• 11 كانون أول 2018
  • أقلام مقدسية

 

 

بقلم : وليد سالم

 

دأبت الفصائل الفلسطينية تاريخيا على تحديد رؤية بعيدةالمدى تشتمل على تصور لحقوق الطرف الخاضع للاستيطان الاستعماري والطرف الآخر الذي ينفذه. 

قبل أن نعيد استنساخ نفس التجربة، علينا أن نسأل أولا: هل كانت نتائج هذه الطريقة ذات جدوى؟. وما الذي ترتب عنها؟. وتنبع أهمية هذا السؤال من الحاجة إلى أن لا نكرر تجربة ما في حال ثبت فشلها. 

عدا اقتتال الفصائل على الحروف والفواصل لدى صياغة رؤاها، وما نجم عن ذلك من تشققات وانقسامات وصلت إلى حد الاقتتال في بعض الأحيان، فإن الرؤى الفلسطينية السابقة وطنية واشتراكية وإسلامية قد وصلت جميعا فيما يبدو إلى طريق مسدود. السؤال الأساس هو لماذا تم ذلك؟. وكيف يمكن التعلم من دروسه وتفاديه؟. 

على هذا السؤال ستحاول أن تجيب هذه المقالة الموجزة ، كما أنها ستقترح طريقة أخرى للتعامل مع موضوع الرؤية مختلفة عما سارت عليه الفصائل الفلسطينية حتى الان.

وكبداية، من الممكن البدء بتحديد المصطلحات وما نعنيه بكل منها: 

أولا : ما نواجهه في فلسطين هو استيطان استعماري ، وليس استعمارا ، ولا حتى استعمار استيطاني. الاول هو عبارة عن مستوطنين مستعمرين أتوا ليقتنعوا ويحلوا محل، وذلك على غرار ما جرى في امريكا وكندا وأستراليا ونيوزيلندا مع الفوارق الجزئية بين هذه التجارب المتشابهة، كما جرى بطريقة مختلفة في أيرلندا وجنوب افريقيا، والتي لا يتسع المكان لتفاصيلها هنا، ولكن يجدر الذكر أن الطريقة الاولى قامت على إبادة الشعب الأصلي بصورة كاملة تقريبا، أما الطريقة الثاني فقد اضطرت لتقاسم الحكم مع الشعب الأصلي على جزء من البلاد وليس كلها  ( تجربة أيرلندا الشمالية)، أو على تحويل نظام الابارتهايد لصالح الأغلبية التي كانت خاضعة للإضطهاد.

  . أما النوع الثاني فهو استعمار يستعمل الأدوات العسكرية لإدامة حكمه، وهذا إنتهى مع ثورات التحرر الوطني في القرن الماضي. وأخيرا فإن النوع الثالث هو استعمار استيطاني مورس في الجزائر وزيمبابوي وقد رحل كالثاني ايضا لأسباب عدة منها إعتماده على القوة الاستعمارية ، وكذلك عجزه عن خلق أغلبية سكانية والقيام بعمليات إبادة وترحيل.

نحن يجب أن نكون معنيين بدراسة هذه التجارب بعمق والتعلم من دروسها، وذلك قبل الأقدام على صياغة رؤية جديدة. 

ثانيا: الاستيطان الاستعماري الصهيوني هو مشروع اعتمد على دول أمهات كانت مدفوعة بتوجهات مسيحيانية ( كالاستيطان الاستعماري الامريكي في فلسطين في القرن التاسع عشر والألماني والفرنسي في نفس الفترة،وهي المشاريع التي سلطت الأضواء عليها اكثر من قبل دراسات حديثة). وقد تعاونت هذه الدول الأمهات في حينه مع الأثرياء اليهود كموسى مونتفيوري والبارون روتشيلد وغيرهما، وتلى ذلك وعد فرنسي للصهيونية بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين ومن المفارقة أنه تزامن تقريبا مع وعد بلفور من بريطانيا عام١٩١٧. 

الفاعلون بعد ١٩١٧ شملوا: بريطانيا، الحركة الصهيونية، والحركات الصهيونية العاملة سيما في أوروبا الشرقية كأحباء صهيون وهبوعيل هتسعير وغيرهما.  

ثالثا: إذن كان تعدد الفاعلين هو سمة للمشروع الاستيطاني الاستعماري الصهيوني، وهو المشروع الذي استمر ايضا بعد عام ١٩٦٧، ولكن هذه المرة ليس عبر دولة أم ومشروع استيطاني استعماري وليد تابع لها كما طرح محمد اشتية في حوار نظمته مجلة الدراسات الفلسطينية عام ٢٠١٦ بعنوان " فلسطين إلى أين". في هذه المرحلة كان شعار " ارض اسرائيل الكبرى" هو الشعار الناظم للحكومة الاسرائيلية و ل" حركة ارض اسرائيل الكبرى" التي نشأت عام ١٩٦٧، وحركة غوش ايمونيم في ذلك الوقت. ولا يوجد حيز هنا لتناول الفوارق بالتفصيل بين حكومات العمل والليكود بعد عام ١٩٦٧، حيث الاولى أرادت حلا سياسيا يقوم على ضم ما تريده من الارض إلى اسرائيل، والتفاوض على الباقي مع الأردن بداية ، ثم مع منظمة التحرير بعد الانتفاضة الاولى، وذلك للتخلص من العبء الديمغرافي. أما الثانية فقد أرادت ضم كل الارض بالتدريج، وجاء قانون القومية لهذا العام ليتحدث عن الارض كلها على أنها اسرائيل بدون الاكتراث للحديث عن حقوق الشعب الآخر( الأصلي  في هذه البلاد ) ، ولو بكلمة واحدة.  

رابعا:  وفِي المقابل بدأت تتطور مشاريع للترحيل( حزب الهوية لموشيه فيجلن كمثال، ومشروع إسقاط النظام الاردني واستبداله بنظام يقبل ترحيل الفلسطينيين للأردن وهو مشروع للمستوطنين طرحه عنهم تيد بيلمان)، وغيرها. كما طرحت مشاريع " لمنح" الهوية الاسرائيلية لفلسطينيي الضفة( استئصال الهوية الفلسطينية( باتريك وولف) عبر أسرلتها، وذلك كما طرحت كارولين عليك وغيرها، وأخيرا طرحت مشاريع للضم الكلي أو الضم التدريجي بدءا بمعاليه أدوميم والمنطقة ج، وذلك لتكمل ضم القدس عام ١٩٦٧ ، والخروج من غزة عام ٢٠٠٥ للتخلص من العبء الديمغرافي الذي مثلته. 

خامسا: بناءا على ما سبق ومؤشرات أخرى يبدو أن القرار الصهيوني بأسرلة الضفة بدءا من المنطقة ج التي يقطن فيها غالبية يهودية قد اتخذ، وبقي فقط انتظار الوقت المناسب للتنفيذ، وذلك في إطار زيادة عدد المستوطنين المستعمرين الى مليون خلال فترة لا تزيد عن ٢٠ عاما، وذلك بالاعتماد على النمو الطبيعي لهم، وتحريك مستوطنين من منطقة غوش دان الى الضفة ليملك كل منهم بيتا آخر فيها بتسهيلات كبيرة، وذلك بدون الحاجة لجلب مستوطنين جدد من الخارج. وفيما اذا حصلت موجة هجرة جديدة إلى اسرائيل فإن ذلك سيجعل فترة الزيادة إلى مليون مستوطن مستعمر أقل من عشرين عاما، علما أنه يسكن المستعمرات مع نهاية عام ٢٠١٦ حوالي ٥٠٠'٦١٤ مستوطن مستعمر يزيدون سنويا بمعدل ٩'٣ بالمئة. 

سادسا: يترتب عن ما تقدم أن المشروع الاستيطاني الاستعماري الصهيوني يتقدم، مستعملا أساليب تهويد المكان والإقليم والفضاء والمشهد، واستخدام طرائق الاقتلاع الخارجي والداخلي( سمى ذلك نديم روحانا بالأستئصال الديمغرافي)،  ومحاولات أسرلة الشعب في فلسطين المحتلة عام ١٩٦٧، مع استمرار عمليات سرقة أراضيه ( كمشروع تهويد الجليل عام ١٩٧٦، وما يجري اليوم في النقب من عمليات ترحيل)، وقد ترتب عن هذه الحالات من " الاستعمار الداخلي"( ايليا زريق)، زوال تدريجي للفروق بين فلسطين المحتلة عام ٤٨ وبين فلسطين المحتلة عام ١٩٦٧، مع بقاء بعض الفوارق ، ففي الاولى اشتمل المشروع الاستيطاني الاستعماري على الدمج الشكلي في المواطنة الاسرائيلية( دمج بدون حقوق جماعية ولا حتى فردية متساوية مترافقا مع إهدار الحقوق الوطنية الفلسطينية وفِي مقدمتها حق تقرير المصير) وإعطاء" حق " المشاركة في إطار " ديمقراطية المستوطنين" ( مايكل مان)، وهو " حق" تتعالى الأصوات  إلى نزعه. أما في الثانية فإن مشاريع الاستيطان الاستعماري لا زالت الأقوى، مترافقة مع نظام الابارتهايد ، وعمل قوات الاحتلال العسكري في خدمة المشروع الاستيطاني الاستعماري وليس العكس( انظر/ي: هنيدة غانم، وعزمي بشارة). 

سابعا: في إطار ما تقدم لعبت المفاوضات  دور لعبة العلاقات العامة التي هدفت إلى إطالة الوقت المستقطع اللازم لتمدد المشروع  الاستيطاني الاستعماري على الارض، حتى وصل اليوم إلى " عتبة الحسم" كما سماها إيان لوستيك، وهي مرحلة تتميز بتحول الدولة الأم ( امريكا في هذه الحالة) من دور الراعي التفاوضي المنحاز الى دور الشريك العلني والمباشر لحسم الصراع على الارض لصالح اسرائيل، ويتجلى ذلك اليوم ليس فقط بقرارات الولايات المتحدة حول القدس ووكالة الغوث( اللاجئين) وغيرها، وإنما ايضا بتحول الولايات المتحدة إلى شريك فعلي في المشروع الاستيطاني الاستعماري على الارض، حيث اشارت دراسة جديدة أن هنالك أمريكي واحد بين كل ٦مستوطنين مستعمراً في الضفة( سارة هيرشهورن). 

 

ثامنا: كانت تجربة التحرر من الاستعمار للقرن الماضي بسيطة، واضحة ، ومباشرة: حركة تحرر وطني ترسم الطريق وتخوض غمار المعركة حتى الاستقلال. اما التحرر من الاستيطان الاستعماري فهو اصعب بكثير ، ولكنه ممكن كما اشارت تجربتا الجزائر وزيمبابوي مع اختلافهما جزئيا. بناءا على ذلك فإن ما تحتاجه فلسطين اليوم وبصورة ملحة لا تقبل التأجيل هو: رؤية وطنية تحررية، وليس رؤية مستقبلية مجردة لما سيكون عليه الحال في فلسطين  بعد هزيمة الصهيونية، وهي رؤية عملت عليها الفصائل بدون أن تعمل بشكل كاف على توضيح الطريق المفضي إليها، والذي اسميته هما ب " الرؤية التحررية". ودفعا لأي التباس فإن الرؤية التحررية يجب أن تهتم ايضا بمستقبل فلسطين بعد هزيمة الصهيونية ولكنها لا يجب أن تقف عن ذلك ، بل تتعداه لطرح الرؤية التحررية وأدوات العمل عليها، وذلك لكي ننتقل إلى طرح بدائل عملية لشعبنا تبنى كل خطوة منها على سابقتها حتى يتم الوصول إلى التحرر.

 

تاسعا: يجب تمييز الرؤية التحررية عن " الرؤية الانعتاقية" ، فالأخيرة هي حالة غربية مثلت الانتقال من الإقطاع إلى مرحلة التنوير والحريات الفردية والعامة وحقوق المرأة وغيرها. هذا التمييز كما أشار ميجنولو ليس شكليا ، بل له علاقة بموضوع الارض التي هي ليست مشمولة في مفهوم الرؤية الانعتاقية. سؤال الرؤية التحررية هو: كيف نحرر الارض والإنسان؟ وليس كيف نحرر الانسان فقط.

 

عاشرا: من الواجب أن تخضع عناصر الرؤية التحررية لنقاش معمق بما يمكن من شمل نتائج النقاش في دراسة، وهذا المقال ليس الا مبادرة باتجاهها، وفيما يلي بعض الإجابات والتي تتضمن ايضا وبدورها بعض التساؤلات:

أولا: يجب الانطلاق من الحقيقة التي أصبحت جلية، وذلك بأن طريق التحرر عبر المفاوضات قد وصل إلى نهاية طريق. 

ثانيا: البديل اذن هو تحرري، كفاحي نحدد في إطاره أساليب المقاومة الميدانية والتنموية والاقتصادية والدبلوماسية والقانونية كما أوردت في مقالات سابقة.

ثالثا: نبدء بأنفسنا كشعب فلسطيني لتطبيق البدائل المذكوره، ونتوجه لشعبنا من أسفل للتحريض على ذلك، وليس للقيادات السياسية وأحزابها وفصائلها.

رابعا: بعد ذلك نتوجه للعالم لينضم إلينا  

، ونسعى لتفعيل الجاليات الفلسطينية في العالم لتصبح عواصمه ومدنه ساحات كفاح دائمةلفلسطين.

خامسا: لا نطرح رؤيتنا لحقوق اليهود بعد هزيمة الصهيونية بصورة مجانية، بل نربطها بمطالبتنا لهم للانخراط معنا في الكفاح من أجل هزيمة الصهيونية، والعمل المثابر لاقناعهم بتبني اطروحات العدالة القائمة على الاعتراف بمسؤوليتهم عن نكبة ١٩٤٨، ونكسة ١٩٦٧ وكل ما ترتب عنهما، وإيجاد وسائل لمعالجة كل ذلك( يمكن أيضا التفصيل أكثر في هذه النقطة اذا احتاج الامر ذلك).

سادسا: السؤال المركزي لكل ما ورد أعلاه هو من شقين: أ) كيف نوحد شعبنا ما وراء شعارات المساواة في المواطنة للداخل، وحق تقرير المصير في دولة، وحق العودة للاجئين؟.ب) كيف نعالج التشرذم والانقسام القائمين؟.

 بدون مواجهة هذا السؤال ومعالجته سيكون من الصعب برأيي التقدم في تحديد واجبات ومهمات كل فئة من شعبنا في إطار الرؤية التحررية.