• 5 آب 2018
  • أقلام مقدسية

 

                                                                                    

بقلم : د لبيب قمحاوي

 

           ما يجري في الأردن الآن شئ لا يمكن القبول به ولا يجب السكوت عليه . فالأمر لم يعد محصوراً بالجريمة والعقاب ، هذا فيما لو تَمَكَّنَ القانون من فرض إرادته ، بل يجب تجاوز ذلك إلى ضرورة البحث عن الأسباب والمسببات الحقيقية ، وما الذي نَقَلَ الأردن من كونه وطناً كريماً سَمِحاً يعتز بكرامة وأمانة أبناءه وسيادة مفاهيم التكافل الاجتماعي وعزة النفس ، إلى وكراً للجريمة واللصوص ومَرتَعاً للفاسدين ؟

              ما الذي جرى ويجري في هذا البلد الوادع الأمين وكيف وصلت الأمور إلى حد توجيه نيابة أمن الدولة مؤخراً ، وأخيراً ، الإتهام إلى العشرات بل إلى ما يقارب المائتين من الأردنيين معظمهم من أبناء عائلات كريمة ، في قضيةٍ أقرب ما تكون إلى نهج العصابات الدولية ، والتي تم الكشف عنها مؤخراً أي في العام 2018 ، في حين أن القضية تعود في أصولها إلى العام 2007 وبعلم الدولة حيث تم في عام 2008 ضبط موقع التصنيع والماكينات والمواد المتعلقة بإنتاج وتهريب السجائر المزورة ليتم الافراج عنها لاحقاً وإغلاق الملف بقدرة قادر . إن هذا يعني أن الدولة قد تأخرت ، وعلى ما يبدو عَمَداً ، أكثر من عشرة أعوام لإتخاذ اجراآت قانونية في قضية معروفة وتم التحقيق بها منذ أكثر من عقد من الزمن ولم تُتَخذ بحقها أية اجراآت رادعة أو عقابية ، علماً أن الاجراآت الأخيرة لم تمس الحيتان الكبيرة حتى الآن وإنما من هم دون ذلك . وإلى أن تظهر لوائح الاتهام والحجز على الحيتان الكبار فمن المنطقي الإفتراض أن هنالك توجهاً خفياً لحماية أؤلئك الحيتان أو لفلفة الموضوع مرة أخرى ، وبأقل خسائر ممكنة على المجرمين .

          من هو المسؤول عن إفقار الأردنيين وهدر كرامتهم وكسر عنفوانهم وإرغامهم على الولوج في طريق الجريمة في ظل غياب أو شُحّْ الخيارات الطبيعية الأخرى ؟ سؤال كبير جداً يوحي بأن الإجابة قد تكون أكبر في ظل المعطيات والنتائج الملموسة لهذا الوضع على المجتمع الأردني ، سواء أكان ذلك بالإرتفاع الملحوظ في نسبة حالات الانتحار أو محاولة الإنتحار ، وتفشي تعاطي المخدرات خصوصاً بين أوساط الشباب ، وإزدياد جرائم القتل والسرقة والسطو المسلح ، وأعمال النصب والإحتيال التي تقترب في حجمها وأساليبها من عصابات الإجرام الدولي ، ناهيك عن المسار الملحوظ في سرقة الدولة بأساليب مختلفة ومبتكرة جَعَلَتْ من بعض مرتكبيها وجوه مجتمع وقادة سياسيين ومسؤولين في مواقع الدولة المختلفة .

        إتخذت الدولة الأردنية في العقود الأخيرة مساراً عُرفِياً ملحوظاً سمح لبعض الوصوليين حتى بتهديد الشعب الأردني في الصحافة وبلُغَةٍ وقِحَةٍ بالويل والثبور وعظائم الأمور فيما لو مارس حقه الدستوري في التساؤل دون أي إعتبار لكرامة هذا الشعب وحقه الدستوري في التعبير والتساؤل السلمي . وفي الوقت نفسه ، فإن تفاقم هذه الدولة العرفية وما يمثلها من عقول عُرفية وصولية مُتـَزمتة قد حَمَّلَتْ الدولة والحكم بصفتها تلك مسؤولية إضافية وعبئاً كبيراً وأساسياً سواء في مسؤولية محاربة الفساد الكبير والقضاء عليه أو بخلاف ذلك حمايته والتغطية عليه . فالمسار العُرفي يَفْترض أن كافة مقاليد الأمور هي بيد الدولة العرفية ، وأن كافة السلطات تقع بالتالي بيد الحُكْمْ ، وبذلك يكون الحُكْمْ هو المسؤول بالدرجة الأولى والأخيرة عن مسار الأمور في الدولة بما في ذلك محاربة الفساد الكبير ، أو في المقابل حمايته والتغطية عليه كخيار آخر بديل .

      لا يوجد دولة فاسدة بل يوجد مسؤولين فاسدين ومؤسسات فاسدة ترعى مصالح أؤلئك المسؤولين الفاسدين . وفي الأردن حيث ينمو مجتمع الفاسدين واللصوص والنصابين بإطراد ويزداد في تعداده وفي قوته ونفوذه وجرأته على الفساد بحكم الحماية التي تتوفر له ، يصبح أمر التصدي لذلك الفساد وكأنه تعدي على حُرْمَة الدولة والعديد من مسؤوليها ومؤسساتها . ولكن ما هو البديل ؟ هل يكون البديل من خلال الصمت والإذعان الذي سوف يؤدي إلى إنهيار المجتمع وتآكل قِيَمِهِ إلى الحد الذي قد يؤدي إلى إنفجاره ؟ أم في العمل الجاد والحثيث لوضع حَد لذلك الفساد الكبير ؟

         القاسم المشترك بين جميع المسؤولين في الأردن هو الإقرار الصامت بوجود الفساد ، والفرق بينهم هو في كيفية التعامل مع ذلك الفساد . المسؤولين في الأردن  أنـواع - إما رافضاً للفساد ، أو خائفاً من الفساد وصامتاً عليه ، أو فاسداً بهمةٍ ونشاط ، أو متغاضياً عن الفساد خوفاً ممن هم أعلى منه مرتبة أو رغبة في إرضائهم . وبحكم عملية الاختيار والترقية التي يتبعها النظام ، فإن حظوظ الفاسدين النشيطين في ممارستهم للفساد ، أو القابلين بالفساد ولو على مضض رغبة في إرضاء المسؤول ، هم الأكثر حظاً في الرعاية والإرتقاء . وهكذا يصبح عامل الزمن في ظل إستمرار هذه الأوضاع في صالح الفساد والفاسدين ، وتصبح عملية الإرتقاء والتَّرَقي محكومة بقبول ذلك الفساد أو التغاضي عنه . وفي هذا السياق ، لاحظ الأردنيون استعداداً متزايداً لدى حكوماتهم للإنقضاض على جيب المواطن من خلال الإدعاء بالفقر والمديونية عوضاً عن تحصيل الأموال المنهوبة من قِبَلْ الفاسدين الكبار . وسلوك حكومة هاني الملقي الأخيرة في الإعتداء على جيب المواطن الأردني من خلال مشاريع قوانين ضريبية وقوانين جبائية جائرة بحجة عجز الموازنه هو أكبر مثال على ذلك . ففي كتابة رقم  5/1/مكتوم/119 تاريخ 2017/05/09  والمتعلق بضبوطات تفتيش مستودعات ومصانع التبغ التي تمت في المنطقة الحرهّ – الزرقاء يوم الخميس الموافق 2017/03/09 أبلغ وزير المالية في حينه عمر ملحس رئيس وزرائه هاني الملقي بما يلي :-

 " بلغ مجموع الرسوم والضرائب والغرامات المترتبة على الشركات المخالفة .......... مائة وخمسة وخمسين مليوناً ومائتين وثمانية وخمسين ألفاً وثماني مائة وثلاثة وسبعون ديناراً وكما هو موضح بالجداول المرفق" .

       ماذا فَعَل الملقي ؟ عوضاً عن تطبيق القانون وتحصيل ذلك المبلغ مثلاً إختار بدلاً عن ذلك أن يدفع بمشروع قانون الضريبة وزيادة الأسعار بحجة عجز الموازنة ونضوب موارد الدولة الأمر الذي فَجّرَحركة الاحتجاج الأردنية وأطاح بحكومته وبمشروع قانون الضريبة .

         إن اللجوء إلى اتهام المواطن الأردني بالتهرب الضريبي وعدم دفع إستحقاته للدولة ، عوضاً عن تحصيل مئات الملايين من الأموال العامة المنهوبة من الفساد الكبير هي مثال على التحالف القائم بين السلطة والفساد الكبير ، وخضوع معظم المسؤولين لإرادة وسطوة الفاسدين الكبار .

           الفساد الكبير هو معضلة الأردن والأردنيين . ولا يوجد أي حل اقتصادي أو مالي لمشاكل الأردن الاقتصادية سوى وقف ذلك الفساد والقضاء عليه بشكل نهائي وتطبيق القانون على الجميع بشكل متساوي . ومن الصعب مثلاً تفسير قدرة شخص ما محكوم عليه في المحاكم الأردنية أحكاماً قطعية بمئات الملايين من الدنانير على السفر والدخول إلى الأردن والخروج منه معززاً مكرماً وسالماً غانماً ، في حين يتم منع العديد من الأردنيين من السفر بحجة أنهم مدينون للدولة الأردنية بمبالغ قد تصل في بعض الأحيان إلى عشرات الدنانير فقط وعن حسن نية أو جهل بالمطالبة وليس بنية النصب أو سرقة المال العام كالفاسدين الكبار . وهكذا يتم الاستعمال الانتقائي لقانون "تحصيل الأموال الأميرية" لخدمة الفساد الكبير وتعزيز الجباية من المواطن العادي البسيط ، في حين يتغنى رئيس الوزراء بتطبيق القانون على الجميع بالتساوي ! وهكذا وما دام تطبيق القانون ينحاز إلى الفاسد الكبير بحكم كونه متنفذاً فإن الوضع في الأردن ليس بخير خصوصاً وأن النزيف في الدولة وايراداتها مستمر بحكم ذلك الفساد الكبير مما يعني أن كل ما يتم ضخة في شرايين الدولة يتم سحبه أولاً بأول ولا يبقى إلا أقل القليل لسد رمق الرواتب ومصاريف الدولة بعد أن يأخذ ذلك الفساد الكبير حصته أولاً .

          إن عدالة أو كفاءة أي قانون ترتبط بشكل كامل بالقدرة على تنفيذه على الجميع بالتساوي وبعدالة وكفاءة وإلا أصبح القانون حبراً على ورق .

         محاربة الفساد الكبير تتطلب جهداً وطنياً واضحاً وقوياً يتطلب من الجميع الوقوف بصلابة ضد ذلك الفساد ورموزه ، وفضح الفاسدين وعمليات الفساد .

       وإذا ما بقى الوضع العرفي السائد في الأردن مُصِراً على حماية الفساد والفاسدين وإذا ما إستمر وضع المؤسسات الأردنية والمسؤولين الأردنيين خاضعاً لجبروت الدولة العرفية ، فعلى المجتمع المدني في الأردن اللجوء إلى هيئات عربية مثل المنظمة العربية لمكافحة الفساد أو اتحاد المحاميين العرب أو هيئات دولية تابعة للأمم المتحدة والتقدم بشكاوى تتعلق بالفساد الكبير وسرقة أموال ومقدرات الوطن الأردني ، أو الطلب من تلك الهيئات فضخ ذلك الفساد وإصدار "كتاب أسود" عن حالة الفساد في الأردن ، وهذا أقل القليل مما يتوجب فعله .