• 22 تشرين الثاني 2017
  • أقلام مقدسية

 

 

بقلم: احمد جميل عزم

 

بعد جلوسي مع أكثر من عشر شابات وشبان من القدس في ورشة عمل، تذكرت قريب صديقي، الذي زارنا في عمّان، منتصف الثمانينيات. فقد حصل الفتى، وعائلته في الأصل لاجئة من قرية المالحة غرب القدس، على حذاء رياضي لكرة القدم، بقاعدة ببراغٍ معدنية. كان الحذاء أرقى ما يمكن شراؤه حينها، وكنا معاً وهو يرزم الحذاء لوضعه في شنطة السفر، اختفى في غرفة داخلية في البيت وعاد بالحذاء مثقوباً من الأمام. ألحّ عليّ المشهد وأنا أتحدث مع الشبان المقدسيين، وغالبيتهم إن لم يكن جميعهم، لم يكونوا قد ولدوا زمن تلك القصّة.

كان المرور عبر "الجسر" ومحطة العبور التي يسيطر عليها الاحتلال أمرا بالغ التعقيد والإذلال، ليس هناك متسع لسرده الآن، ولكن جزءا من الحسابات الدائمة، هي نقطة الجمارك واحتمالات المصادرة. وفي رواية سحر خليفة، الصبار، مشاهد طريفة ومؤلمة عن نقطة الجمارك تلك. وأراد الفتى الذي لم أعد أذكر اسمه، أن يبدو "البوط" قديماً قليلاً، ولكن بدل جعله متسخاً مثلا، أمسك المشرط، بهدف حك جلد البوط، ليبدو شاحباً، فثقبه بالكامل، بدا جديداً ومثقوباً. سيبكي أغلب الأطفال إذا ثقب حذاؤهم الجديد بهذا الشكل، ولكن "صديقي" كابرَ وادّعى أنه قصد ذلك.

بعد أن تناقش الشبان والشابات بواقع حياتهم، خرجوا بفكرة، أنّ ما يعيشونه في القدس يُسمّى "بيئة قهرية"، تحدثوا عن التهجير القسري، والعقاب الجماعي، وتقييد الحركة، والإعدامات الميدانية. أحدهم قال "البيئة القهرية هي الممارسات القامعة للحريات، الشعور بالعجز أمام قوة مُتجبّرة، تَتحكم بمصير حياتك واختياراتك، بيئة شديدة القسوة تنتزع أي إمكانية لتحقيق أحلامك وطموحاتك، بيئة تسلب منك طاقتك بشكل يومي لأنك تعيش في صراع معها".

تفاصيل الحياة القهرية لدى كل واحد منهم تختلف عن الآخر، بحكم مشاهداته ومكان إقامته. فتاتان تصفان رحلة مشتركة للصلاة، في المسجد الأقصى "انتهت الصلاة! فجأة شعرت نفسي في ساحة حرب، خيّالة، قنابل غاز وصوت، رصاص حي ومطاطي، الناس تتدافع، شعور هائل بالهلع... بعد رحلة شبه مستحيلة للوصول إلى السيارة لنستطيع العودة إلى البيت. رأينا سيارات للجيش الإسرائيلي ترش المياه العادمة على المنازل والمدنيين، وبعض الأحياء أغلقت بالمكعبات الإسمنتية". شاب آخر يقول "حددتُ تخصصي في الجامعة، بناء على الكلية التي أستطيع الوصول لها بسهولة نسبية أكثر من الجامعات الأخرى. ساومتُ على مستقبلي وقدمتُ تنازلات من أجل بعض السلام العقلي، لأجد أصدقائي في الكلية يعيشون معركة يومية، أحدهم يسكن قرية بيت اكسا، المعزولة عن القدس، ليصل الكلية عليه الالتفاف من قرى رام الله، بطريق تستغرق ساعتين رغم أن بلدته تبعد ربع ساعة فقط. صديقي الآخر يبدو ناقما على كل شيء، حتى على أبيه الذي يحمل هوية فلسطينية بينما أمّه تحمل هوية الإقامة الإسرائيلية، ومستقبله مجهول ومهدد بأي لحظة بالإبعاد عن المدينة". فتيات، يصفن الخروج في الصباح الباكر يملؤهن الأمل، ولكن كما تقول إحداهن "أخرج أثناء العتمة، لأصل محاضرة الثامنة، وأعود في العتمة بسبب الحواجز. لن أنسى حاجز قلنديا أبداً؛ مشاهد قنابل الغاز وإلقاء الحجارة. وحالات الانتظار ساعتين ثم تقرر المجندة إغلاق الشبّاك، فنركض للمسلك الثاني، على الحاجز. نصل البيت منهكين، أبكي تعباً وإهانة. هذا فضلاً عن خلع الملابس والتفتيش الدقيق. والقلق من احتمال الإغلاق والاضطرار للمبيت في رام الله. وأيام إغلاق الطرق، واستحالة الوصول للجامعة.

فتاة أخرى تصف حالة رعب وهي تتذكر حالات أشخاص قتلوا على الحاجز، لمجرد الاشتباه بهم، أو دون اشتباه ربما، مثل مقتل مرام صالح، (الأم لطفلين) وشقيقها إبراهيم (16 عاماً)، صيف العام 2016، بأكثر من 15 رصاصة، بعد مزاعم أنهما كانا ينفّذان عملية طعن، ادّعى الاسرائيليون أنّ وجود يد المرأة في حقيبتها، ووجود يدي شقيقها خلف ظهره، أثار الريبة، وتقول الفتاة: تحتار أحياناً كيف تظهر يديك وتُراقب حركاتك حتى لا تُقتل ويقال أني أثرت الشبهات.

تبخرت هذا الأسبوع آمال الغزيين بفتح معبر رفح سريعاً، ولو جزئياً، وعندما يقارن الغزيون، وحتى باقي أهالي الضفة الغربية، أنفسهم بالمقدسيين، يشعرون بالغيرة مما يعتقدونه وضعا أفضل يعيشه المقدسيون.

أوضاع الفلسطينيين تحت الاحتلال شظايا من أنواع المعاناة المختلفة، وحتى هم لا يدركون كامل المشهد، فماذا عن باقي العالم البعيد؟

عن القدس