• 29 حزيران 2018
  • أقلام مقدسية

 

 

بقلم : عماد شقور

 

 

نشرت جريدة «الغارديان» البريطانية في عددها يوم الثلاثاء الماضي، خبرا من مراسلتها في كندا، أشيفا كسّام، تحت عنوان: «عصفور صغير واحد، يهدِّد أحد أكبر مهرجانات كندا الموسيقية». فحوى الخبر وملخصه، هو أن الإعداد لمهرجان موسيقي كندي، يقام سنويا في العاصمة الكندية أُوتاوا، يحضره نحو 300 ألف شخص، على مدى أحد عشر يوما، يتعرض منذ ايام لإرباكات.

موعد انطلاق المهرجان محدّد هذا العام ليوم الخميس المقبل، الخامس من يوليو. ولاحظ العمال قبل أيام، عندما بدأوا الإعداد لنصب واحدة من المنصات الخمس المقررة، أن عصفورة من فصيلة «الزقزقيات»، (في فلسطين نحو عشرين نوعا من عصافير هذه الفصيلة)، وزنها أقل من مئة غرام، بدأت تحوّم وتتصرف بطريقة عصبية غاضبة. ولما بحث العمال لمعرفة سبب هذا التصرف، اكتشفوا أن تلك العصفورة بنت عشّها الذي وضعت فيه أربع بيضات، على صخرة يفترض أن تقام منصة للمهرجان مكانها. ولما كانت هذه العصفورة محمية، حسب القانون الكندي، فقد اضطر العمال إلى وقف عمل الجرافات والمعدات الثقيلة، وقاموا بإبلاغ السلطات المسؤولة بالأمر، وما كان من هذه السلطات إلا أن أمرت بوقف العمل في محيط الصخرة والعشّ فورا، كما تم التعاقد مع شركة حراسة محلية، لضمان حماية العصفورة وعشّها على مدار الساعة، وتم مد شريط من قماش أصفر على شكل دائرة كبيرة حول الصخرة، يحظر تخطيه.

يقول مارك مونهان أحد منظمي المهرجان الموسيقي، إن هذا الحدث يشكل تحديا كبيرا لإمكانية عقد المهرجان في موعده، وإن أي تغيير في موعد أو برنامج انطلاق هذا المهرجان يمكن له أن يكون كرة ثلج متدحرجة. وعندما وصل مندوبو حماية البيئة إلى موقع الصخرة والعش، أفادوا بأنه يجب تأمين ظروف تمكين العصفورة من أن ترقد على بيضاتها حتى تفقّس، وأفادوا بأن الخبر السيئ هو عدم معرفتهم بموعد التفقيس، في حين أن الخبر الجيد هو أن زغاليل هذا النوع من العصافير تهجر عشها خلال فترة زمنية قصيرة جدا.

قرأت الخبر بمتعة.. فرحت للعصفورة وبيضاتها وزغاليلها. فرحت لكندا ومجتمعها وشعبها. لكنني تحسّرت على حالنا وما نحن فيه. كم طفلا في قطاع غزة الفلسطيني يتمنى لو أن مثل ما يلقاه زغلول الزقزقيات الكندي من حماية ومن عناية، يكون من نصيبه أيضا. وكم أُماً في غزة تتمنى معاملة وحماية لها ولـ»عشّها» كالتي تلقاها عصفورة في كندا؟ نعود من كندا وحكاياها وعصافيرها المحمية، إلى فلسطين وحكاياها وعصافيرها/أطفالها المتروكة لمصيرها، فماذا نقرأ ونرى؟

نقرأ تصريحا علنيا لوزير «التربية» والتعليم الإسرائيلي، نفتالي بينيت، زعيم حزب «البيت اليهودي» الموغل في العنصرية والفاشية، يتحدث فيه عن الطريقة التي يتوجب على إسرائيل التعامل بها مع أطفال غزة، أطفال الطائرات الورقية الحارقة. يقول بينيت: «يجب التعامل مع البالون أو الطائرة الورقية مثل التعامل مع إطلاق «صاروخ قسّام». يجب التوقف عن إطلاق النار قريبا من… والانتقال إلى مرحلة إطلاق النار على الهدف مباشرة». أصبح الطفل في غزة بلغة الوزير العنصري «الهدف»، وللوزير وقناصة جيشه «أهداف» تُعدّ بمئات الآلاف.

لا يضيرنا في هذا السياق، سياق التحدث عن حرق الزرع والمحاصيل، أن نذكر، ليس من كتب التاريخ الموثَّقة، بل من أساطير توراة نتنياهو وبينيت وليبرمان والعنصريين اليهود، أن أول من ارتكب عمليات حرق المزارع في أرض فلسطين، وفي منطقة غزة بالذات، وسواء كان ذلك حقيقة، أو أنه تمنيات وأحلام يقظة في عقل موبوء بالشر والحقد، هو، حسب توراة اليهود، شمشون اليهودي، الذي عشق دليلة الفلسطينية. تتحدث أسطورة شمشون التوراتية عن أنه غضب من أهل دليلة، فقرر الانتقام منهم، واصطاد ثلاثمئة ثعلبا، ربط ذيلي كل ثعلبين ببعضهما بعضا، لكي يضطرا الى التحرك ببطء، وثبّت شعلة عند عُقدة ربط الذيلين، ودفع المئة وخمسين زوج ثعالب الحارقة إلى حقول أعدائه الفلسطينيين، فكان له ما أراد، حيث احترقت مزروعاتهم بالكامل.

في مسلسل هذه الأسطورة التوراتية، أسطورة القوة الخارقة والعشق والخداع والانتقام والنهاية المأساوية، تحتال دليلة الفلسطينية على شمشون اليهودي. تعرف سره، فتقص شعره، مصدر قوته، ويتمكن منه الفلسطينيون، فيأسرونه ويسملوا عينيه، ويقودونه، (بعد أشهر طال خلالها شعره)، إلى هيكلهم الكبير ليسخروا منه. ولكنهم وقعوا هم هذه المرة في المصيدة التي نصبها لهم، وذلك عندما لبّوا طلبه/خديعته بوضعه بين عامودي الهيكل، وما كان منه إلا أن انتهز الفرصة، وأسقط العامودين بقوة ذراعيه الخارقة، فانهدم الهيكل على من فيه، وقتلهم جميعا، ويقول شمشون جملته الشهيرة: عليَّ وعلى اعدائك يا رب. ولكن الترجمة الدقيقة لنصها كما وردت في توراة اليهود، هو» لِتَمُتْ نفسي مع الفلسطينيين».

ماذا نقول لحكام إسرائيل العنصريين؟

نقول لهم: دعكم من هذه الأساطير وما فيها من شر وحرق وجوع وقتل ودمار ودماء، وتعالوا نبحث عن معادلة إيجابية إنسانية حضارية، تنتهي بنا جميعا إلى القول: لِنَعِش كلنا بدون سيطرة واحتلال واستعمار من طرف على طرف، في دولة واحدة بدون تمييز عنصري، أو في دولتين يحكم العلاقة بينهما حسن الجوار.

هل هذا حلم؟ 

يمكن أن يكون الأمر كذلك، لكن من قال إن الحلم الإيجابي الإنساني عيب يستدعي الاعتذار؟

بعد سنين قليلة سينسى الناس قصة «صفقة القرن» التي ولدت ميتة لعلاقة محرّمة. ونتذكر ونذكِّر الرئيس الامريكي دونالد ترامب، بالحكمة التي كنت أقرأها بمتعة، في كل مرة تصادف أن رافقت الزعيم الفلسطيني الخالد، ياسر عرفات، في زيارة للقصر الاميري في الكويت، منقوشة بالحجر على قنطرة المدخل: «لو دامت لغيرك ما وصلت اليك».