• 12 حزيران 2018
  • أقلام مقدسية

 

 

بقلم : محمد خضر قرش 

 

ما يفزع ويقلق جماهير واسعة وقوى وطنية عربية عريضة تمتد من الخليج إلى المحيط، اندهاشهم من استمرار صمت وسكوت مصر الكبيرة القائدة، عما يجري في ساحة أمنها القومي، فهذا الامر لا يمكن تبريره أو فهمه أو تفسيره. فمصر التي نعشق ونحب ونتمنى لها كل الخير والازدهار والتقدم، لم تكن يوما لا مبالية للاختراقات الكبيرة والملموسة لخطوطها الحمراء المتعلقة بأمنها الحيوي منذ أيام محمد علي. فالأمن القومي المصري استبيح في أكثر من مكان، لدرجة أن بعض الحكام تحالفوا مع الأعداء على قلعة النضال القومي العربي وأخذوا يقيمون القواعد العسكرية الأميركية والأطلسية في بلدانهم غير مكترثين فيما إذا كان ذلك يُضر بالأمن القومي العربي أم لا. فالحكام الجدد لم يعد يعنيهم فيما إذا كانت مصر العروبة ومعها بقية شقيقاتها ستتضرر من تحالفهم مع أعداء القومية العربية أم لا، سواء من خلال اقامة القواعد العسكرية المدفوعة الاجر لقوات حلف شمال الأطلسي أو بقيامهم بالتطبيع المجاني مع العدو الإسرائيلي في كافة المجالات وخاصة بالتنسيق الاستخباراتي وتبادل المعلومات بما في ذلك إقامة قواعد للتجسس بحجة محاربة إيران. فالأمن القومي المصري بات مكشوفا ومفتوحا أمام الأعداء. فأمن قناة السويس مرتبط بأمن باب المندب، فلا قيمة استراتيجية للأولى بدون الحفاظ على الممر الثاني خاليا من أعداء مصر والعرب. فحينما أرسل الزعيم جمال عبد الناصر جيش مصر إلى اليمن كان بغرض الحفاظ على الأمن القومي المصري في منطقة باب المندب بالدرجة الأولى. وحين شنت مصر حرب أكتوبر / تشرين الأول 1973 أرسل جيش مصر سفنه الحربية لإغلاق باب المندب امام سفن أعدائه وتجارتهم. وحين اقام عبد الناصر الوحدة مع سوريا فإنما كان يريد تحصين وحماية ميمنته الشرقية ونفس الشيء بالنسبة للعراق. وحينما أفشل الحلف المركزي والذي كان يتشكل من تركيا وباكستان وإيران بالإضافة الى الولايات المتحدة الأميركية فإنما كان يفعل ذلك من باب الدفاع عن الأمن القومي العربي والمصري. وعندما أعلن موقفا داعما للثورة الليبية فقد كان يدافع على جناحه الأيسر (الغربي) للتخلص من النظام الملكي الذي اقام قواعد عسكرية أميركية وبريطانية على بعد عدة كيلو مترات من الحدود الإقليمية الغربية لمصر، وحين وقف وأيد المطران مكاريوس ضد تركيا العضو في حلف شمال الأطلسي وخصومه السياسيين فإنما كان يريد ان يحصن أمن شمال مصر باتجاه البحر، ونفس الشيء حين أقام علاقات استراتيجية مع يوغوسلافيا ورئيسها جوزيف بروس تيتو فكان يهدف لتأمين إضافي لمجال مصر البحري بغرض تعزيز الأمن القومي لأرض الكنانة الغالية والعزيزة علينا جميعا. وحينما اقام السد العالي وبنى علاقات محددة مع الحبشة (أثيوبيا) فإنما كان يعكس إصراره وتصميمه على الحفاظ على الحقوق المائية لمصر حيث يشكل نهر النيل حياة شعب مصر العظيم ومستقبله وازدهاره. وحين ساعدت مصر شعب فلسطين على امتداد ال 70 عاما الماضية، فقد انطلقت من أن تعزيز منظمة التحرير والمقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي انما هو في الحقيقة لتدعيم خط الدفاع الأول عن الأمن القومي المصري. مصر تعلم تمام العلم بان بعض الحكام المشكوك في وطنيتهم وانتمائهم للعروبة والإسلام، مولوا ودعموا المنظمات الإرهابية في سيناء بعلم وموافقة إسرائيل، لغرض نشر الفوضى والإرهاب في ربوع مصر العروبة لإبقائها ضعيفة ومنهكة اقتصاديا واجتماعيا مما سيعكس نفسه على قوتها العسكرية لجعلها غير قادرة على حماية امنها ومجالها القومي. فهم يريدونها عاجزة عن مواجهة أعداء الامة العربية. مصر تدرك بان ما يتم باليمن وفلسطين وسوريا والعراق وليبيا والصومال هو ضد امنها القومي وهو مقدمة لا بد منها للوثوب لقلعة النضال القومي العربي. لقد وقف الشعب العربي وخاصة في بلاد الشام والهلال الخصيب بمفهومه الاستراتيجي الواسع مع المؤسسة العسكرية المصرية ضد الفكر والأيدلوجية الإرهابية، فباتت على مقربة من تحقيق الانتصار النهائي على هذه المجموعات الضالة والممولة من الحكام اياهم ودعم إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية. ما كان كل ما يجري في الوطن العربي ليتم ويتحقق لو لم تصمت مصر، وما كان الاحتلال والغزو الأميركي للعراق وسوريا والصومال وليبيا ليتم، لولا انطواء مصر داخل حدودها الجغرافية الضيقة، وما كان ترامب ليجرؤ على الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل دون موافقة دولة كبيرة في شبه الجزيرة العربية وصمت أرض الكنانة كما قال الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل رحمه الله والذي أدرك مبكرا جدا أهمية الأمن القومي العربي بالنسبة إلى مصر. الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل ومعهما من يدعون العروبة والإسلام لا يرغبون برؤية مصر قوية ومقتدرة وعزيزة الجانب. أعداء القومية العربية ومصر يريدونها البقاء داخل مياهها الإقليمية الضحلة حيث الرزق والثروات محدودة. أعداء مصر يقضمون ويسيطرون بالتدريج على مصالح مصر الحيوية في بحارها ونيلها وممراتها ومناطق امنها القومي كسوريا وفلسطين وليبيا والسودان واليمن. وما كانت تركيا الأطلسية أيضا لتجرؤ على غزو العراق وسوريا وقطع مياه دجلة والفرات عنهما لولا صمت مصر وانكفائها داخل حدودها الجغرافية الضيقة. الفلسطينيون والسوريون والعراقيون والليبيون واللبنانيون واليمنيون والسودانيون والاردنيون وبقية العرب الأقحاح الذين ينحدرون من نسل عدنان وقحطان، يقفون الى جانب مصر الكبيرة العزيزة الغالية. فغيابها وصمتها وانكفائها داخل حدودها وعدم الاهتمام لما يجري في ساحات أمنها القومي دفع بكل أعداء مصر والعرب للسيطرة على مساحات واسعة من الوطن العربي وباتوا يهددون عمليا ضخ مياه النيل عن مصر كما فعلت تركيا الأطلسية مع العراق وسوريا. ومن المفيد في هذا السياق أن نقدم أمثلة ملموسة، نفذتها مصر لحفظ مجال أمنها القومي، حينما كانت تدرك بان امنها القومي لا يتحقق إذا بقيت ضمن حدودها الإقليمية الضيقة ولم تبحر في أعالي البحار. 

   تمكنت البحرية المصرية الشجاعة من إغراق "الحفار" الذي جلبته إسرائيل من هولندا للتنقيب عن النفط في سيناء المحتلة. وقد تم اغراقه في المياه الإقليمية السنغالية. 

   قامت البحرية المصرية الفذة في البحر الأبيض المتوسط بإغراق الغواصة الإسرائيلية "دكار" وعلى متنها 69 بحارا عسكريا إسرائيليا خارج مياهها الإقليمية. 

    قام رجال الضفادع البحرية المصرية الابطال بالغوص تحت البحر وتدمير أكثر من سفينة في ميناء ايلات المجاور لميناء العقبة الأردني وعودتهم جميعا سالمين.

 قامت البحرية المصرية بإغراق المدمرة "ايلات" في أعالي بحر بورسعيد ومقتل وجرح كل من كان على متنها.

لم تكن اثيوبيا ولا غيرها تجرؤ على بناء سدود على نهر النيل بدون موافقة مصر مقدما والتأكد من عدم وجود اية مخاطر على حقوقها المائية في نيلها العظيم ونفس الشيء بالنسبة إلى تركيا الأطلسية فيما يتعلق بنهري دجلة والفرات.

العرب الاقحاح يقفون دائما مع مصر الغالية ويتمنون عودتها ليس لقيادة العالم العربي فحسب وانما لمشاركتهم الحفاظ على الامن القومي العربي والدفاع عنه وإنهاء التشرذم. مصر حينما فعلت كل ما تقدم وغيره كثير كان لها مكانة متميزة وعزيزة الجانب وحظيت باحترام وتقدير كل الشعوب المتطلعة للحرية والاستقلال. وحينما ستبدأ مصر بالحركة والفعل الميداني، فإن الكثير من المؤامرات التي تحاك ضد العرب ومصر سوف تتوقف وتتراجع. أفليس من حقنا بعد كل ما تقدم أن نفزع ونقلق من استمرار صمت مصر عن كل ما يجري في ساحات امنها القومي ؟؟ من الأخطاء الاستراتيجية القاتلة أن يبقى الحوت المصري العملاق محصورا في مياهه الإقليمية الضيقة والضحلة.