وأصبحت تُنافَس من قبل مدن أخرى مثل شفاعمرو، سخنين. هذا التنافس غير المُعلن بين المدن العربية الصغيرة، وتجنب المشاركة الوظائفية بين بلدان عربية فلسطينية مجاورة يوجد بينها تواصل حيزي وتكامل وظائفي غير منظم، والتقطيع السياسي والبلدي، والتناحر على فرص محدودة, حالت ومازالت تعيق تشكيل مدينة أم وقلب حضري عربي. هناك عوامل خارجية تتعلق بسياسات التخطيط والتطوير القطرية، ومعها عوامل داخلية في داخل المجتمع العربي، رغم عدم التناظر بينها، وليس المكان للتوسع بها في هذا المقال الموجز، حالت دون تحويل الناصرة لمدينة أم  عربية وقلب حضري مركزي رغم مكانتها، موقعها ودورها الريادي المتقدم في شبكة المدن العربية ومنظومة المدن في البلاد.

3) سياسة التمدين ألقسري والتبعية للمدينة العبرية التي مورِست وتُمارس من قبل الحكومات الإسرائيلية شوهت واقع المدينة العربية الفلسطينية. هذه السياسة التي سعت إلى تمدين وعصرنة المجتمع العربي الفلسطيني لاعتبارات جيو-سياسية وديموغرافوبية،  ومن ناحية أخرى لم تُمنَح هذه المدن مساحات من التطور بل ضبطت تطورها بواسطة عدم منحها موارد تمكنها من الانطلاقة والتطوير. وجزء من هذا الضبط هو تجنب تَوطين مراكز وظائفية اقتصادية وإدارية بها وتهجير ما هو قائم مثل ما حدث في الناصرة من نقل مؤسسات عامة إلى مدينة توأم عبرية –نتسيرت عليت- أقيمت لتنافس أو حتى لتحل محل الناصرة, هو جزء من سياسة مبرمجة لإضعاف المدينة العربية وتجنب تحويلها إلى مركز إداري وظائفي سياسي ذو هوية ذاتيه فارقة، وقدرة على الاستقلالية الجزئية عن المركز اليهودي. هذه السياسة المزدوجة والتي كانت تدمج بين الرغبة في تمدين المجتمع العربي وحصره في حيز جغرافي صغير ودفعه للمدينة لخلق تحولات ديموغرافية فيه، وتقليص ازدياد السكان وتحويله إلى هجين مركب، ساهم في تشكيل تركيبة البلدة/المدينة العربية الفلسطينية. هذه السياسة التي سعت إلى تطوير وتوزيع القرية العبرية حيزيًا للسيطرة على الأرض، بينما تركيز وتمدين القرية العربية ساهمت في تسريع عملية تحويل هذه البلدات العربية إلى مدن.

4) رغم عملية التمدين والعيش في مدن قروية ما زال الحنين للقرية هو سمة فارقة وغالبة في سلوك معظم العرب الفلسطينيون. حاليا، حوالي 95% من العرب يعيشون في بلدان مدينية (أكثر من 2000 نسمة حسب تحديد دائرة الإحصاء المركزية)، وحوالي ثلث المواطنون العرب الفلسطينيون يعيشون في مدن تدار من قبل إحدى عشرة بلدية، بالإضافة إلى 8% يسكنون في مدن تسمى مدن مختلطة، في جزء منها، مثل عكا، يصل عدد المواطنون العرب لحوالي ثلث السكان بها. رغم هذه التغييرات من حيث زيادة السكان، المكانة البلدية، الوضع الاقتصادي، السلوك الاجتماعي، مبنى سوق العمل، حيث اقل من 4% من القوى العاملة العربية الفلسطينية تعمل في الزراعة، أنماط الاستهلاك والعلاقات الاجتماعية التي تميل أكثر للفردية العصامية من حيث الحراك الاجتماعي والاقتصادي، إلا أن هنالك ميل وحنين للقروية، إن كان لفظيا خطابيا، أو سلوكيا من خلال حفظ البني الاجتماعية والسياسية المحلية. هذا الترنح بين السلوك الفردي المادي الاقتصادي، وبين منظومة القيم والأعراف السلوكية التي توجه الخطاب العام وتضبط سلوك الفرد من خلال بنى اجتماعية تقليديه،  يلخص بأنه ترنح ذاتي فردي وجماعي بين الأطر التقليدية الثقافية القروية والأطر العصرية المادية المدينية. هكذا نشأت لنا مدن وسطية صغيرة، بالإضافة إلى أحياء مدينيه في المدن " المختلطة-المشتركة" ذات هجين/ خلط/ مزيج من القروية والمدينية، دون أن يغلب عليها أو تنطبق عليها ثقافة مجتمع المدينة، أي تطورت مدن وسطية، بدون سمات مَدَنِية ومجتمع مديني تنطبق علية نماذج/ براديم المدارس والقواعد المعرفية لتحديد سمات المدينة حسب نموذج المدينة الصناعية الغربية أو الخدماتية الرأسمالية التي تسيطر على قواعد وأسس ومفاهيم تعريف المدينة، سماتها سلوك المجتمعات بها ودورها الثقافي، الخدماتي والاقتصادي والذي يعبر عنه في تشكيلة استخدامات الأراضي في محيط المدينة.       

5) غياب  أو ضعف المركز السياسي، الاجتماعي، الثقافي وتبعيته للمركز العبري والمدينة الصهيونية، إن كان ذالك على المستوى القطري الرئيسي أو على المستوى الإقليمي الثانوي. هذا الضعف ساهم في حصر الحيز العام داخل القرى المُتَمدِنة والتي أصبحت تدار من قبل بلديات، حتى يمكن أن نقول غيابه في بلدات كثيرة، قلص من فرص العمل والتنمية الاجتماعية الاقتصادية في هذه البلدات، وحد من النمو الاقتصادي بها، مما زاد من تبعيتها على المدينة العبرية حتى تلك المجاورة، والتي أصبحت في كثير من الحالات مصدر محاكاة وتقليد صعبة المنال لضعف الإمكانيات الاقتصادية، غياب التخطيط  المطور والموجه، اعتماد قيم اجتماعية لملكية الأراضي وليس قيم عقارية، وتقليص مساحات الأراضي العامة المخصصة للتطوير في هذه المدن المستأنفة، والمجتمع الذي يكبر عددا ويتغير سلوكيا مما أدى كل ذلك إلى وقوع البلدات العربية الفلسطينية في أزمات وتشوهات فيزيائيه (بيئية وحيزية)، إدارية واقتصادية اجتماعية. وان من أسباب تردي البلدات العربية الفلسطينية في هذه الأزمات هو ضعف النخب السياسية، الثقافية والإدارية القطرية والمحلية، التي رغم تغيرها وتقدمها، مازالت تعتمد في تبرير أزماتها على الحكومات الإسرائيلية والفكر والممارسة الصهيونية، خاصة أزمة المدينة العربية المستأنفة، وتركز مطالبها ممن هو سبب مركزي في تشكيل سمات التمدن والمَديَنة العربية الفلسطينية الحالي، ولا تبذل جهود كافية لمحاسبة الذات وإنتاج واقع متحدي وناجح يتناسب مع الظرفية التي نشأت بشكل قسري، ومع ذلك مقاومتها من خلال تطوير فرص خارج المألوف واستثمار مساحات ممكنة للتحرك والتغير. خطاب وسلوك المُحتَج اللائم على خلفية تذويت ذهنية المؤقت، وان الفرج يأتي من الخارج، هو مُكَوِن مركزي في سلوك النخب التي تدير بلداتنا، وهي على الغالب، كانت جزء من الوسطاء بين المركز العبري المسيطر وبين المركز العربي الفلسطيني الضعيف، وشكلت طابع المركز السياسي، الاجتماعي والإداري المحلي الذي استهلك غالبا، وأنتج قليلا من طابع وماهية البلدة العربية الفلسطينية المدينية والقروية  المستأنفة.   

يشار إلى أن القرن الحالي - الحادي والعشرون- هو قرن المدن والتمدن، بعد أن كان القرن التاسع عشر قرن نهاية الإمبراطوريات والقرن العشرين قرن تشكل الدولة الوطنية| القومية والتي من اجلها وبها نشأت مراكز حضريه جديدة وتوسعت نواوات مراكز حضرية قديمة. حسب توقعات منظمة الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية، فإن من المتوقع أن يعيش ثلاثة أرباع سكان العالم في المدن. نحن جزء من هذا الحراك العالمي وتحولاته، رغم خصوصياتنا في ظرفيتنا التي وقعنا بها قسرا والتي صاغت سلوكنا الحضري ونكبت مدينتنا، والتي انطلقت من واقع به هيمنة وسيطرة المركز العبري الصهيوني علينا، وتأمينه لتبعيتنا عليه. قرانا تحولت إلى مدن وسطية صغيرة، ومازالت تكبر وتنمو وتتطور بما في ذلك الأحياء العربية في المدن "المشتركة\ المختلطة", رغم سياسات التميز الممؤسسة والمبرمجة نحو المجتمع العربي الفلسطيني ومدنه وقراه، وبها تنشأ طبقات وسطى ونخب محلية تحاول أن تتحدى لإنتاج حيزها ومدنها. والسؤال المطروح هو هل يوجد نموذج للمحاكاة والتقليد؟ هل المدينة العبرية أو العالمية هي النموذج، أم أن علينا تطوير نموذح هجين نُنتِجه من خلال التعامل بشكل انتقائى واخذ ما يناسبنا من أنماط سلوكية حضرية، تخطيط مديني، أساس اقتصادي ومكونات فيزيائية؟ لا شك أن هيمنة المدرسة والنماذج الغربية أثرت بشكل مباشر على صياغة المدينة العبرية، وان طابع، ماهية المنشأ وتكوين المدينة العربية الفلسطينية قبل البتر ونكبتها، ولاحقًا بعد استئناف تطور المدينة يتطلب منا تجنب استمرار الترنح بين القروية والمدينية، وإنتاج مفاهيم تَقرأ بشكل ناقد مَشهد واقع مدننا وتُهيئ للمستقبل دون نسخ ومحاكاة. ولكن علينا أن نستنبط دروس وعبر لبناء وتطوير مدننا بما يتناسب مع حاجاتنا لننمو ونتطور ونطمأن بها. لا شك أننا مازلنا في البداية، ونحن جزء من حركة لفهم تشكيل المدينة الوسطية، في عهد العولمة وفيما بعد الكولونيالية وهيمنة النموذج الغربي خلال وما بعد الثورة الصناعية، الخدماتية والمعرفية التي شكلت المدن الغربية، بما في ذلك العبرية. لا شك أن مدننا العربية والفلسطينية بحاجة لإعادة صياغة وتشكيل، ويجب أن يكون لنا دور وحضور في إنتاجها.