• 21 شباط 2018
  • أقلام مقدسية

 

بقلم : وليد سالم

 

أسهب فلاسفة العلوم الاجتماعية في الكتابة عن الحيّز العام وأهميته، حيث عرفه الفيلسوف الألماني هابرماس بأنه النطاق الذي تتم في إطاره كافة التفاعلات بين المواطنين والمواطنات والتي تتم بناءا على رابطة المواطنة التي تجمعهم/ن معا.

وفق هذا التعريف، فإن الحيّز العام يأتي بعد العائلة والعشيرة، التي  تمثل على العكس حيزا خاصا يبنى على رابطة الدم.

ومن جهة أخرى فإن المجتمع المدني بما هو مجموع المبادرات الطوعية والتطوعية الصادرة عن المواطنين والمواطنات لتنمية أنفسهم ومجتمعهم بشريا واقتصاديا واجتماعيا وسياسيا، يمثل أحد الفواعل الرئيسة في إطار الحيّز العام، والأخير يشمل بدروه أيضا فواعل أخرى كتلك العاملة  في الحقل السياسي كمؤسسات الدولة، والأحزاب السياسية، حيث أن الأخيرة هي جزء من المجتمع المدني إضافة لعضويتها في المجتمع السياسي.

ويمكن الإضافة في هذا الجانب النظري الموجز، أن التفاعلات التي تجري في الحيّز العام تعبر عن مدى تطور وديناميكية المجتمع، فالمجتمع الخاضع للإستبداد ، يعاني من ضيق الحيّز العام وندرة التفاعلات داخله، واقتصارها على التفاعلات بين النخب، وفقر في نوعية رأس المال البشري، وعجز اقتصادي وتنموي، وخلق مجتمع الطاعة والاذعان، و" أمرك سيدي"، بما يلغي العقل والحرية، وينتج إمعات تابعة ملحقة، متزلفة ومداهنة من أجل مصالحها الخاصة على حساب الحق العام.

أما المجتمع الديمقراطي الحر المنعتق من الأغلال، فهو مجتمع الحيّز العام الواسع المفتوح لكل الاتجاهات والتلاوين بدون قيود التكفير أو التخوين أو التعصب أو إحتكار الحقيقة. هو مجتمع قبول الآخر وإحترام التنوع والتسامح. هو مجتمع المؤسسات وتجاوز تحكم الفرد أو المجموعة المتسلطة. وهو أيضا مجتمع تفتح الأفراد والجماعات وإطلاق العنان لطاقاتهم الفكرية والنفسية والبدنية لتنمية عافية المجتمع واقتصاده واعتماده على ذاته، وفي أجواء من تعزيز التفكير النقدي والابداع وقبول النقد بدون تحسس أو عنجهية. هو مجتمع احترام الكفاءات من أجل تحقيق التنمية بديلا لمجتمع " أبو العريف" الذي يفتي ويقرر في كل شيء. هو مجتمع التفاعل بين النخب وعموم المواطنين والمواطنات، لا مجتمع الفجوة بينهما. هو بإيجاز مجتمع ينمو فيه الرأسمال البشري الكيفي للجميع نخبا وشعبا ويتطور بشكل مستمر وديناميكي.

أين نحن من كل ذلك في فلسطين؟، حيث يتحكم الاحتلال الذي نعرف ما يفعل، ولكن نعرف أيضا ثقافة التبرير التي تعلق كل شيء على مشجب الاحتلال. وفِي هذا الإطار يجب أن نعترف بأن وضعنا الداخلي ليس على ما يرام، حيث أنه يثير عشرات الأسئلة المتعلقة بالحيز العام الفلسطيني والذي اصبح في منتهى الضيق بحيث لم يعد يتسع لوجود الاخر سيما في العلاقة بين النخب وبين الشعب ، وأصبح يضيق ذرعا بالنقد، ويعاقب الحر في آرائه وأفعاله، كما يعاقب الشعب بعجزه عن إحداث التنمية الحقة، وما ينتجه ذلك من بطالة وجوع وفقر ذات اليد.

تحدث مفكرنا إدوارد سعيد عن المجتمع الفلسطيني كمجتمع وسطية وتسامح. أين نحن من ذلك الان؟.

وتحدث مفكرنا ابراهيم ابولغد عن مجتمعنا انه تميز تاريخيا بالمشاركة والتعددية والانتخابات.

أين المشاركة الْيَوْمَ؟، لماذا يستمر الانقسام بديلا للمشاركة؟ لماذا يحس الناس في غزة والقدس والضفة أنها أصبحت مناطق متفرقة كل منها لها واقعها الخاص وهمومها المختلفة مترافقة مع أحاسيس مريرة بالتهميش سيما في غزة والقدس؟.لماذا  أيضا يهمش الشباب والنساء ويقصى المجتمع المدني عن المشاركة؟. لماذا تطفو على السطح الانانية والسعي لتحقيق المصالح الذاتية الخاصة بديلا للفردية المسؤولة تجاه ذاتها وتجاه بلدها في آن معا؟. ولماذا في المقابل يضحي الشباب من أجل الوطن بدون أن يلقوا الرعاية والإسناد لجعل كفاحهم أكثر فعالية؟. ولماذا تغيب المشاركة من أجل التنمية بدءا من المجتمعات المحلية ومن أسفل إلى أعلى؟.

ما هو حال التعددية وما يرتبط بها من قبول الاخر وسيادة لغة الحوار، وليس لغة التخوين والتكفير وإصدار الأحكام بناءا على معلومات سمعية وبدون تدقيق وتمحيص؟.

 وأين عقد الانتخابات فيما مر  اثنا عشر عاما على آخر انتخابات للسلطة؟. أما م.ت .ف فهي تكاد لا تعرف الانتخابات مطلقا؟. وأين الانتخابات في مؤسسات المجتمع المدني؟ وهكذا.

 لقد أدى غياب الانتخابات إلى نشوء سلطة سياسية( وكذلك في المؤسسات) لا تحترم المواطنين والمواطنات أو أعضاء المؤسسات وطواقمها كمرجعية لها، ولا تحتاج لآرائهم ونصائحهم، تحكم  بشكل فردي، وتُهمَّش القرار الجماعي ، ولا تعير إهتماما للإستماع إلى رأي الناس لأنها لم تعد بحاجة إلى أصواتهم حتى تبقى في مناصبها.

هذه كلها مظاهر ليس للإحتلال يد فيها، وهي من صنعنا نحن، كما أن وجودها واستمرارها يضعف كفاحنا ضد الاحتلال، كما سنبين بالأدلة والشواهد في مقالة لاحقة.

لقد وصل تجويف الحيّز العام وتفريغه إلى درجة لا تحتمل، أصبحت معها مناقشة القضايا العامة وطرح قضايا جديدة للتداول العام حكرا على النخب ، كما نشأت تابوهات تمنع المناقشة الشعبية لقضايا كالعلمانية والدين على سبيل المثال وغيرها. ونشأت فوق ذلك قيود على حرية التعبير تحدد ما يسمح وما يمنع قوله،  وأعطي لأمن السلطة الصلاحية ليعتقل الصحفيين والنشطاء كما حصل في مرات عديدة.وعين أفراد ومجموعات أنفسهم كذوي سلطان للحكم على ما يقال ويكتب، مسفهين هذا، ورافعين من شأن ذاك وفق مقاييس منغلقة. هل نحن في طريقنا لخلق وتعزيز ثقافة الخوف وممارساتها لكم الأفواه؟. لماذا أصبحنا أيضا متشرذمين في دوائر مغلقة كل منها تجتمع وتتحاور لوحدها، لا تعرف شيئا عن الدوائر الاخرى، ولا تسعى للمعرفة عنها، بل تحكم عليها بدلا من ذلك بناءا على مواقف مسبقة، أو بناءا على ما يقال في جلسات الغيبة والنميمة، أو في وسائل الاعلام؟. لماذا أصبحنا نفتقر إلى المكاشفة والحوار المباشر بديلا لإطلاق الأحكام بصورة متعسفة وبدون برهان؟. لماذا أصبحنا نعرف ما سيصدر عن كل دائرة من هذه الدوائر قبل أن يصدر، حيث وصلنا إلى مرحلة من التكرار بدون ابداع سيما في مجال " الاستراتيجيات" التي تنتج ثم يعاد إنتاجها بدون تدقيق وتمحيص.

هذا وقد ارتبط تجويف الحيّز العام بتغييب المؤسسة، والحكم من وراء ظهرها، أو حكم الشخص الواحد فيها، وأصبح معروفا أن قرارات المؤسسات تصدر للاستهلاك العام وليس للتنفيذ، ولدينا عبرة في قرارات آخر دورتين للمجلس المركزي والتي بقيت حبرا على ورق. كما لدينا عبرة من المؤسسات التي أصبحت مؤسسات الرجل الواحد ، أو  "one man Shaw" لكل منها كما يقال باللغة الانجليزية، وذلك بديلا عن القرار والفعل الجماعيين.

لقد أصبحت الحاجة إلى تغيير كل ذلك ملحة جدا، وحيوية لاستمرار وجودنا وبقائنا وصمودنا تماما كحاجتنا للماء والهواء، فأول البديهيات في الحياة أن الشعب الذي يتعرض الى تحد وجودي يجب ان يتكاتف، وأن يجد الصيغة للوصول الى ذلك، ونحن يجب أن نعترف أننا لسنا كذلك.

كخطوات على الطريق، علينا  أن نعيد الاعتبار لتوزيع السلطات افقيا في المجتمع الفلسطيني عبر تفعيل المجلس التشريعي، وتعزيز إستقلالية القضاء، ووقف تغول السلطة التنفيذية من خلال الإجراءات والمراسيم، وإنهاء الانقسام عبر التوحد في الفعل معا في الميدان، وليس من خلال الاستمرار في جلسات الحوار غير المجدية.

ويجب أن نوزع السلطة أيضا عموديا في المجتمع الفلسطيني، بحيث تعاد العافية للمجتمع المدني، ولهيئات الحكم المحلي، وتعاد الحرية للمواطن/ة، وتتنشط المشاركة بين النخب والنَّاس. وكذلك بين الناس في عملية التنمية على مستوى المجتمعات المحلية بِمَا يعزز الاعتماد على الذات بديلا لاستمرار التسول من الدول المانحة. 

يترافق ذلك مع الإعلاء المجدد لثقافة الحوار،وطرح قضايا جادة للسجال العام. وأن نعيد تجديد الدماء في كافة المؤسسات وعلى كل المستويات من خلال الانتخابات الدورية، وأن نجد صيغا لإحترام وتعزيز التعددية والمشاركة، وإعادة تفعيل الحياة السياسية والجدل الحي بين البرامج السياسية المتنافسة، وإطلاق طاقات الأفراد والجماعات في التفكير النقدي الحر وفِي الإبداع، وتعزيز ذلك في المدارس وبين الشابات والشباب، وكل مؤسسات المجتمع. وكذلك إطلاق مبادرات للمصالحة ولأنهاء الفجوات بين غزة والضفة والقدس من أسفل ،وتعزيز عافية المجتمع وتحقيق ازدهاره.

بهذا نبني مجتمع المواطنة، وليس مجتمع التعسف والتحكم باسم المواطنة. وبهذا يتحول المسؤولون أيضا من صيغة العمل القائمة على " مسؤولين عنا يعملون لأجلنا" إلى" مسؤولين يعملون معنا ومن أجلهم وأجلنا". وشتان ما بين الصيغتين.