• 4 آب 2018
  • إقتصاد وحياة

 

 

بقلم : محمد خضر قرش

 

 من المهم بداية التنويه إلى ان عبارة " تنمية رغم الصعاب “تخص مدرسة فكرية معينة تبنت ودافعت واختارت العبارة المذكورة في محاولة منها لإضفاء طابع مهني ومدني على الاستعصاءات الكبيرة التي واجهت وما زالت، عملية التنمية في فلسطين. فعوضا عن الاستخدام الصريح لعبارة "تنمية رغم الاحتلال" بغض النظر عن درجة تحققها، فقد استبدلتها "برغم الصعاب" لتعطيها بعدها الفكري والاقتصادي والمهني والحيادي. فهذه العبارة تتردد في كل دولة وتستخدم للدلالة على العقبات الفنية والمالية والإدارية والاجتماعية واللوجستية التي تواجه عملية التنمية في أي بلد. وعليه فالتنمية رغم الصعاب التي طرحتها هذه المدرسة جاءت لتجميل وجه الاحتلال البشع واعتباره ضمن قائمة الصعوبات والمشاكل التقليدية التي تواجه التنمية في فلسطين حاله-أي الاحتلال -كحال بقية عناصر التنمية الأخرى! فحينما صنفت هذه المدرسة الاحتلال باعتباره صعوبة فحسب، فإنه يعني إمكانية التغلب عليه أو التعامل معه مثله كمثل نقص الموارد والتمويل وانتشار البطالة والجهل وقلة المعرفة والخبرة والادراك ونقص الكوادر المدربة مما لا يتطلب والحالة هذه التركيز عليه ومحاربته ومواجهته ضمن استراتيجية وطنية شاملة. وقد أصدر الخبراء تحت عنوان " تنمية رغم الصعاب" – المسار الانتقالي للاقتصاد الفلسطيني _ وطُبع ووزع على جزأين عامي 1997 و1999 على ما اعتقد وإذا لم تخنِ الذاكرة. وقد تطرقت في حينها لأبرز الملاحظات النقدية حول ما جاء فيهما، نُشرت على عدة حلقات في الصفحة الاقتصادية بجريدة القدس وهي مغايرة تماما لما تتضمنه الكتاب. ولا اعتقد ان هناك حاجة ضرورية للولوج إلى جوهر وعناصر ومضمون الرد، فهو مدون وموثق في جريدة القدس، لكن ما يهمني هنا هو استعادة لحوار قصير دار بين كاتب المقال والخبير المنتدب الذي أُستحضر كغيره من الخبراء من قبل البنك والصندوق النقد الدوليين للعمل في معهد مرموق، والذين أشرفوا وأعدوا الدراسة. فالحوار القصير دار حول الحيثيات التي دفعته لعنونة الكتاب بعبارة "تنمية رغم الصعاب"، بدلا من " تنمية رغم الاحتلال" ولحسن حظنا فأن الخبير ما زال على قيد الحياة هو وكل من عمل معه. وإجابته كانت "بأن تعبير الصعاب أكثر مهنية ومعقولية وقبولا لدى المجتمع الدولي وخاصة الدول الممولة". فاستبدال الاحتلال بالصعاب يسهل تقبل الممولين الدوليين ويدفعهم للمشاركة في الفترة الانتقالية والمنتهية في أيار 1999. أي كأني به يقول بان عبارة "تنمية رغم الاحتلال" ستبقي الاحتلال حيا في أذهان الفلسطينيين والمستثمرين المحتملين، فهم كخبراء جاءوا للعمل كمبشرين بفوائد اتفاقيات اوسلوا بشقيها السياسي والاقتصادي. هدفهم كما هو هدف الممولين ان يركز الفلسطينيون على وضع برامج التنمية ونسيان الاحتلال، مما يعني طرح برامج وتصورات وبالأدق استراتيجيات لا يكون من ضمن أولوياتها مواجهة وطرد الاحتلال وفي أحسن تقدير عدم تصدره الاهتمامات اليومية لشعب فلسطين. وخطورة هذا الامر كما تبين لاحقا، في عدم التوجه نحو بناء اقتصاد مقاوم يملك القدرة على الصمود ومواجهة الاحتلال ومشاريعه، لذلك كانت التوصيات والمقترحات نحو تبني الاقتصاد الاستهلاكي والخدمي والتبشير بتحويل غزة إلى سنغافورة لإشغال الناس في أمور حياتيهم اليومية والبدء بالاستعداد للعمل التجاري، ومغادرة ساحة النضال الوطني والتوقف عن ابتكار برامج لمواجهة الاحتلال. وبعد نحو 20 عاما من بث سموم وأفكار هذه المدرسة الليبرالية المدمرة والتي سقطت تماما بفعل السياسات الاحتلالية وإصرارها على الاستيطان ومصادرة ونهب الأرض في المنطقتين ب و ج دون تمييز. لقد ساقت هذه المدرسة الاقتصاد الفلسطيني نحو التهلكة عن وعيً وعمقت من ارتباطه بالاقتصاد الإسرائيلي وحالت دون الانفكاك منه ولو تدريجيا. فهي متسقة تماما مع فكر ومحتوى ومضمون اتفاقية باريس الاقتصادية وأوسلو وتوجهات وتعليمات خبراء البنك الدولي والذين كانوا من المنظرين لهما والمتفائلين بنتائجهما. لقد أدرك – لكن بعد خراب البصرة-العديد من الاقتصاديين الفلسطينيين حتى من الذين سبق لهم وعملوا في المؤسسات الدولية ودافعوا عن وجهة النظر سالفة الذكر، ألا مجال لحل أو معالجة الاستعصاء والعقبات الكأداء التي تواجه الاقتصاد الفلسطيني، إلا بإنهاء وزوال الاحتلال كليا عن الأرض الفلسطينية. لقد نتج عن الاحتلال الطويل لفلسطين وجود اختلالات هيكلية عميقة وتشويه متعمد في بنية الاقتصاد الفلسطيني المتأزم أصلا والمحدود الموارد والامكانيات. لقد استطاع الاحتلال سحق كل مقومات بناء اقتصاد وطني حقيقي ومستقل واستنزف كل الموارد المالية التي أتيحت للتنمية من مصادر عربية ودولية متعددة. لقد لجمت وقيدت ومنعت اتفاقية أوسلو وشقيقتها باريس الاقتصادية القدرة التفاوضية للفلسطينيين وبات من الصعوبة بمكان فتح أي منهما أو وقف العمل بهما أو بإحداهما، بينما وبفعل القوة، أطلقت يد الاحتلال لتجمد كل الاتفاقيات وتوقف العمل بها امام أنظار المجتمع الدولي كله وبتشجيع منه وخاصة الولايات المتحدة الأميركية. لقد أضرت الاتفاقيتان بمستقبل فلسطين واقتصادها بأكثر مما فعلته كل الحروب العدوانية الإسرائيلية. فالاتفاقيتان شَرًعت بشكل رسمي وقانوني النهب والسلب والتدخل الإسرائيلي بالاقتصاد الفلسطيني. فالذين رفعوا شعار "تنمية رغم الصعاب " أدرك بعضهم الان انه كان متسرعا. فالاحتلال واصل حروبه العدوانية بشكل دوري وممنهج على الاقتصاد الفلسطيني ومؤسساته ومرافق بنيته التحتية. إن الإبر المخدرة التي يتم حقنها في الجسم الاقتصادي والمسكنات والمساعدات القليلة التي يتم تحويلها بشكل متقطع بين الفترة والأخرى لم تحل مشاكله ولن تحدث تنمية وازدهار حقيقيين وبالتالي اختفت الصورة الوردية التي تم ترويجها في "مدرسة تنمية رغم الصعاب" حول تحويل قطاع غزة إلى سنغافورة وحل محلها البؤس والفقر والحصار وفقدان الامل. ولم يكن أمام المدرسة المذكورة سوى التوصية بتقديم الجرعات والإبر المخدرة والمسكنة لمعالجة وجع هنا أو هناك في هذا القطاع أو ذاك أو تخفف من حدة الألم فحسب، دون ان تتمكن من معالجة جذور المشاكل الكأداء التي ترافق الاقتصاد الفلسطيني بما فيه الفروقات الهائلة التي حدثت على الرواتب والأجور ووصلت الى نسبة تزيد عن 25 إلى واحد. لقد أدرك الجميع ولو متأخرا بانه بدون زوال الاحتلال لا يمكن تحقيق التنمية او حتى طرح برامج. فالخبراء إياهم الذين كانوا يملؤون غرف الفنادق وبهوها وصالاتها ويتصدرون الندوات والمؤتمرات أقفلوا راجعين من حيث أتوا ولم يعودوا إلى أرض الوطن. فمشاكل الاقتصاد الفلسطيني الحرجة والمستعصية، لا يكون حلها الا سياسيا ووطنيا وبامتياز. لقد آن الأوان لوقف سياسات الترقيع وحقن التسكين عبر المساعدات المالية البسيطة والتي ينحصر تأثيرها بتأجيل الانهيار الاقتصادي فحسب. وجملة أخيرة لا بأس من تكرارها وهي ان كلا الاتفاقيتين غير صالحتين ليس بسبب الثغرات والنواقص الكبيرة التي احتوتهما، ولكن بسبب خرق الاحتلال الإسرائيلي لهما وعدم اعترافه ووقف العمل بهما من جانب واحد. لقد اختفت وتوارت عن الأنظار "مدرسة تنمية رغم الصعاب" ولم نعد نسمع أصواتها ولا تحليلاتها أو توقعاتها أو توصياتها ولا الورش والندوات والمؤتمرات التي كانت تدعو لها وتشرف عليها وتعقدها في المنتجعات والمدن المختلفة كمدريد وجنيف ولندن وباريس وشرم الشيخ والعقبة وغيرها كثير. وإذا كانت مدرسة رغم الصعاب قد توارت عن الأنظار واختفت فإن زميلتيها مدرستي التنسيق الأمني المقدس والمفاوضات العبثية ما زالتا تترنحان مكانهما بانتظار وأدهما بشكل كامل.