• 27 آيار 2017
  • أقلام مقدسية

 

 

بقلم : سوسن أبو حمدة

 

توقفنا في مطار بيروت ننتظر ختم جوازاتنا لدخول الأراضي اللبنانية. ملامح ضابط الجوازات لم تكن مطمئنة كان يتعامل مع القادمين باستعلاء وفوقية . التوقعات كانت في مكانها لم يسمح لي ولزوجي وأطفالي بالدخول الى بيروت وحوّلنا إلى المكتب الأمني . وفي مكتب الأمن أخبرنا الضابط أن وجود طابع إسرائيلي على جواز سفر زوجي يمنعه من دخول بيروت. شرح لهم زوجي أنه أردني من أصل فلسطيني قام بزيارة أقاربه في الضفة الغربية ، لكن هذا لم يشفع له ليُسمح له بالدخول . أخبرهم أن أمه لبنانية وأباه فلسطيني، لكن هذا لم يشفع له أن يدخل موطن أُمّه. ضاق به الأمر وقال لهم إني أحمل الجواز البريطاني الذي أجبرت نفسي على أخذه لأعبر حدودكم دون أن تقطّعوا أوصالي، لكن هذا لم يشفع له أيضا. قرروا أن ينفذوا القرار الأمني وأن يبدأوا بتطبيق سياسة الإذلال الممنهجة ضد الفلسطينيين والتي باتت تتجاوز أسوار المخيمات الفلسطينية في لبنان.
عزلوني عن زوجي ووضعوه في غرفة أمنية وطلبوا مني ِالانتظار على كراسي المطار مع أطفالي الصغار . كنت في حالة من الذهول والصدمة غير مصدقة لما يحدث ، لماذا كل هذا الذل والحصار الذي يُهاجم به الفلسطينيون من أُولي القربى.
وبينما أنا شاردة في لعنة العرب لأنفسهم، جاءني الضابط ليعلمني أنه يحق لي ولأطفالي الدخول الى الأراضي اللبنانية ولكن زوجي سيبقى ملقى به على كراسي الترانزيت تحت الرقابة الأمنية كما لو أنه مجرم هارب.
رفعت رأسي صوبه ونظرتُ إليه بصمت شديد يخفي غضبا حارقا لم يكن ليطفأ حتى الآن ، قررت أن أنتفض على نفسي وعلى بيروت وأن أحمل ذات الحجر الذي يحمله الفلسطيني لمواجهة عدوه الاسرائيلي ولكني سأُوجهه لذوي القربى. نهضت عن الكرسي ونفضت الذل الذي حاولوا أن يُلبسوني إياه، وبخطوات غاضبة تطرق الأرض وتُسمع السماء توجهت الى الغرفة الأمنية وخاطبت الضابط بنبرة حادة:
أيعقل أن يوضع فلسطيني في الترانزيت لأنه زار الضفة الغربية .
قال لي: هذه قوانين الدولة اللبنانية
أجبته: أية قوانين هذه التي تعاقب الفلسطيني بسبب زيارته لفلسطين.
قال لي: هذا هو القرار
قلت له: حسنا أريد أن أتحدث مع السفارة الاردنية أو البريطانية
قال لي: لا تتوفر لدينا أرقامهم
قلت له: إذن تمنعني
قال لي: اذهبي خارج المطار واشتري خطا وتحدثي مع من تريدين.
قلت له: أطفالي نيام على الكراسي هل كنتم ستقبلون لزوجاتكم وأطفالكم هذه المعاملة.
نظر إليّ مستنكرا جُرأتي
قلت له: عيب عليكم هل أنا في دولة عربية ما الفرق بينكم وبين اسرائيل إنكم تتصرفون مثلها تماما.
استشاط غضبا وقال لي: لا تتحدثي بهذه الطريقة.
علا صوتي وكررت عبارتي ما الفرق بينكم وبين اسرائيل.
هنا تحولنا لمسرحية يتابع مشاهدها المقيتة كل من يتواجد في مطار بيروت، وأُجزم أن كلامي كان بردا وسلاما على قلوب كل من أُحتجز في الغرفة الأمنية وأغلبهم من الفلسطينيين الذين لم يتجرأ أحد منهم على المجادلة لأنهم من حملة الوثائق اللعينة.
تدخل ضابط وحاول تهدئة الوضع وقال لي بلغة الإتيكيت اللبنانية : مدام بإمكانك ان تدخلي مع أطفالك الى بيروت .
نظرت إليه نظرة كادت أن تحرقه من غضبي: قلت له لن أدخل دياركم ما دمتم تعاملون الفلسطينيين بهذه الطريقة المهينة.
أَرشدني الى مكان الترانزيت وسأمضي ليلتي مع زوجي وأطفالي على كراسي الترانزيت على أن تطأ قدمي أرضكم.
علامات الحرج الخبيثة بدأت تترسم على وجوه ضباط الأمن بعد أن حَوّلتُ دفة الإذلال صوبهم برفضي الدخول لديارهم ، لكن بعضهم أُجزم أنه كان مستمتعا ومتلذذا بما يشاهد. صعدت إلى الطابق الثاني في طريقي إلى كراسي الترانزيت وهناك التقيت بزوجي بعد أن تعطفوا علينا بقضاء ليلتنا سوية لأنه حسب القوانين اللبنانية العنصرية تجاه الفلسطينيين لا يسمح لنا باللقاء إلا عند باب الطائرة.
قال لي زوجي: لماذا لم تدخلي بيروت من أجل الاطفال حتى لا يمضوا ليلتهم على الكراسي.
قلت له : ما كان لي أن أقبل ذلهم لنا، دع الأطفال يجربون ليلة ذل فلسطينية ويتعلمون الكرامة على كراسي ترانزيت بيروت بدل فنادقها.
دمدم زوجي مع نفسه: لقد أخذت الجواز البريطاني حتى أزور أعمامي في فلسطين دون مضايقات إسرائيلية والآن أنا أُحرم من زيارة أخوالي في بيروت بسبب زيارة أعمامي. صمت قليلا ثم نظر إلي ساخراً: ما رأيك هل أختار أعمامي أم أخوالي؟
كان بإمكاننا أن نرى بيروت من خلال الزجاج الذي يحيط بكراسي الترانزيت، أخذتني خطواتي صوب الزجاج، وقفت أمامه أتأمل شوارع بيروت بحسرة مقيتة والذهول مازال يرافقني، اقتربت أكثر من الزجاج حتى لامس وجهي: لقد أذلونا وأذلوكِ يا بيروت، لماذا يُلبسونكِ ثوبا أسود وأنت لا يليق بك إلا النقاء، وعدت أطفالي أن أُعرفهم عَلَيْكِ لكني أخلفت وعدي، لقد جعلونا نتعفف عن الدخول اليك إكراما لكرامتنا. يقولون إن اسرائيل عدوة لذلك يرفضون ختمها على جوازات سفرنا. هل تصدقين أن ما فعلوه بنا هو وفاء وإكراما لفلسطين؟ هل يمكن أن يجتمع الوفاء والذل سوية؟ أفيقي يا بيروت إنهم يصطفون إلى جانب العدو ويمدون جدار الحصار الاسرائيلي على الفلسطينيين حتى أسوارك النقية. لقد أثقلتُ عليكِ وأبكيتكِ وأنت لا تستحقين البكاء . أتعلمين ، سيرسلون ضابط أمن في الصباح ليرافقنا مع أطفالنا حتى باب الطائرة كمجرمين، فهل هذا أيضا إجلالا للقضية الفلسطينية التي يتاجرون بإرث شهدائها وكرامة أحيائها، والتجار كثر يا بيروت. لا أعلم إن كنتِ ستنهضين يوما وتُمزقين الثوب الأسود الذي يلبسونك إياه وتلقين بالعمامة السوداء التي يحاولون لفكِ بها، ولا تنسي يومها يا بيروت أن تمزقي كل شعارات المقاومة التي أرهقونا وكبلُّونا بها، سنبقى ننتظرك يا بيروت وسنعود إليك ما دمنا نستمع لفيروز ولن يفلحوا بمنعنا

عن القدس العربي .