• 13 تشرين أول 2018
  • إقتصاد وحياة

 

 

بقلم : محمد خضر قرش

 

من المؤكد أنني لن أضيف أي جديد فيما يخص سياسة واشنطن وتل ابيب في الشرق الأوسط والعالم. فسياستهما ومواقفهما كما ممارساتهما الميدانية تقوم على الغطرسة والإرهاب والعنصرية والاستخفاف بالغير وانكار حقوق الاخرين والادعاء بانهما وحدهما دون غيرهما تحتكران الحقيقة فيما بقية العالم على باطل وفي مقدمته الأصدقاء الاستراتيجيون كبعض دول الاتحاد الأوروبي. ولم تكن هذه السلوكيات والخطابات المغرورة المصحوبة بالتغول والاستكبار والاستعلاء والزعرنة تظهر بهذا الشكل الفج والوقح وغير المصحوب بالكوابح أو الفواصل قبل ثلاثة عقود. ولعل ما سبق مرده إلى مجموعة عوامل ومستجدات حدثت في الخارطة الجيوسياسية الدولية وبالأخص دول الشرق الأوسط والوطن العربي في مقدمتها. وقد ساعد في إظهار الوقاحة انهيار منظومة الاتحاد السوفياتي والعدوان الأميركي المباشر على العراق مما مكَن واشنطن من الاستفراد في العالم وباتت حتى الامس القريب تدير وتقود وتتحكم بالعالم وتسيطر على ثرواته المالية وفقا لرغباتها ومصالحها. وهناك عوامل أخرى هامة بعضها مشتق من العاملين المشار اليهما آنفا، فالغطرسة والعنصرية والعربدة لكلا الدولتين وتحديدا في منطقتنا، أخذت بالانتشار والتجلي بعد انهيار المنظومة العربية واتساع وتيرة الصراع والاحتراب الداخلي فيما بينها وبروز الحركات والمنظمات الإرهابية الممولة خليجيا واميركيا وإسرائيليا. بالإضافة الى جرائم اتفاقيات اوسلوا والانقسام الفلسطيني المخزي وإعطاء التنسيق الأمني مع سلطات الاحتلال صفة المقدس مما جعله على نفس درجة قدسية القرآن والانجيل. فالتنسيق الأمني لم يتوقف ابدا بين المنظومة الأمنية الفلسطينية والمؤسسات الأمنية الإسرائيلية والأميركية على حد سواء رغم عدائهما المطلق للنضال الوطني الفلسطيني. فالإصرار غير المبرر على استمرار المفاوضات العبثية التي باتت بمثابة الملهاة والمبرر الذي تتكأ عليه إسرائيل لاستمرار عجرفتها وغرورها، أضعف إلى حد بعيد الموقف الفلسطيني. فكل ما فعله التنسيق الأمني المقدس أنه أعطى الوقت الكامل للاحتلال الإسرائيلي لإحداث التغيير المادي على الأرض الفلسطينية بأقل قدر ممكن من المواجهات المباشرة والخسائر الإسرائيلية. وقد تم كل ذلك وسط صمت وسكوت عربي غريب وعجيب ومريب وغير مفهوم. فالعجرفة والصلف والعربدة والزعرنة الإسرائيلية المصحوبة بالغرور والعنجهية والاستعلاء على الأخرين برزت في المجالات السياسية والاقتصادية والمالية مما مكنها ليس بتكثيف حملات الاقتحامات المتكررة للأقصى لفرض الأمر الواقع كالتقسيم بأنواعه فحسب، بل ولتوسيع الاستيطان ومصادرة الأرض الفلسطينية بدعم وتأييد أميركي غير محدود. وكل ما سبق لم يكن ليظهر بهذه الوقاحة الفجة قبل أوسلو-حينما كانت الأرض الفلسطينية كلها محتلة عسكريا-لولا اغلاق كل أساليب النضالات الأخرى عدا المفاوضات العبثية. 

 

الزعرنة والصلف والغرور والاستئثار الأميركي لا يعود إلى الحيثيات سالفة الذكر فحسب وإنما إلى عوامل اقتصادية لعبت دورا ملموسا في تعزيز التبجح والعنجهية والتغول والاستفراد الأميركي، لعل اهمها تحكمها بالنظام المالي الدولي الذي تم الاتفاق عليه عقب الحرب العالمية الثانية في بريتون وودز عام 1945 والذي أسس لقاعدة الدولار / الذهب بعد انهيار قاعدة الإسترليني /الذهب. فالنظام قام على أساس ربط الدولار بالذهب بسعر تبادلي متفق عليه قدره 35.25$/ أونصة. فكان بوسع أي دولة أو فرد في العالم مبادلة ما لديه /لديها من دولارات بالذهب بالسعر المنوه عنه عدا تكاليف النقل. ومن هنا اكتسب الدولار أهميته التبادلية كاحتياطي وكوحدة حساب دولية متفق عليها. لكن مع بدء الحروب العدوانية الأميركية التي شنتها في جنوب شرق اسيا وخاصة فيتنام حينما اضطرت الى إنفاق المليارات من الدولارات على الحرب والتي تم تمويلها عن طريقة طباعة المزيد من النقود غير المغطاة بالذهب. وقد برز عامل اقتصادي هام عُرف باسم البترو دولار، وهو حجم الأموال بالدولار الأميركي التي كانت تتجمع في البنوك الأوروبية والناجمة عن بيع النفط لأوروبا وغيرها. فحينما شعر الجنرال ديغول بخطورة ما يجري أوعز للبنك المركزي الفرنسي باستبدال ما لديه من دولارات بالذهب بالسعر المقر في اتفاقية بريتون وودز وكان ذلك عام 1968، مما أحدث اضطرابات خطيرة في الأسواق المالية الدولية واتفق حينها على رفع سعر الأونصة الى نحو 40 دولارا وتقنين عمليات تحويل الدولارات وحصرها في البنوك المركزية مما أدى عمليا إلى ارتفاع سعر الأونصة الى أكثر من 60 دولارا وفي بعض الأحيان كسرت حاجز ال 70 دولارا. وامام استمرار الانفاق العسكري الأميركي وطباعة المزيد من النقود وإتباع سياسة التمويل بالعجز زاد العرض من كمية الدولارات غير المغطاة المطروحة في الأسواق، وامام ضغوط أسواق النقد والمال، اضطر الرئيس الأمريكي نيكسون في أغسطس من العام 1971 إلى إلغاء أبرز بنود اتفاقية بريتون وودز وتخفيض قيمة الدولار بنسبة 10% للعام المذكور والعام التالي له. فالاحتياطي الأميركي من الذهب المحتفظ به في أقبية مجلس الاحتياطي الفيدرالي بفروعه المختلفة وبالسعر المتفق عليه لا يكفي لاستبدال الدولارات المتداولة في أسواق العملات. ولعلنا نذكر جيدا أنه في شهر ديسمبر عام 1979، وخلال الاجتياح الروسي لأفغانستان كسر سعر الاونصة حاجز الالف دولار لأول مرة منذ اتفاقية بريتون وودز، قبل ان تعود تدريجيا نحو الاستقرار ويحدد سعره طبقا لقواعد العرض والطلب وقوة الاقتصاد الأميركي ومعدلات نموه ..الخ. فالذين كانت لديهم ارصدة أو استثمارات بالدولار خسروا كثيرا كثيرا. ولك ان تتخيل الفرق بين قيامك قبل أغسطس عام 1971 بشراء أونصة ذهب بسعر 35 دولارا وربع بينما تشتريها الان بنحو 1206 دولارات. فالمبلغ الأخير كان يشتري سابقا 34 أونصة من الذهب وليس أونصة واحدة، علما بان سعر ال 34 اونصة حاليا يبلغ نحو 41 ألف دولار.  فالكثير من الناس وحتى من رجال المال والاعمال ربما لا يعلمون بان الولايات المتحدة الأميركية تقوم بشكل مستمر بطباعة النقود بدون تغطية وفي أي وقت تشاء وبدون حسيب أو رقيب. فالدولار الواحد بات لا يساوي إلا تكلفة طباعته والتي لا تتعدى بضعة سنتات قليلة. فالغرور والوقاحة الأميركية، بلغت حدا لا تريد من أي دولة أن تحاسبها عما تمارسه بالأسواق المالية الدولية بما في ذلك محاربتها لأي عملة تحل محل الدولار كاحتياطي وكوحدة احتساب للمدفوعات الخارجية وإصرارها على بقائه كعلمة دولية تستخدم لدفع أثمان السلع والخدمات المصدرة والمستوردة. والحيثية من وراء هذا الإصرار هو في كونه يشكل الأداة والوسيلة المتاحة لها لتسهيل فرض العقوبات المالية وقوائم الحظر على الدول والشركات والكيانات والافراد ومنعها من الدخول إلى آليات نظام التسويات المالية الدولية. لقد افشلت الولايات المتحدة توسيع استخدام الأصول الدفترية المسماة بحقوق السحب الخاصة في الصندوق والبنك الدوليين خشية من تراجع دور وسطوة الدولار الأميركي في الأسواق الدولية وفي التجارة الخارجية وكاحتياطي. لذلك فإن كسر الغرور والوقاحة الأميركية تتطلب بالبدء بوقف استعمال الدولار الأمريكي في كافة المعاملات والمبادلات الدولية. ولعل السبب الرئيس وراء استمرار الولايات المتحدة بفرض العقوبات من رسوم وغيرها على الصادرات الصينية والروسية هي انهما بدأتا بالفعل بالتخلص من ارصدتهم واستثماراتهم الدولارية ولم تعودا، كما غيرهما، معنيتان بالدولار الأمريكي. فالمؤسسات المالية الأميركية تمكنت من نقل عبء حماية الدولار على الدول والشركات والمصارف التي تتعامل به، تماما كما تفعل وتمارس إسرائيل من نقل عبء حماية حدودها على الدول العربية.

 

من نافلة القول إعادة التذكير بان الولايات المتحدة الأميركية تعتبر من أكبر الدول المدينة في العالم حيث تزيد مديونيتها على 20 ترليون دولار وهذا يعادل تقريبا ناتجها الإجمالي. ولا بد من التنويه هنا إلى ان الولايات المتحدة الأميركية لا تتضرر أبدا حينما تدفع الفوائد السنوية على مديونيتها. فكل ما تفعله هو طباعة المزيد من الدولارات، قيمتها لا تساوي سوى سنتات قليلة. وعليه فهي لا تأبه بتضخم أرصدة مديونيتها لأنها ستسددها عن طريق طباعة المزيد من النقود. وبعد قيام روسيا بتخفيض استثماراتها بالدولار بشكل ملموس بدأت الصين حاليا ببيع سندات الخزينة الأميركية بالتدريج وقد أوعزت الأخيرة لبعض البنوك بشراء هذه السندات، فهي لا تستطيع منع الصين وغيرها من البيع ولا عدم الاعتراف بقانونية السندات الصادرة عن الخزينة. وعليه لا يمكن لها أن تتحلل أو تنسحب أو توقف الالتزام بشراء السندات كما فعلت حينما ألغت العمل بأحد أبرز بنود اتفاقية بريتون وودز المتعلق بمبادلة الدولار بالذهب عند السعر المتفق عليه. غرور وغطرسة واشنطن مرتبطة بسيطرتها على النظام المالي الدولي وباستمرار استخدام الدولار كعملة احتساب وتسويات ودفع اثمان السلع والصادرات وخاصة الاستراتيجية منها كالنفط والذهب والقمح ..الخ فحينما يتوقف استخدام الدولار على النطاق العالمي او تتراجع أهميته النسبية إلى ما دون ال40% فلن يكون بوسعها فرض هيمنتها من خلال العقوبات على الدول والافراد والشركات.

 

الغطرسة والتبجح والوقاحة الأميركية تم القضاء عليها سابقا في فيتنام حينما خرجت مدحورة مهزومة مكسورة الجناح عام 1975 حينما تمكنت القوات الفيتنامية من دحر القوات الأميركية ومرمغة انف ضباط وجنود المارينز في الوحل. وبالمثل فإن غرور وغطرسة القوة الإسرائيلية ظهرت بشكل جزئي ومحدود في حرب أكتوبر 1973 حيث وضعت الحرب حدا لأسطورة الجيش الذي لا يقهر ولا يهزم ولا يؤسر ولا يقف جنوده حفاة عراة وبثيابهم الرثة الممزقة أمام الكاميرات ثم اعادت المقاومة الوطنية اللبنانية والفلسطينية كسر الغرور الإسرائيلي جزئيا في الانتفاضتين الأولى والثانية لكن من أعاد إبرازها بشكل ملموس هو عدوان تموز عام 2006. والكثير الكثير من الغطرسة الإسرائيلية الحالية مردها إلى حالة الاسترخاء والوهن والضعف في النظام الرسمي العربي. فحينما لا يملك العرب خيارات لمواجهة الغطرسة والوقاحة الإسرائيلية سوى المفاوضات العبثية والتطبيع وتبادل السفراء والتنسيق الأمني وتبادل فتح الأجواء امام الطائرات الإسرائيلية فلا عجب من استمرار غرورها وغطرستها. فالتجربة مع العنجهية الإسرائيلية أظهرت انه كلما جنح العرب والفلسطينيون نحو السلام والتطبيع مع إسرائيل كلما جنحت واتجهت نحو الوقاحة والغطرسة والصلف وزادت من درجة تغولها وعدوانها المباشر على الكرامة العربية وأبرزها مصادرة الحقوق الفلسطينية وتوسيع الاستيطان وتقسيم الأقصى بل وربما هدمه في المستقبل بالإضافة إلى استباحة السماء العربية. فحينما لا يتخذ النظام العربي أي إجراء ملموس ضد نقل السفارة الأميركية إلى القدس والاعتراف بها كعاصمة لإسرائيل كلما زاد ذلك من عدوانيتها. وحينما أدركت بأن العرب والفلسطينيين لم يعد لديهم اية بدائل سوى المفاوضات، تغولت أكثر وصادرت الأرض ووسعت الاستيطان. لن يتوقف الغرور والغطرسة والوقاحة الإسرائيلية إلا بعد ان يتمرمغ انوف جنود الاحتلال في الوحل العربي. فإسرائيل لم تخسر الكثير جراء استمرار احتلالها. فالتنسيق الأمني مستمر ومتواصل والاستيطان يتسارع والانقسام الفلسطيني يتعمق والمصالحة باتت في خبر كان، فما الذي يجبرها على تقديم تنازلات او تظهر مرونة في المفاوضات؟ تلك هي اهم الحيثيات السياسية والاقتصادية للعنصرية والوقاحة الأميركية الإسرائيلية.