• 21 أيلول 2016
  • أقلام مقدسية

 

 

بقلم : سميحة خليفة

 

عندما كانت الموضة تَحُثُّ العوائل على الحصول على موائد زجاجية، حصل والدي على واحدة أكملتْ بها أمي ديكور صالة الضيوف، المكان الذي كنا نرى تفاصيله فقط نهايات الأسبوع حين يدق بابنا من نحبهم من الأهل و الأصدقاء. كان قانون البيت في ذلك الزمن يطبق بحذافيره حيث مُنِعنا نحن الصغار منعاً باتاً من الاقتراب من كل شيء ثمين، ولأن الكرة هي عدو الأثاث كان من الصعب جداً إدخالها إلى وسط الدار، من يدري فقد تحول بركلة واحدة كل الزجاجيات والقطع الفاخرة إلى مجرد تاريخ.

إلا أنني كثيراً ما كنت أتسلل إلى الصالة لأستعين بالمائدة الزجاجية لرسم خرائطي، فقلة مهارتي في الرسم بصفة عامة جعلتني أفكر في مخارج أخرى لأتخلص من هم الألوان الخشبية، الواجب المنزلي الأكثر إزعاجاً على الإطلاق. كنت أضع المصباح الكهربائي أسفل الزجاج، أما فوقه فكنت أضع صفحة الكتاب التي تحوي الخريطة، وفوق تلك الصفحة كنت أضع ورقة بيضاء لنقل حدودها كما هي من النموذج الأصلي فأحصل في النهاية على نتيجة مثالية ما لك إلا أن تصفها بـ "الإحتراف". كان داخلي يشعر بالانقباض حين يمدح معلمنا الدقة التي اتبعها في الرسم كل مرة. كنت أراني بعد كل حصة جغرافيا أتحول إلى ثعلب مخادع لكن لم أكن أملك حيلة غير ذلك.

ربما أصابعي لم تكن طيعة ما يكفي لأرسم حدوداً صحيحة لأي بلد، و ربما لم يكن داخلي يصدق فكرة الحدود في الأساس. من وضع الخريطة؟ لماذا وضعها؟ ما الغاية من قطع الأهالي بعضهم عن بعض بخط وهمي يسمى الحد الجغرافي؟ الكثير من الأسئلة المشابهة كانت ترقص في ذهني رقصة الغجر؛ تختفي مرة و تلوح مرات عديدة.

الآن، بعد عمر من الأذية صرت أدرك الأجوبة كلها، كما بت أتقبل ـ لو نسبياًـ الأشكال المختلفة للخرائط، ألوان الأعلام و الأسماء المتجددة لقطع من التراب. ما يشغلني هنا فعلاً هو المعنوي والمادي من هذا التصرف. أما معنوياً فأجد أن مجمل الفكرة من الوهم الجغرافي هو الحد من قدراتنا، أن يضيّق علينا فضاء النزهة، أن يجعلني و يجعلك ضعيفاً وفي شلل فكري مزمن. وأنت منفصل عمن تحبهم ـبسبب التقسيم الإحترافي للأراضي الخاصة بكـ تجد نفسك دون سند، ترتفع نسبة الخوف فيك وتقل نسبة الثقة بذاتك.. ترى بوضوح أنك صرت لا تقوى على فعل أي شيئ بل تجد نفسك قد تحولت إلى مجرد هيكل، إلى بدن لا يرفع مجتمعه ولا المجتمع يرفعه.

أما ماديا، فهو التقسيم "العادل" لمخازن البلدان بين المُنفّذ و آمِرِه. بصمت تجد نفسك موافقاً على شيء لا ترى بوضوح خيوط بدايته، بل لا تعقل حتى الهدف الذي رسم من أجله. و بغض النظر عن الروايات الكثيرة التي ترد مسامعك والتيارات التي تروح بقناعتك و تجيئ، تجد ذهنك ـوبعفوية مفبركةـ قد انساب مع فكرة "الأخ الأكبر" الوجه الذي يأمرك وينهيك، يراقب تحركاتك وكل تفاصيلك، يطبق عليك أبشع العقوبات حتى إن لم تكن قد تتسبب في شيء يستحق عقوبة بذلك الحجم؛ مثلاً أن تعاقب من أجل رفضك لتقسيم خيرات بلادك مع جنس يخالفك فقط لأنه يريد ذلك، أو أن تقسم أراضيك مع طرف لا يملك الحق فيها، لا شبراً ولا أقل من ذلك.

تخيل أنك بعد حين من الزمن تجد نفسك مجبراً على رسم خريطة مخالفة للتي تعرفها عن بلدك، وكلما أطال الرب عمرَك كلما رأيت الحدود الرسمية للدخيل تكبر في حين تصغر حدودك وتصغر.. تتقلص وتتقلص فتتلاشى بل يضيع أثرها من على محرك البحث "غوغل للخرائط".

في زمن كهذا الذي نحن فيه؛ زمن العدالة، زمن الحرية، زمن حقوق الإنسان وحقوق الحيوان وما بينهما من اختلاف في وجهات النظر. زمن الملاحظة والنقاش؛ حيث الكل يتحدث عن الكل، والكل يرى بوضوح أخطاء الكل. ومع ذلك لا أحد يتحدث عن لؤلؤة العالم فلسطين ولا أحد يهتم لعدم رؤيته خريطة لها على محرك من أهم و أضحم محركات البحث على الإطلاق. لعلها صدفة ولعل الموائد الزجاجية لم تعد شائعة كما كانت في الماضي و بالتالي لم يتمكن التلميذ النجيب من نقل خرائط العالم بالشفافية اللازمة والإحترافية المطلوبة.

الحزن احتمال بعيد أن يسيطر علينا، فمن ظل ـعلى كل حالـ يؤمن بوهم الحدود ما دام الأصل ضارب بجذوره عمق التراب القدسي.. فلتمسح الخرائط من على السطح ولكن من يقتلع الحياة الضاربة في عمق التاريخ؟ لا يعقل أن يقال عن أمّ أنها عاقر في حين أنها أنجبت من بطن ماضيها من التاريخ ما تجف له البحار.. من يتحدى فيطفئ نور الحق بفاه؟ لا عجالة فالزمن كفيل باثبات كل صغيرة وكبيرة.

مهما كان طريقنا إليك يتغير كل يوم، إلا أن موقعك هناك حيث أنت وفي ذواتنا أيضا سيظل ثابتاً. ولإشراقك على الوجود كل صباح بقية ما دام عشقنا لك يزداد كل عشية.. يا لؤلؤة العالم يا قبلتنا الأبدية.

 

عن الصباح التركية