• 3 تشرين أول 2018
  • أقلام مقدسية

 

 

بقلم : انطون سابيلا

 

عندما غادرت القدس قبل اربعين عاماً كانت هناك فيها مقاهي عصرية تحتسي فيها الكابوشينو والسحلب وملاهي ليلية وبارات واماكن يلتقي فيها الشباب والشابات بحرية مع احترام التقاليد المحلية.  كانت القدس الشرقية ورغم مرور عدة اعوام على احتلالها قابلة للتطور لأن الشباب في ذلك الوقت لم يكونوا يفكرون بالهجرة بل بالصمود والتصدي. 

 ثم بدأ تغيير ديموغرافي فجائي في القدس باوائل السبيعنات ولكن هذه المرة من الفلسطينيين القادمين من خارج القدس ومعهم اموال الصمود والتصدي التي أودعتها السعودية ودول الخليج في العاصمة الاردنية عمّان لسكان القدس اصلاً لكن حصل عليها زعماء ووجهاء عشائر من الضفة الغربية فتهافتوا لشراء المحلات التجارية والمنازل في وقت كان فيه سكان القدس يعانون من ضائقة مالية كبيرة.  

وكان بإمكان هذا التغيير أن يكون مفيداً جداً لمستقبل القدس الشرقية لولا أن الوافدين الجدد كانوا يقاومون التطور العصري للقسم الشرقي من المدية لاسباب خاصة بتقاليدهم.  فبدأت الهجرة المقدسية الكبيرة وبذلك فُتح المجال امام المستوطنين اليهود والحكومة الإسرائيلية بالبدء في عملية الإستيلاء على القدس الشرقية.  

وعندما بدأت عملية الإستيلاء الصهيوني على القدس الشرقية وقف راهب فلسطيني في القدس الشرقية هو الاب الراحل البرت روك يخاطب طلابه قائلا "قبل عام 1967 كنا نريد شراء منازل للاجئين الفلسطينيين فقامت الدنيا ولم تقعد واتهمونا بمحاولة تغيير طابع المدينة وقلنا لهم إن هناك مئات العائلات المسيحية التي تشردت من القدس الغربية وهي بحاجة لإيوائها وإلا سوف تهاجر لكنهم رفضوا الإستماع فأضطرت الحكومة الأردنية لإصدار قانون يمنع بيع المنازل للمؤسسات المسيحية في القدس القديمة."  

واضاف الراحل روك قائلاً " والان هذه المنازل التي كنا نريد شرائها ويضمنها الفاتيكان للعرب اشتراها او اغتصبها المستوطنون اليهود ومن بينها منزل وزير الدفاع الاسرائيلي الاسبق ارييل شارون في حي الواد."  

وبكلمات أخرى ليس هناك الآن في القدس الشرقية تعددية بالمعنى الفعلي للكلمة بينما كان اشهر الاطباء والمهندسين والمعلمين والمحامين قبل عام 1967 من المسيحيين والمسلمين المقدسيين. وقرأت لكاتبة صهيونية اعترافا بان اليهود قبل عام 1948 كانوا ياتون الى القدس لكي يتعالجوا على ايدي الاطباء المسيحيين المقدسيين "لأنهم كانوا ابرع حتى من اليهود أنفسهم،" وما يزالون، حسب قولها. 

أعود إلى سيدني، فعندما وصلتها عام 1978 لم يكن هناك سوى مقهيين إثنين في كل المدينة يقدمون الكابوشينو، واحد في ضاحية لايكاردت ذات الاغلبية الايطالية والثاني في ضاحية دبل باي الراقية في وسط سيدني. وكان مكان عملي في الاذاعة الحكومية قريبا من المقهى الثاني فكنت اذهب هناك مع اصدقاء لتناول الكابوشينو وقراءة الجرائد يوم السبت. وكان يأتي الى المقهى الممثل الشهير ميل غيبسون ( في اول طلعته) والمذيع الشهير المتقاعد جون لوز والمذيع الشهير الذي رحل مؤخراً رون كيسي. وكنا نتجاذب اطراف الحديث معهم وصار المذيع كيسي يدعوني للتعليق على احداث الشرق الاوسط في برنامجه الصباحي.  

ووجد اصحاب الأعمال أن سيدني مدينة متأخرة وغير متطورة وفيها جماعات محلية متشددة بتقاليدها بينما تفتقر المدينة الى المطاعم والترفيه واماكن الجذب السياحية والعمال المهرة وغير المهرة ووسائل المواصلات العصرية. فاقامت الحكومة مؤسسة اسمها "الافكار لسيدني"، فبدأ العمل بالاحتفالات الشعبية والمهرجانات الثقافية واستضافة المباريات الرياضية والخ.  ثم بدأت الهجرة الكبرى لتطوير سيدني واستراليا، فجاء المهاجرون من كافة انحاء العالم وبدأت سياسة التعددية الثقافية وأخذت سيدني تنهض من سباتها العميق وهي الأن من اجمل مدن العالم وأكثرها إزدهاراً بسبب التعددية الثقافية   

ونذهب إلى سوريا فبدلاً من مشاريع للمحافظة على التعددية العلمانية السورية هناك مشاريع لتبني الطائفية وتهميش الاقليات الدينية والعرقية والتحريض عليها. لا نعرف من وراء هذه المشاريع وما الهدف منها ولكن كل ما نعرفه أن سورية بحاجة الى مشاريع عمرانية وصناعية واقتصادية ومصالحة وطنية ونظام سياسي عصري والنظر إلى المستقبل، وإذا لم تفعل ذلك فسوف يستمر النزاع الى ما لا نهاية وتضيع سورية.  والحال ليس افضل في العراق حيث يتم قتل النساء الشهيرات اللواتي يتحدثن عن حقوق الانسان والمرأة وحيث الجماعات الايرانية تكاد تقرر مصير البلد.  

كلما ابتعد العرب عن التعددية الثقافية كلما زاد تأخرهم وتقوقعهم. الان في سيدني وملبورن وسائر المدن الاسترالية الرئيسية تجد الناس من مختلف الجنسيات والأديان، والكل يعيشون بتفاهم ومحبة في ظل القانون. والدولة تتطور لأنها لا تفرق بين دين وآخر. كان رئيس الوزراء السابق كاثوليكياً بالإسم لكنه اضطهد المدارس الكاثوليكية وحرمها من اموال تحق لها لسبب غير معروف أما رئيس الوزراء الجديد سكوت موريسون فهو بروتستانتي لكنه صحح الاوضاع واعاد الاموال المسلوبة الى المدارس الكاثوليكية وقال انا لجميع الاستراليين وليس لفئة دون أخرى.  هذه هي العلمانية فجئني بمثلها يا أخا العرب!!