• 1 كانون الثاني 2019
  • أقلام مقدسية

 

بقلم : وليد سالم

  

تحاول جاهدا أن تسبر غور  سلوك المستوطن المستعمر. تتطلع إلى الوجوه وتسمع الأصوات الجهيرة بينما تسير في البلدة القديمة من القدس، وتسأل نفسك: من هؤلاء ، ولماذا يتصرفون على هذه الشاكلة وكأن البلاد بلادهم؟. 

تعود أولا إلى الأساطير المؤسسة لدولة اسرائيل( أساطير حسب روجيه غارودي، وخرافات حسب ايلان بابيه، واختراعات حسب شلومو ساند )، تفهم من هذه الكتابات أن  هذه الأساطير والخرافات ليست الا ما يتم اختراعه من أجل تكوين " شعب". ولكن هنالك شقان للسؤال الباقي بعد ذلك، الأول منهما  يتعلق بالكيفية التي يتكون في صيرورتها هذا الشعب"، والثاني يتعلق بمسار تطور ذهنية وسلوك هذا " الشعب". وفي ضوء ذلك تنشأ الأسئلة المقابلة: لماذا كان  تطور " الشعب المخترع" على حساب الشعب الأصلاني مالك البلاد تاريخا ولغة وثقافة أبا عن جد؟. 

بدون إسهاب ، لا تتيحه هذه الخاطرة، يمكن تقديم النظرية التالية لما يحدث. ولنبدء بالطرف الغازي: 

في هذا الطرف الغازي تنشأ صيرورات استيطانية استعمارية غالبيتها غربية المصدر لها علاقة بالجشع والرغبة النهمة باقتلاع الشعوب وبالسيطرة والحلول مكان من اقتلعتهم، والتي يمكن وفقها فهم ما يجري من استلاب واستحواذ متراكم، فهنا لا يكون السلوك سلوك " عائدين" بعد ألفي عام من الشتات كما تقول الأسطورة، وإنما سلوك عنجهية القوة وفرض النفس كما يعبر عنه أيضا أولئك الذين يبنون بقوة الأمر الواقع، ويتبخترون في أزقة البلدة القديمة من القدس.

يقابل ذلك خضوع الطرف الآخر للشعب الأصلي  إلى عمليات استئصال شاملة لكل مناحي الحياة، ولو أخذنا القدس مثالا، فإن أول أشكال الاستئصال التي تواجهك تكون بفصلك عن الأرض التي يتم تهويدها ، وثانياً بشطب الهوية( فأنت مواطن اردني تعيش في ارض إسرائيل حسب تعريفهم)، وثالثا يستؤصل ارتباطك بعموم الفلسطينيين عبر القيود والحواجز، ورابعا تستؤصل ثقافتك ومؤسساتك ويفرض عليك التابعية للمؤسسات الاسرائيلية التي لا هوية لك فيها. في هذا الإطار يتم أيضا استخدام الديمقراطية ، فتكون هنالك ديمقراطية للمستعمرين، وفي المقابل تكون هذه الديمقراطية مجرمة ضد الشعب الأصلي، وكما كتب مايكل مان، تتناسب اجرامية هذه " الديمقراطية" ضد الشعب الأصلي طرديا مع نموها لصالح " شعبها"، حيث أن  " شعبها" لا يعيش ولا يزدهر ، ولا تبرعم ولا تزهو ديمقراطيته إلا على حساب الشعب الأصلي وأرضه ووجوده وكياناته وهياكله السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والقانونية. أي أن ديمقراطية المستعمر( بكسر الميم) لا تسمح بأن تنشأ ديمقراطية مناظرة لها وتشكل تهديدا لها هي ديمقراطية المستعمر ( بفتح الميم).

ينجم عن كل ما تقدم حالة طرد داخلي للشعب الأصلي،اضافة للطرد الخارجي.  تعيش في بلادك ولكن مع سلبك من كافة الموارد التي تمكنك من تملكها، وتعيش مطاردا وملاحقا بين هم حفظ بطاقة الهوية، وهم الحفاظ على البيت المعرض للهدم، وهم الحفاظ على الأسرة في ظل ما يتهددها بسبب قوانين جمع الشمل المصممة لتبديد وجودك. يلحق ذلك بما يخص القدس تشرذم بين المقدسيين الفلسطينيين  ، وبينهم وبين بقية شعبهم في مناطق سلطتهم الوطنية وفي الشتات، كما يلحقه تفكك مجتمعي داخلي تعززه  اختلافات في الأجندة ،واضطرابات ونزاعات عائلية واجتماعية ووأد للديمقراطية التي لاتنشأ الا في مجتمع  المستعمر ، فيما يحرمك منها لأنه يدرك أن امتلاكك لمواردها يمثل عامل تهديد لديمقراطية المستعمرين التي يحملها، وبالتالي فهو يئد أي متنفس ديمقراطي عندك كشعب أصلاني . 

لا مجال لأن نقارن أنفسنا بهم، حيث أن هذه المقارنة خاطئة سياسيا ، كما أنها ضارة عمليا. هم يجب أن يقارنوا مع المجتمعات الاستيطانية الاستعمارية المشابهة كامريكا وكندا واوستراليا وغيرها، وليس بنا كشعب يخضع لهم ويدفع كل يوم فاتورة الدم والمعاناة ، ويفقد الأرض من تحت أقدامه شبرا شبرا . 

أما نحن فنقارن مع حركات التحرر المناظرة لنا في العالم لكي نستلهم الدروس من نجاحاتها ومن إخفاقاتها، ولكي أيضا نعلمها من تجاربنا نحن أيضا. 

في هذا الإطار يقوم البعض بالمقارنة بيننا وبينهم مع  كل ما ينتج عن ذلك من جلد للذات وإشاعة للليأس والإحباط. على العكس من ذلك يكون الأمر عندما نقارن أحوالنا مع حركات التحرر سيما الناجحة منها مما يقوينا ويشحذ هممنا للمضي قدما. 

عدا عن ذلك، فإن قيمنا التي تحترم الكرم والشجاعة والشهامة والاعتزاز بالنفس لا يمكن أن تقارن مع قيم سارقي الأرض وممتهني كرامة الإنسان. فهل لنا أن نخرج من إطار جلد الذات إلى إطار استعادة قيمنا السامية هذه خلف التشرذم الذي يصنع لنا ويراد لنا أن ننظر إلى أنفسنا وفقا اليه على أننا نعاني من نقص، فيما لو نظرنا بعمق فإننا لسنا كذلك. فكيف إذن سمحنا لهم بأن يشرذمونا؟

وإذ تطمس الصهيونية الفرق بين القدس وبقية الوطن على صعيد الممارسة الاستيطانية الاستعمارية ، يكون علينا  في المقابل أن نعيد ولادة الحركة الوطنية الفلسطينية وفق قيمها الأصيلة ونجعلها مرشدا لأفعالنا. ولا  سبيل لنصرة الحق وهزيمة المغتصب الآفاق الا إذا فعلنا ذلك. حينها سنعود من حالة الطرد بشكليه الداخلي والخارجي ونستعيد مع هذه العودة السيطرة على مواردنا ووجودنا وكياننا ، فهل من برنامج يقود ويعمل بالمشاركة مع الناس وليس بالنيابة عنهم؟ وهل من طليعة تحمل البرنامج وتعيد إنارة الدرب بمشاركة الشعب لتحقيقه؟