• 7 تموز 2012
  • حارات مقدسية

بقلم: محمد عبد ربه *

هناك في حارة قديمة من حارات قدسك العتيقة لا زلت تحيا طفولتك المعذبة ومعها تعيش شقاوة أيامك الأولى...كانت لكم حارة سماها الآباء والأجداد منذ قرون مضت ب "حارة الشرف".. حارة صغيرة من بيوت وقباب تتداخل حجارتها ب"حي المغاربة" ذلك الحي القديم من أحياء بلدتك القديمة الملتصق بالمسجد الأقصى، الذي أزاه المحتلون الإسرائيليون ودمروه وأتبعوا تدميره محو حارتك التي ولدت فيها وترعرعت...في تلك الحارة كان "أبو أحمد" والدك الكهل سقاء الحارة ومغيثها يوم القحط والجدب العظيم. لا زالت حمالة الماء ودلالها السوداء الجلدية وتنكها يذكرك بعذابات هذا الرجل القادم من "خربة اللويبدة" من خرب بلدة دورا أقصى الجنوب.. لم تكن ولدت بعد حين الرحيل من الخربة إلى البلدة القديمة .. لكنك لم تر النور إلا في الزقاق العتيقة.. كنت ثالث أخوين، وثامن الأشقاء والشقيقات..نشأت ومشيت حافي القدمين بضع سنين، وكنتم في البيت العتيق كما السمك في علبة السردين.. لكن الحياة هناك لها طعم من التاريخ والذكرى الجميلة..مصباح الكهرباء وفتيلته البيضاء ولمعان الضوء في لامبة الكاز,, وموقد الحطب في كانون هو بعض من كثير تحمله الذاكرة  المتخمة بعذابات تلك الأيام.. وبالعذب الجميل من تلك العذابات..

ألا ليت الزمان يعود يوما ..

وليت الليالي التي كنت تصحو فيها على وقع الحديد في حمالة الماء والتنك تعيدك إلى دفء ذلك البيت العامر بالحب وبكفاح من قطع الأرض عرضا وطولا كي يؤمن لك ولإخوانك لقمة العيش ومر الخبز....

تمر الذكرى مثخنة بالطفولة المشقية بالبحث عن رسم من رسوم تلك الدار وقد درس منذ زمن واستوطنه الغرباء القادمون من بروكلين، وأقاموا فوق المكان مكان.. وهدموا  البيت العتيق المعتق وصنعوا من حجارته عرائش وبيوتا للعنكبوت... هناك تركت طفولتك وكل الذكريات..وهناك لا زالت بقايا من وجوه أناس رحلوا إلى العالم الآخر، لكنهم في السويداء من ذاكرتك وأنت الشقي المشقي بأحبابك وناسك..ها أنت تعود إلى الحارة غريبا عنها.. ومن سكنوا على أنقاض طفولتك وفوق أشلاء أجدادك باتوا أهل الدار والمكان.. ألم يتوجسوا منك خيفة وأنت تتأمل "عين الماء" العتيقة وسط الحارة وقد كنت تبحث في حجارتها عن بقية من بقايا والدك العظيم...يومذاك لم تأبه للغرباء وقد افترسوك بالنظرات.. وحين أقبل صوبك حرس الحدود وتحلقوا كالشياطين من حولك بادرتهم ب"البطاقة الزرقاء"، فتمعنوا في الاسم والصورة، وأطالوا مكثك وقد أحاطوا جسدك بفوهات بنادقهم  إلى أن اطمأنوا إلى من دخل الحارة غريبا عن "غربائها" لا حول له ولا قوة وسط غابة البنادق والكراهية في عيونهم...لم تغادر المكان إلا بعد أن انتزعت من بين حجارة "العين" حصى صغيرة، ترجو أن تكون قد حملت حبيبات من عرق والدك، أو بعضا من أنفاسه...لم تأبه لكل الخلق الذين تسمروا من حولك وتابعوا خطوك حتى انتهيت إلى "سوق الباشورة"، ومنه دلفت إلى سوق "الخواجات"، وقادتك الخطى إلى ما كان يعرف ب"سوق البازار".. هناك توقفت طويلا، وعادت بك الذكرى إلى سنواتك الست الأولى، حين كنت تحمل عن والدك كيسا أو اثنين من أكياس الفواكه والخضار.. كان لكل شيء طعم ورائحة.. وللناس هناك صور ووجوه وسراويل تميزهم، ورؤوس تعتمر الكوفية البيضاء...

 صحفي  من الرعيل الاول من الصحفيين الذين يتنفسون القدس صباح مساء لدرجة انه اصبح بها وهي اصبحت به لا يعرف الا ان يتحدث عنه ويكتب عنها ويعيشها