• 10 حزيران 2020
  • جبل المشارف

 

بقلم : سعيد الغزالي

 

 اجرت الصحفية عزيزة ذات الهمة والحيوية، مقابلة مع ضابط فلسطيني سابق، تحدثت فيها عن التنسيق الأمني، وكيف أصبح التنسيق بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية وبالا على الفلسطينيين، وينذر بكارثة هائلة وسقوط مدوي، والحكاية تروي أحداث التعاون الأمني وتداعياته منذ بداية اتفاق أوسلو عام ١٩٩٣ وحتى الآن. عرضت عزيزة هذه الحلقات على تلفزيون فلسطين، الذي هو القناة الرسمية للسلطة الفلسطينية لنشرها، فرفض طلبها، فكتبت في دفتر ملاحظتها: هذه حلقة من سلسلة حلقات تكشف المستور الذي لم يتم التطرق إليه ابدا. هذه قصة حقيقية وليست أحداثا من نسج الخيال، وما ترويه عزيزة هو تنبيه وتوعية للشعب الفلسطيني، وانذار للمسئولين بأن الكيل قد طفح وبلغ السيل الزبى، ويجب التوقف فورا عن المشي في هذا المسار بعد أن ضربت الرياح العاتية مقدمة السفينة، وبدأت بالغرق. والويل لمن لا يلتقط هذه الرسالة ويفهم معانيها.--

لم يكتف شريف الضابط الفلسطيني السابق بعدم المشاركة في نشاطات التعاون الأمني بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية منذ تشكيلها عام ١٩٩٤، بل أقدم على تنفيذ خطوات مناوئة وقام بمغامرات عديدة وخاض معارك مهمة أثناء عمله كضابط أمني كبير، فأغضب إسرائيل والمتعاونين أمنيا معها، وأخل بقواعد التنسيق الأمني الذي وافقت عليه القيادة المتنفذة في منظمة التحرير الفلسطينية تحت وهم خطير بأن التعاون الأمني سيفضي إلى إحراز تقدم سياسي على مسار حل القضية الفلسطينية وإقامة الدولة على حدود الرابع من حزيران عام ١٩٦٧.

"أنت تشاهدين فيلما سينمائيا طويلا محبوكا بـ "التنسيق الأمني" قال الضابط شريف للصحافية المقدسية عزيزة أثناء مقابلة في منزله في مدينة بيت لحم. أضاف الضابط الذي أُجبر على التقاعد مبكرا منذ سنوات: "يمكنني أن أخمن، يمكنني أن أستنتج، ولكن من المؤكد أننا سنواجه قريبا أياما سوداء. لم يبق أمامنا إلا خمس دقائق قبل السقوط المدوي".

ما يدل على قرب حدوث السقوط هو قيام السلطة مؤخرا بالطلب من منتسبي الأجهزة الأمنية تسليم أسلحتهم في مقراتها، خشية قيام إسرائيل بمصادرتها، وكأن إسرائيل لا تستطيع اقتحام المقرات في أي وقت ومصادرة الأسلحة، بل تستطيع ببساطة أن تطلب من قادة الاجهزة الأمنية المتعاونين معها أن يسلموا الأسلحة، دفعة واحدة، في الوقت ذاته، هناك استعداد لمرحلة ما بعد الرئيس محمود عباس، فمن سيكون الرئيس الثالث للسلطة الفلسطينية؟ المتنافسون الطامعون بالجلوس على كرسي الرئاسة ضالعون جميعا في التنسيق الأمني، ومن ترضى عنه إسرائيل هو الأقوى وصاحب الشخصية المميزة، وهو الفائز حتما، كما يقول الضابط شريف.

أُعدت عشرة مشاهد لفيلم التنسيق الأمني خلال ربع قرن. المخرج الرئيسي والبطل الأول هو الرئيس محمود عباس، الممثلون هم بعض قادة وضباط الأجهزة الأمنية، ومسؤولون حكوميون كبار ومفاوضون وآخرون لهم علاقات ومصالح مع الاحتلال أو بعض القوى الإقليمية والعالمية، والفيلم من انتاج المخابرات الأمريكية والشاباك الإسرائيلي وبعض المهتمين من المخابرات العربية والعالمية وبإشراف مباشر من الجنرال الأمريكي غيث دايتون ومساعدات عربية ودولية. لم يتم تصوير المشهد الحادي عشر بعد، وهو المشهد الأهم والأخطر. هناك عدة سيناريوهات محتملة يطرحها المنجمون.

بدأ المشهد الأول من الفيلم الطويل عام ١٩٩٣ من خلال التزام السلطة الفلسطينية وفق اتفاق اوسلو بمحاربة "الإرهاب" واتخاذ الاجراءات المناسبة ضد "الإرهابيين" وعملت السلطة على احتواء أعمال المقاومة الفلسطينية المسلحة، بحجة عدم إعطاء إسرائيل أي مسوغ تعتمد عليه للتهرب من تنفيذ الاستحقاقات في الاتفاقات، وفق اتفاق طابا عام ١٩٩٥. في هذا المشهد، تشكلت عدة أجهزة أمنية، وصادرت أسلحة واعتقلت نحو ألفي شخص من قادة ونشطاء حركات المقاومة.

في المشهد الثاني، كما يلاحظ الضابط شريف، يجري تعكير صفو التنسيق الأمني بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية في اعقاب فشل مؤتمر "كامب ديفيد" في يوليو/ تموز عام ٢٠٠٠ في التوصل إلى اتفاق سياسي دائم وشامل ينهي القضية الفلسطينية. بعد أقل من ثلاثة أشهر، حاول الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات تغيير قواعد اللعبة من أجل تحسين مكانة السلطة الفلسطينية في المفاوضات فشجع على اشعال انتفاضة الأقصى في ٢٨ سبتمبر/أيلول عام ٢٠٠٠ والتي استمرت خمس سنوات، تلقى خلالها التنسيق الأمني بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية ضربة قوية، كادت أن تنهيه للأبد، فقد شاركت أجهزة أمنية فلسطينية في اعمال المقاومة المسلحة. دمرت إسرائيل أكثر من ٤٠ مقرا أمنيا في الضفة الغربية، واستشهد المقاومون من الجنود والضباط في الأجهزة الأمنية، وأسر كثيرون منهم، وهُدمت منازلهم، ولا يزال الكثيرون خلف القضبان، بعد ادانتهم بارتكاب أعمال "إرهابية" وصدرت أحكام ضدهم بالسجن مدى الحياة مرات عديدة، أحدهم هو القائد الفتحاوي مروان البرغوثي.  

يطلق الضابط السابق على المشهد الثالث بأنه "المشهد الأهم في فيلم التنسيق الأمني" كان رد اسرائيل على انتفاضة الأقصى قويا، فشنت حملة عسكرية في فبراير/شباط 2002، أعادت خلالها احتلال كل مدن الضفة الغربية وحاصرت مقر عرفات الرسمي في رام الله، وحولته إلى أطلال. طرحت إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن، في سبتمبر/أيلول عام 2002، خطة "خارطة الطريق"، ارتكزت على أسس جديدة للتعاون الأمني بتوحيد الأجهزة الأمنية الفلسطينية ذات العلاقة بمواجهة "الإرهاب".  وتمكنت إسرائيل والدول المانحة من ربط استمرار الدعم الدولي للسلطة بقدرتها على وقف المقاومة، وتحققت نجاحات واضحة من خلال تأسيس شبكة واسعة من التعاون والتنسيق بين الجيش الإسرائيلي والمخابرات الإسرائيلية والأجهزة الأمنية الفلسطينية.

في هذا المشهد، يُجبر الرئيس عرفات تحت مطرقة الضغط الإقليمي والدولي على تعيين محمود عباس رئيسا لوزراء السلطة الفلسطينية، بعدما وقع على قرار التعديلات الخاص بصلاحيات المنصب الذي أحاله إليه المجلس التشريعي الذي عقد خصيصا لهذا الغرض. كان مشهد أعضاء المجلس التشريعي وهم يرفعون أيديهم لتمرير القرار بائسا. سنقرأ أيضا شعارات مناوئة لرئيس الوزراء عباس، كتبت على الجدران في رام الله تصفه بأنه "كرزاي فلسطين". يشمل المشهد أيضا الحدث الأخطر: استشهاد عرفات يوم الخميس الموافق 11 نوفمبر\ تشرين الثاني عام ٢٠٠٤.

في شهر كانون الأول/ديسمبر 2005 وصل الجنرال دايتون إلى المنطقة قادماً من البنتاغون في واشنطن، حيث كان يعمل نائباً لمدير قسم السياسة والتخطيط الاستراتيجي في هيئة الأركان. أسدل بعد استشهاد عرفات الستار على فصل، وبدأت مرحلة جديده عنوانها تنفيذ خطة خارطة الطريق، وأهم بند فيها "محاربة الإرهاب " والقضاء عليه.

نتابع في هذا المشهد أيضا عملية اختيار قوائم من ١٦٠٠ شاب من المنتسبين للقوات الأمنية الفلسطينية الذين لا سوابق لهم في العمل الوطني لتدريبهم في معسكرات حيث يتم فحص العناصر من قبل أجهزة الأمن الأمريكية والإسرائيلية والاردنية قبل الموافقة على انضمامهم للأمن الفلسطيني.

يقول عبد الستار قاسم أستاذ العلوم السياسية في جامعة النجاح: " يبدو أن العرب لم يتعلموا كثيرا منذ عهد لورانس العرب الذي مثّل عليهم وكسب ثقتهم وساقهم سوقا نحو القيام بالنشاطات التي خدمت بريطانيا وسياستها الاستعمارية في المنطقة، ولم يتعلموا من تجربة غلوب باشا الإنجليزي الذي كان قائدا للجيش العربي الأردني. لورانس وغلوب موجودان الآن تحت اسم الجنرال دايتون الذي يعرف تماما مدى سذاجة العقل العربي، ويعرف كيف يقوم بأدواره التمثيلية بهدف كسب ثقة الناس المستهدفين". 

يضيف عبد الستار في مقال نشره في ذلك الوقت: "دايتون يقوم الآن بدور البطل الذي سيقيم دولة للفلسطينيين مثلما لعب لورانس دور البطل الذي كان سيقيم مملكة عربية متحدة بقيادة الشريف حسين؛ وهو الآن يدخل في قلوب العديد من العسكريين الفلسطينيين ويقنعهم بأن طريقته في التدريب والأداء والاستهداف هي التي ستؤدي حتما إلى قيام دولة فلسطينية مستقلة". يضيف قاسم في تحليل للمرحلة بلهجة فيها بعض السخرية: ما دام دايتون قد وعد بدولة، فما عليهم إلا أن ينتظروا".

 أنفقت الولايات المتحدة عشرات الملايين من الدولارات على التدريب من أجل "حفظ النظام والقانون ومكافحة الإرهاب" حسب كلام مسؤولين أمنيين فلسطينيين وأمريكيين. ركز دايتون في برنامجه التدريبي على تغيير عقيدة الأجهزة الأمنية، واعتبر محمود عباس الذي يؤمن بالمفاوضات والحلول السلمية بأن التنسيق الأمني "مصلحة وطنية" فلسطينية، مبقيا من الناحية النظرية فقط على ما أسماه "المقاومة الشعبية السلمية"، في هذا المشهد، نشاهد أيضا قوات الأجهزة الأمنية وهي تمنع نشطاء حركة فتح وآخرين من التظاهر ضد التوسع الاستيطاني في عدة مدن في الضفة الغربية.

المشهد الرابع تمثل في تفجر الانقسام الفلسطيني الداخلي، الذي انتهى بسيطرة حركة حماس على قطاع غزة في يوليو/تموز 2007، وسيطرة حركة "فتح" على الضفة الغربية، مما وفر بيئة مناسبة لتعزيز التعاون الأمني، لضمان بقاء حكم "فتح" وعدم السماح لحماس بتكرار "انقلابها" في الضفة الغربية والقضاء على السلطة.

المشهد الخامس كان صعود اليمين للحكم في إسرائيل عام ٢٠٠٩. أدركت السلطة أن إمكانية احراز تقدم على مسار انجاز تسوية الصراع مع إسرائيل أصبحت شبه مستحيلة، برغم ذلك لم تقم السلطة بإجراءات عملية لمواجهة هذا التطور الخطير، فدفنت رأسها في رمال الوهم وانتظرت أن يأتي الفرج، دون أن تفعل شيئا لمواجهة استفادة إسرائيل الواضحة من الوضع الجديد الذي عزز بنيتها الأمنية في الضفة الغربية، مما سهل التوسع الاستيطاني ودفع الجيش الإسرائيلي لتركيز الاهتمام لمواجهة جبهات أخرى.

قامت السلطة في المشهد السادس بتجفيف منابع الدعم المالي عبر المصادقة على "الاستراتيجية الوطنية لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب"، التي بموجبها تم إلزام النظام المصرفي الفلسطيني بعدم السماح بفتح حسابات لأشخاص ينتمون لحركات المقاومة.

يقول الضابط شريف: " في المشهد السادس، تشن أجهزة أمن السلطة وجهاز المخابرات الداخلية الإسرائيلي "الشاباك" حملة ضد الجمعيات الخيرية العاملة في الضفة الغربية بحجة أنها تستخدم في نقل الأموال لأشخاص ينتمون لحماس".

برغم ذلك، هناك المشهد السابع، وهو مشهد ذر الرماد في العيون، ففي الخامس من مارس/آذار 2015، قرر المجلس المركزي الفلسطيني وقف التعاون الأمني بأشكاله كافة، في يناير/كانون الثاني 2018، كرر المجلس المركزي نفس الموقف، وأضاف تعليقه الاعتراف بإسرائيل.

قال الضابط شريف أن المشهد الثامن لم يكن مستهجنا ولا غريبا: رفض الرئيس محمود عباس تطبيق قرارات المجلس المركزي، وأعطى تعليماته لقادة الأجهزة الأمنية بالتعاون يوميا مع نظرائهم الإسرائيليين لضمان وقف "الإرهاب".

علق الضابط شريف على هذا المشهد بقوله: "الرئيس محمود عباس يلعب بمنظمة التحرير وهيئاتها".

لماذا يفعل ذلك؟ سألت عزيزة الضابط الفلسطيني السابق.

أجاب: "يخشى الرئيس ومعه زمرته أنه في حال توقف التعاون الأمني ستبرز كيانات وشخصيات تبدي استعدادا أكبر للتعاون مع إسرائيل، ليقوموا بأدوار الرجال الأقوياء القادرين على التأثير على الشعب الفلسطيني لخدمة أجندات إسرائيلية."

المشهد التاسع هو مشهد الضربات القاضية الذي تمثل في صعود إدارة دونالد ترامب إلى سدة الحكم في أمريكا، وقراراته المتتالية باعتبار القدس عاصمة لإسرائيل، ونقله للسفارة الأمريكية من تل أبيب للقدس، وفرض العقوبات على الفلسطينيين وحجب المساعدات عنهم وعن وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين لرفض السلطة صفقة القرن، أبدى ترامب استعداده للتعاون مع نخب وشرائح داخل السلطة وخارجها ارتبطت مصالحهم بالحفاظ على الالتزام بتواصل التعاون الأمني والاتصال ببعض الأنظمة العربية للتخلص من القيادة الحالية.

وصف الضابط الفلسطيني السابق المشهد العاشر بأنه مشهد "المأساة السوداء". في هذا المشهد، يقدم الضابط عدة ملاحظات:

*مات البرنامج السياسي للرئيس محمود عباس المتمثل في استجداء إقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس.

*تضاعف عدد المستوطنين في الضفة الغربية ثلاث مرات خلال ربع قرن.

*أصبحت الهيئات التمثيلية لمنظمة التحرير الفلسطينية مهزلة، لأن السلطة لم تحترم قراراتها.

*استمر الانقسام الداخلي الفلسطيني.

*اهتزت صورة الأجهزة الأمنية في نظر الشعب الفلسطيني.

*ازدادت الفجوة اتساعا بين الشعب الفلسطيني والقيادة.

*ليس أمام الرئيس عباس إلا أن يستمر في التعاون الأمني، وإلا....

اختتم الضابط شريف حديثه عن فيلم التنسيق الأمني بقوله:

"هذه ليست نهاية الفيلم. أنت لا تعلمين ولا أعلم أيضا كيف ستكون النهاية".