• 8 حزيران 2018
  • أقلام مقدسية

 

 

بقلم : طه كلينتش

 

 

يشهد عدد زوار القدس من الأتراك زيادة كبيرة، وإن كانت الأرقام لا تزال قليلة للغاية؛ إذ صارت المدينة العريقة تستضيف أشخاصًا من جميع فئات المجتمع من أحزاب سياسية وجامعات وجمعيات وأوقاف وجماعات دينية، وأصبح من السهل أن ترى بضع مئات من الأتراك يصطفون في صفوف المصلين بالمسجد الأقصى، فيما يصل هذا العدد إلى آلاف في عطلة نهاية الأسبوع. وإذا ما فكرنا بالتهديدات التي تواجهها القدس والمسجد الأقصى، فلا شك أنّ عدم التخلي عن تلك البقعة المقدسة تعتبر أكبر مهمة تقع على عاتقنا. ومن الجميل كذلك أن نرى أنّ هذه المهمة يؤديها بعض المسلمين.

وكما هو الحال بالنسبة لكلّ أمر مهم، فلزيارات القدس بعض الضرورات التي لا ينبغي إهمالها. وانطلاقات من ملاحظاتي الشخصية، يمكنني أن أسرد هذه الضرورات كالتالي:

لا تزار القدس بأحكام مسبقة إيجابية أو سلبية: تعتبر مدينة استثنائية بكل جوانبها، ومن يذهبون إلى هناك عليهم التخلص من كل الأحكام المسبقة التي توجد في عقولهم حول الشرق الأوسط أو الدول العربية. عليكم الاستسلام للمدينة وامتصاص ما تقدمه لكم كما تفعل الإسفنجة. ففي القدس حتى المظاهر السلبية للاحتلال ستقدم لكم رسالة. وعليكم أيضًا تقليل ساعات النوم قدر المستطاع والتواجد في الشوارع والطرقات لأطول فترة ممكنة. يجب أن تستغلوا أذهانكم كآلة تصوير لحفظ كل لقطة، لتحللوا هذه اللقطات كلا على حدة من خلال قراءات مفصلة.

لا تزار القدس بالنقد: أستمع كثيرًا من المجموعات التي تزور القدس عبارات شكوى من قبيل "ثمة رائحة غريبة في الشوارع"، "كيف يأكلون تلك الفلافل؟"، "رأيت قمامة على الأرض". فلو اعتدتم الانتقاد المستمر للحياة والعادات والتقاليد وبعض الأخطاء والاختلالات خلال زيارة القدس (وجميع المدن الإسلامية الأخرى)؛ فهذا يعني أنكم أصبحتم ضحية لسوء حظ كبير. بل يجب أن نولي اهتمامًا وتأييدًا خاصًّا للقدس في هذا الصدد مع الأخذ بعين الاعتبار حقيقة الاحتلال.

لا تزار القدس لجمع مادة خصبة لحساباتنا على مواقع التواصل الاجتماعي: بطبيعة الحال سنلتقط الكثير من الصور والمقاطع المصورة خلال زيارتنا لهذه المدينة الرائعة، فهذا أمر طبيعي للغاية. لكن علينا تجنب معاملة أشقائنا الفلسطينيين على أنهم "فئران تجارب سيجلبون لنا الإعجابات على حساباتنا في مواقع التواصل الاجتماعي". ولا شك أننا عندما ننظر إلى إحدى الصور من الخارج نفهم سريعًا ما إذا كانت ذكرى مخلصة أم مادة يراد مشاركتها دون هدف. علينا بينما نلتقط الكثير من الصور التفكير كذلك في القلوب المرهفة لإخواننا الذين سيتابعون حياتهم هناك تحت الاحتلال في الوقت الذي نعود فيه نحن إلى وطننا.

لا تزار القدس دون مشاطرة أهلها مشاعرهم: للأسف كثير يزورون القدس ويقضون بها 4 – 5 أيام دون تجاذب أطراف الحديث مع الفلسطينيين وشرب الشاي معهم ومشاركتهم رويتنهم اليومي والنزول إلى بيوتهم كضيوف. وأعتقد أن قضاء أيام زيارة القدس بين الفندق والمسجد الأقصى والسوق لهو نوع آخر من أنواع قلة الحظ. نحن عادة شعب يخجل من الحديث مع الأجانب، لكن من الجيد أن نتخلص من هذه العادة، ولو مؤقتًا، في القدس، ذلك أنّ أهل تلك المدينة المقدسة من رجال ونساء وأطفال ينتظرون منذ وقت طويل الحديث معنا أحاديثًا مخلصة.

لا تزار القدس فقط للبحث عن التاريخ العثماني: إنّ البحث عن تاريخ أجدادنا في كل مكان تطأوه أقدامنا خارج تركيا هو من رياضاتنا الوطنية. فالآثار التي خلفها العثمانيون تشعرنا بالحماس وتزيد حمدنا، وهذا أمر رائع. لكن التاريخ الإسلامي ليس فقط عبارة عن الإمبراطورية العثمانية التي هي جزء من مسيرة حضارتنا الطويلة الممتدة منذ 1400 عام، ولا يمكن فهم تاريخ الدولة العثمانية سوى بالتعرف كذلك إلى الأجزاء الأخرى من هذا الكل. فلو بحثتم فقط عن الآثار العثمانية خلال زيارتكم للقدس، ستجدون القليل من الآثار لرؤيتها في المدينة، كما أنكم ستغفلون عن المساهمات التي لا تنسى التي قدمتها الإمبراطوريات الإسلامية الأخرى.

وفيما يلي وصية صغيرة لمدخل فهم عمق القدس كجزء من الحضارة الإسلامية:

اجلسوا في صحن المسجد الأقصى في مكان بين باب السلسلة وباب القطانين، ولّوا وجهوكم شطر قبة الصخرة التي تعتبر ذكرى للأمويين. وأمّا السبيل المزيّن الذي أمامكم فهو تحفة معمارية تحمل اسم السلطان المملوكي الأشرف قايتباي الذي أمر ببنائه. وأمّا المصلى الواقع على يمين سبيل قايتباي فهو أثر عثماني. فيما سترون جنوب المصلى سبيل قاسم باشا الذي يعتبر أول أثر عثماني في القدس. وأما خلف السبيل عند بداية السلالم هناك الأحزمة الصخرية التي تحمل ختم الفاطميين. فيما أنّ الأروقة التي تجلسون عليهم مديرين أظهركم إلى الوراء فتحمل توقيع الأيوبيين في القدس.

وعندما تلتقطون صورة من هذه النقطة بالتحديد، ستلاحظون أنّ جميع الإمبراطوريات الكبرى في التاريخ الإسلامي وجدت لنفسها مكانًا في هذه المساحة الضيقة. إنّ هذه هي القدس الحقيقية، الذاكرة والإرث والجهد المشترك لجميع المسلمين.

وللغوص في أعماق هذه الخبرة التي تشكلت على مر التاريخ حَجرًا حجرًا، ينبغي لكم التركيز على القدس بعناية وعمق أكثر من أيّ مدينة أخرى. ولهذا، فلا شك أنّ زيارة واحدة إلى القدس لن تكون كافية لفعل هذا، كما أنّ القراءات السطحية لن تكفي لفتح آفاقنا...

  • عن صحيفة يني شفق