• 19 شباط 2018
  • أقلام مقدسية

 

 

بقلم : مالك التريكي

لست ممّن يقيّمون الفنانين، من مطربين وممثلين، بآرائهم السياسية أو ممّن ينتهي إعجابهم بفنان إذا اكتشفوا أن له مواقف lصلحية. ولذلك لم أكن أفهم لماذا استاء كثير من الناس عام 2011 من إعلان فنانين، من أمثال عادل إمام وطلعت زكريا وعفاف شعيب وشمس البارودي وغادة عبد الرازق الخ، عن ولائهم لنظام حسني مبارك واستنكارهم للثورة جملة وتفصيلا، باعتبارها مجرد حالة مرعبة من الهرج والمرج، وحملهم على من نعتوهم بأنهم شباب ضال غرّر به فخرج في غير وعي يعربد ويعيث في البلاد.

أما الاعتبارات التي تجعلني أرى أنه ليس من الإنصاف تقييم المطربين والممثلين حسب مواقفهم السياسية فيمكن إجمالها في اثنين. الاعتبار الأول هو أن المثقفين والكتّاب والأكاديميين المتابعين للشأن السياسي متابعة لصيقة دائمة ليسوا معصومين من السقوط في الامتحان الأخلاقي كلما تعلق الأمر بالانحياز للحق وبالمجاهرة بالحقيقة في وجه السلطة، أو على الأقل كلما تعلق الأمر بالامتناع عن الانضمام لجوقة المدّاحين والمطبلين وبالإعراض عن المشاركة في تزيين الباطل في أعين السلطة وعن الوقوع في مهاوي النفاق والتملق والتمسح بالأعتاب. ولذلك فقد رأينا كيف أن من المثقفين العرب من ظل يناصر الحكام ضد الشعوب طيلة عقود، كما رأينا كيف أن منهم من انحاز في السنوات السبع الماضية إلى الأنظمة ضد الثورة.

وهذا يفضي إلى الاعتبار الثاني: إذا كان الأمر بهذه الضبابية، أو بهذه الرخاوة، مع مثقفين يفترض أنهم على درجة عالية من الوعي السياسي ومن فقه الشأن العام، فلماذا يطلب من المطربين والممثلين أن يكون لديهم من الوعي السياسي (الذي هو ليس بالضرورة من لوازم مهنتهم ونشاطهم) ما يجعلهم ينجحون في الامتحان الأخلاقي الذي سقط فيه كثير من المثقفين؟

كما أني لست ممن يقيّمون المبدعين، من أدباء وشعراء ومفكرين وفلاسفة وموسيقيين، بمعيار ليس من صلب مجال إبداعهم. أي أني لا أرى أن لحياة المبدع الشخصية، سواء كان ملاكا أم شيطانا، بالغ أهمية في تحديد قيمته الفكرية أو الفنية. فلو كان الأمر كذلك، لصار لزاما علينا أن نمتنع عن قراءة الشاعرين رامبو وفرلين، وعن قراءة روائيين مثل مارسيل بروست وأندري جيد وجان جيني، ومفكرين مثل روسو وفوكو وبارت. وقد عجبت عندما قال لي الكاتب حسين أمين (ابن المفكر أحمد أمين وأخو الاقتصادي جلال أمين)، وقد كان، رحمه الله، من أوسع المثقفين العرب اطلاعا على الآداب الغربية، إنه صار لديه تحفظ على سارتر منذ أن علم بما كان يتخلل سيرته من المذامّ والمعايب. عجبت لأن الفصل بين النقد الأدبي والاعتبارات الأخلاقية والدينية عريق في التراث العربي. قديما قرره عبد العزيز الجرجاني في «الوساطة بين المتنبي وخصومه» عندما قال إن المعايير الدينية لا تنطبق على المنتج الفني، كما فسره ابن جني عندما قال «ليست الاعتقادات والآراء في الدين مما يقدح في جودة الشعر ورداءته». أما حديثا فقد أكده الشيخ الطاهر بن عاشور، صاحب «التحرير والتنوير» في تفسير القرآن الكريم، عندما حقق ديوان بشار بن برد… وما هو، لعمرك، بشعر زهد وورع!

ولهذا عندما تبين، عام 2010، أن مطربا تونسيا ذهب وغنى في إيلات وهتف بحياة نتنياهو كتبت في هذه الزاوية آنذاك أن الداعين إلى سومه سوء العقاب مخطئون، إذ «يكفي الرجل عقابا أنه قد افتضح أمره وساء ذكره». إلا أنه قد اتضح قبل أيام أن تلك لم تكن حالة منفردة، بل إن نظام بن علي كان نشطا دؤوبا في «التطبيع الفني» عبر ترتيب سفر العديد من المطربين التونسيين لإقامة الحفلات في إسرائيل. وإذا كان هذا غير مفاجىء، بحكم قدم علاقة بن علي الشخصية مع الاستخبارات الإسرائيلية ومع يهود تونس في فرنسا منذ السبعينيات، فإن الداعي إلى الدهشة، بل عدم التصديق، هو أن يفاخر المطرب الشعبي قاسم الكافي بأنه غنى في إسرائيل مرارا، ثم أن يتوج سماجة الفخر ببذاءة القول بأنه غير معني بجرائم الاحتلال لأنه تونسي وليس فلسطينيا!!!

يا لهذا السقوط المخزي في أسهل امتحان إنساني! إذ إن تمييز الظالم من المظلوم والمدجج من الأعزل ليس مسألة سياسة أو ثقافة، ولا مسألة وعي أو معرفة. بل يكفي أي عربي أن يكون عنده أدنى شعور بالكرامة حتى يكون التضامن مع أخيه الفلسطيني مقوما من مقومات ذاتيّته الإنسانية. وذلك أفقر الإدراك. وذلك أضعف الإيمان.

عن القدس العربي