• 7 تشرين الثاني 2018
  • إقتصاد وحياة

 

 

بقلم: بسام البدارين

 

طبيعي جدا وفي مجتمع محافظ مثل الأردن وتتصدر فيه القيم الدينية أن ينسى عشرات المعلقين والنشطاء ما قيمته مليار دينار من الهدر المالي وتتسلط الأضواء في النتيجة على نحو 1600 دولار فقط تقول التقارير الرسمية إن هيئة معنية بجذب الاستثمار أنفقتها لشراء مشروبات كحولية خلال حفل استقبال يخص المستثمرين في مدينة العقبة جنوبي البلاد.
بالنسبة للمواطنين البسطاء لا يثير هدر مليار دولار تلك المشاعر السلبية نفسها التي يثيرها شراء زجاجة كحول واحدة على حساب الخزينة بصرف النظر عن السبب بما في ذلك السبب الذي يمكن أن يقال في مثل هذه الظروف أو الذريعة التي يمكن أن تتردد بعنوان حرية الناس فيما يشربون.
أحد الموظفين فيما يبدو حاول تشغيل دماغه فاشترى بحفنة دنانير تلك الزجاجات بهدف توقيع عقود مقنعة لمستثمرين أجانب يشربون الكحول بطبيعتهم أكثر من المياه. كان يمكن للحادثة أن تعبر مثل أي سهرة خاصة لها علاقة بعشرات الألوف من الأردنيين الذين يحتسون الكحول. لكن موظف ما قرر تدوين هذه الملاحظة باعتبارها مخالفة مالية وجلست بوقار في التقرير السنوي لأهم هيئة رقابية مالية في الأردن تتبع دستوريا مجلس النواب لتحصينها.
ترك القوم بطبيعة الحال أو جلهم على الأقل معظم المخالفات الدسمة وثقيلة الوزن ماليا وبدأت الاتهامات من كل صنف ونوع تنهال على الحكومة التي يشجع الموظفون فيها احتساء الخمر ويجاملون فيها الأجانب على حساب ثوابت الأمة والحرام والحلال.
طبعا المعنيون بالبقاء على سطح الأحداث فقط هم الذين تركوا الدسم وركزوا على جزئية بسيطة لا معنى لها، ففي عالم المال والأعمال واستقطاب الاستثمار يعرف الخبراء أن كل شيء مجاز لكن تلك الزجاجات أثارت من الضجة ما لا تستحقه بطبيعة الحال.
أحد أعضاء البرلمان ضحك ملء شدقيه وأنا أسأله: ما الذي يمكن لموظف واجبه استقطاب مستثمرين أجانب أن يقدمه على العشاء أو في حفل استقبال لضيوفه إذا لم يقدم على مثل هذه المجاملة المغامرة؟
ضحك صديقنا النائب أكثر عندما سألت مستنكرا عما إذا كانت الضجة ستثور لو أن الضيوف الأجانب تم تقديم شراب خاص لهم مثل الميرمية أو اليانسون.
اقترح صاحبنا لاحقا وهو يبتسم تزويد كل مستثمر أجنبي بزجاجة من لبن المخيض الساحر الذي يطهى به المنسف الأردني الشهير.
واتفق معي الرجل على أن الحادثة كلها جزئية ولا تستحق أن تجلس في تقرير رسمي لديوان المحاسبة كهيئة رقابية وترسل لأعضاء البرلمان

من واجب هيئات الرقابة المالية دوما وطبعا ملاحقة كل قرش من المال العام ينفق.
لكن المسؤول الذي تتيح له وظيفته الإنفاق أصلا يمكن عدم تدوين مخالفة مالية بحقه إذا كان الإنفاق ضمن المخصصات التي لها علاقة بصلاحياته حيث توجد أنظمة ولوائح كفيلة أصلا باصطياد كل قرش مهدور.
غريب جدا أن تثار تعليقات خشنة ضد المؤسسة التي قدمت لضيوف من المستثمرين الأجانب بعض زجاجات الكحول وكان المسؤول عن هذا الاجتهاد والنشاط هو ذاته الذي سلم القدس وثقب الأوزون وأطاح بصدارة أمة الإسلام للعالم.
طبعا نقف ضد مخالفة أي من التقاليد والأعراف وأحكام الشريعة السمحاء في كل النشاطات والاجتماعات. ولا يهمنا إطلاقا مجاملة الآخرين على حساب ما يقبله أو يرفضه مجتمعنا ولسنا معنيين بالكحول من حيث الشكل والمضمون لكن في الأردن مصانع تصنع الكحول وعدد الأردنيين الذين يتناولونها ونعرفهم من المسلمين أكثر بكثير من الذين لا يفعلون.
المهم أن تكون ملاحظات الرقابة المالية لأي هيئة جوهرية وصلبة ومقنعة وملتزمة بالقانون نصا وروحا. ونشعر بالمفاجأة فعلا من التركيز الشديد على جزئية في هذا السخف مقابل ترك الكثير مما هو أخطر وأهم من تلك المضامين التي وردت في التقرير السنوي لديوان المحاسبة المركزي.
حسب التقرير نفسه التهم الأردنيون أطنانا كثيرة من القهوة المخلوطة بالحشرات والمكسرات المسرطنة واختفت عن الدنيا طائرة متخصصة برش المبيدات الزراعية وتهربت مصفاة البترول بقيمة ربع مليار دينار وزرع أحد رؤساء البلديات شوارع قريته الصحراوية بأشجار زينة بأكثر من مليون دينار اشتراها من التاجر نفسه.
بطبيعة الحال تلك مخالفات مالية وإدارية من النوع الجسيم وتتحول إلى جرائم وفظائع في بلد يئن تحت وطأة الدين والضعف الاقتصادي.
ولعل قيمة ديوان المحاسبة السياسية تبرز هنا من ضرورة إقناع الموظف العام بأن صلاحيات الإنفاق مقيدة بالقانون ولكن انحياز التقرير الرسمي الرئيسي إلى قضايا فرعية صغيرة جدا يمكن التحاور بها مع المؤسسات المعنية أو تخضع للاجتهاد أو حمّالة أوجه ولديها تفسير قد يسيء في النتيجة إلى المضمون الأعمق لدور التقرير في الرقابة المالية.
لذلك نتوقع تطوير آلية عمل ديوان المحاسبة وتقنية إصداره لتقاريره وملاحظاته خصوصا وأن التقرير يعيد تكرار بعض الأحداث بدون سبب.
ونقف بالتأكيد مع ملاحظة رئيس مجلس النواب عاطف طراونة وهو يطالب الذراع الرقابي المالي الأهم في الدولة بالأولويات الواضحة أكثر خصوصا وأن الشارع ومزاجه ميالان دوما لممارسة كل أنواع الاصطياد في مياه الحكومة العكرة.

 القدس العربي