• 16 كانون الثاني 2019
  • أقلام مقدسية

 

 

 عمان – أخبار البلد- تتشرف شبكة " أخبار البلد" ان تقوم بنشر الكلمة الاكاديمية الكاملة التي القتها الاستاذة الدكتورة الكاتبة المعروفة "هند أبو الشعر" صاحبة المؤلفات الكثيرة والتي تولت عدة مناصب هامة في السلك الاكاديمي في الأردن، في حفل إطلاق الموسوعة الفلسطينية "بلستنيكا"  للمؤرخ ابن القدس الدكتور "محمد هاشم غوشة" تحت رعاية سمو الأمير الحسن في المركز الثقافي الملكي، واليكم نص الكلمة كما وصلنا من الدكتورة هند"

سموَ الأمير الحسن بن طلال المعظم راعي هذه الفعالية

أصحاب المعالي والسعادة حضرات السيدات والسادة الحضور الكرام

آهالي فلسطين على الأرض وفي المنافي

أسعد الله مساءكم بكل الخير والأمان

يسعدني ابتداء أن أتحدث في هذه المناسبة الاستثنائية  بحفل  إشهار الموسوعة الفلسطينية للباحث الجاد الأستاذ الدكتور محمد هاشم غوشة  ، ويسعدني أكثر أن يكون إشهار هذه الموسوعة في عمانّ برعاية صاحب  السمَو الملكي  الأمير الحسن بن طلال  الذي جعل (القدس في الضمير  ) من خلال قيادته الفكرية لمنتدى الفكر العربي ، فالقدس هاجس الأمير ، وهي محور اهتماماته الفكرية والعلمية ، وتمثل رعايته لإشهار هذه الموسوعة  المتميزة  ، تتويجا للرعاية الهاشمية لزهرة المدائن  .

أيها الحضور الكرام ،

يحتاج العمل الموسوعي إلى باحث بعقلية منهجية ، وبجهد حثيث  لا يتوقف ، وإلى روح ابتكارية تعرف لغة العصر وتواكبه ، فقد عرف العالم الموسوعات  منذ العصور القديمة ، وتفوق اليونان والإغريق  بتأليف موسوعة تختصر علومهم ، واطلقوا  اسم :

( الإنسيكلوبيديا )  على ما ابتكروه من نظام متكامل للتعليم ، ووثقت  الأمم إنجازاتها بلغات متعددة في تأليف الموسوعات التي تختصر الإنجازات الفكرية والحضارية ، وكان للعرب دورهم في هذا الجهد الفكري ، سواء بتأليف الكتب الموسوعية أو دوائر المعارف والقواميس ،  و قد تنوعت الموسوعات في العالم في نواحي المعرفة ، وصدرت موسوعات جغرافية وتاريخية وفلكية واقتصادية  ودينية ومذهبية ، شكلت مرجعية للباحثين والأكاديميين ، ومع الثورة الإلكترونية تحولت الموسوعات الورقية إلى الشكل الإلكتروني الذي يسهل الوصول إليه بسرعة الضوء ، والتي تتجدد ويتم تحديثها ،  بالصور والخرائط المتطورة  التي تعتمد الصور الملتقطة بالأقمار الصناعية ، وبالفيدوهات والصور المرئية والمسموعة ، بحيث لا يمكن الاستغناء عن العودة إلى الموسوعات في أي علم أو فن ، وأعتقد بأنه بات علينا في مدارسنا وجامعاتنا أن نعلم وندرب المتعلمين على كيفية الوصول إلى كنوز الموسوعات ، والإفادة من عوالمها المخدومة بتجليات العلوم التي تقودها ثورة التكنولوجيا ، ومن هنا ، فإن تأليف موسوعة ما ، يعتبر قمة العمل الأكاديمي الذي لا يوازيه أي عمل آخر .

منذ عرفت الباحث الأستاذ الدكتور محمد هاشم غوشة وبوصلته البحثية تتجه إلى القدس ، فهو مقدسي بامتياز ، جذوره مزروعة في  القدس ، وبوصلته لا تتحول عنها  ، وقد بدأت جهوده في التأريخ للقدس  مبكرة ، وكان عمله ينصب على معالم القدس في العهد العثماني ،  حيث أرخ لأبواب  القدس وللكتابات والنقوش  على معالم المدينة المقدسة منذ العصر المملوكي ، وأصدر كتابه الموسوعي ( ذاكرة القدس ) في ترسيخ واضح لروحه الموسوعية  ، عام 2010 م ، وجمع 40 ألف صورة في زياراته ل 400 أرشيف محلي وعربي وعالمي ، ويحمد له جمعه لأرشيف المقادسة وحفظه إليكترونيا وهو عمل مؤسسي يتجاوز الجهود الفردية ،  وهو بهذا حمى أرشيف المقادسة المصور والموزع  ، ومع عام 2013 م أصدر كتابه المصور الضخم ( قبة الصخرة المشرفة )  الذي عمل فيه على تصوير وتوثيق القبة بعدسته ،  فكان هو المصور والموثق والمؤرخ والمنتج لهذا العمل الضخم ، وكأنه في كل هذه الأعمال يهيء للإنتقال إلى عمله الموسوعي  الكبير الذي يجمعنا اليوم وهو ( الموسوعة الفلسطينية ) ، الذي استكمل فيه جهود المؤرخين الذين  سبقوه مثل عارف العارف ، ومصطفى مراد الدباغ وكامل العسلي ، وزاد عليهم في موسوعته التي تصل إلى أربع وعشرين مجلدا ، وتفوق عليهم باستخدامه لمئات   الصور وتوثيقه للمعالم الفلسطينية التي نجح في رصدها من خلال دور الأرشيف وكتب الرحالة عبر الصور ، وأرشيف الصحافة ، وسجلات المحاكم الشرعية ، وسجلات البلديات ، ورغم تنوع مصادره  واتساع المرحلة  الزمنية التي يؤرخ لها في الموسوعة والتي تبدأ مع العهد العثماني عام1516 م ، إلا إنه التزم بالمنهجية البحثية بشكل كبير ، ولم يكتف بإيراد الصور للتوثيق ، فقد صاحبها بالشروحات الوافية المفصلة ، وهو عمل صعب  يحتاج للمتابعة الجادة ، وكان  توثيقه لصور الشخصيات الإعتبارية والشخصيات العادية خدمة مدهشة يستحق عليها كل التقدير ، ويستوقفنا  توثيقه للمرافق   من الأسواق وسكك الحديد ودورالبريد والبرق والبلديات ومرافق المياه والسبل  والمدارس والمكتبات العامة والخاصة والزوايا والتكايا ،  كما أنه نجح في توثيق الإحتفالات والأعياد والمناسبات ، وهو  بهذا يقدم صورة متسلسلة للحياة الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والدينية  والثقافية ، وهذا بالتأكيد هو العمل  الموسوعي الذي تقدمه الموسوعة الفلسطينية ، بالصورة  والدراسة التاريخية المنهجية التي تميزصاحبها في كل إنجازاته  ، وسأتوقف عند المحاور الآتية التي اطلعت عليها في هذا العمل النبيل والمدهش :

أولا : تغطي الموسوعة فلسطين في إطار وحدة بلاد الشام منذ بدايات العهد العثماني ، وهي مرحلة زمنية واسعة ، لكن الباحث متخصص فيها بامتياز ، لذلك وازن بين كل المحاور بحرفية وإتقان ، ولم يترك لأي محور أن يتسيد على الآخر سواء في تناوله لجغرافية فلسطين أو أحداثها التاريخية أو الحياة الاقتصادية والاجتماعية فيها ، وهذا امتياز عمله والعبقرية فيه ، ورغم أنه يؤرخ لمرحلة واسعة ولكل أرض فلسطين وأهاليها ، ورغم أنه يؤرخ للأرض التي شهدت أقسى حالات الاختطاف للأرض والذاكرة وتاريخ الناس ، لكنني أشهد شهادة  أكاديمية أنه كان موضوعيا ونبيلا ، يحترم عمله ويقدمه بدقة الأكاديمي وموضوعيته .

ثانيا : تتنوع المصادر والمراجع وتصل إلى الآلاف  من حيث الكم ، لكنها تتميز بالتنوع والشمول ، وهذا جهد يفوق العمل الشخصي ويصل إلى عمل مؤسسي وجمعي ، حيث رصد الباحث المبدع محمد هاشم غوشة معرفته الوثيقة بالمصادر المحلية ، وتفوق بفتح وتوثيق الأرشيف الفلسطيني للعائلات  من صور ووثائق شخصية ، وهذا يحسب له لأنه تجاوز بذلك عمل المؤسسات ، ورصد الأرشيف الصحفي وأرشيف البلديات والمحاكم الشرعية التي تصل سجلاتها إلى الآلاف ، واستخدم بتفوق كبير كتب الرحلات الغربية إلى فلسطين مع مطلع العهد العثماني منذ  عام 1550م ، ووثق الخرائط والرسومات والمرافق دون أن يسمح بحدوث خلل منهجي ، فقد وثق لكل صورة حسب الأصول المنهجية ، وكسب بذلك ثقة القارئ المتخصص ، وأكسب القارئ العادي معرفة متميزة  ، ورغم تعدد المؤلفات للرحالة الغربيين ، إلا أن غوشة لم يقتصر على جنسية  أو لغة ، وفتح هذا الأرشيف الغني الذي كان يكفيه وحده ليكون موسوعة ضخمة .

ثالثا : رصد الحياة اليومية في الحارات والأسواق والبيوت والمعامل والمزارع ، ولم يغفل عن المواسم والاحتفالات المعروفة لكل الطوائف والمواقع ، ولم ينس الحياة البرية ، فكان لأزهار فلسطين البرية وغزلانها وسنابل القمح فيها نصيب ،  وكلها موثقة بمصادرها وبلغات متعددة . لقد بعث غوشة الحياة من جديد في المصادر وفتحها بذكاء كبير أمام القارئ المتخصص والعادي على السواء ، وهذا أمر يحسب له ، ويجعل للموسوعة لغة واحدة رغم تعدد الفئات التي تتوجه إليها  ، إن الباحث محمد هاشم غوشة لم يتوجه لقارئ متخصص ، ولم يتوجه لقارئ عام 2019 م ، بل جعل همه وضع موسوعة مستقبلية ، وكل مرافقها في أسواق القدس ويافا وطبريا ونابلس وطولكرم وغزة هاشم والخليل وعكا وغيرها من الحواضر والأرياف  ، وكل وجوه  الفلاحين والصيادين والتجار والمعلمين والعاملين في مصانع الصابون ومعامل الحرف التي تفوح منها رائحة القدس وبيت لحم وتتحول إلى المسابح المصدفة  بأيدي الحجاج القادمين إلى فلسطين المقدسة ، إنه باختصار عمل  جبار لا يقدم عليه غير رجل يعرف مواقع قدميه ، ليحمل على كتفيه مهمة عجزت عنها المؤسسات  وعشرات الباحثين .

يا صاحب السموَ الملكي ، أيها الحضور الكرام

إن الشتات الفلسطيني في العالم كله ، يحتاج من أهل العلم والمعرفة  جهودا جبارة للمَ هذا الشتات بكل الطرق الممكنة ، ومنها جمع التاريخ في كل عصوره ، واستشارة كل المصادر الممكنة  لتجميع ملايين اللحظات التاريخية التي تحمل رائحة الناس وأنفاسهم ودقات قلوبهم التي صادرها العدوان  وحاول تغيير عروبتها وذاكرتها  ، لوضعها بين أيدي الأبناء والأحفاد الذين توزعتهم المنافي والبحار والمدن الغريبة ، ولا أظن أن هناك أفضل في التعبير عن المواطنة  من  تقديم عمل أكاديمي جبار يلم شتات الوطن  ، ويجمع دقات القلوب  ، في موسوعة تحمل روح فلسطين وأرض فلسطين ومساجدها وكنائسها  واحتفالات أهاليها ومواسمهم وأغمار الحنطة والزيتون ، وأنفاس الأهل عبر السواحل وامتدادا للسهول ووصولا إلى البر الداخلي ، إن هذه الموسوعة التي أنجزها  المقدسي المتميز محمد هاشم غوشة  تجمع الشتات الفلسطيني ، وتختصر الحب الكبير والانتماء الحقيقي لباحث مقدسي يستحق محبتنا  ، صحيح أن بوصلة محمد هاشم غوشه تتجه إلى القدس بلا انتهاء ، ولكنها تتوحد مع بوصلة كل أردني  ، حيث دماء الجيش العربي تختلط بتراب القدس ، وحيث حجارة السور المقدسي تعطرها أنفاسهم الطاهرة ، هذه موسوعتنا كلنا نحن أهالي بلاد الشام الذين نتوحد في المحبة ، ونركع معا لنصلي مع دقات أجراس زهرة المدائن ، وتكبير المآذن فيها .

فلمحمد هاشم غوشة  الذين لم شتات الأهل ، وجمع صورهم المبعثرة في المنافي ، ولملم دقات قلوبهم المشتاقة للأرض ،  وحفظها في صفحات الموسوعة ، سلام  وشكر بحجم الكرة الأرضية ، ولك يا سيدي سمو الأمير العالم الذي يحفظ ودَ الهاشميين لأرض القدس ، تقديرنا العميق لجهودك عبر مسيرتك الفكرية الراقية التي نعتز فيها ونثمنها  عاليا ، والله يحفظ الوطن والقيادة بأمن وسلام ،  ولتبق القدس في الضمير ، والبوصلة التي تتجه إليها قلوبنا  من عمان ،  والسلام عليكم  ورحمة الله وبركاته