• 18 شباط 2019
  • أقلام مقدسية

 

   بقلم : د. لبيب قمحاوي    

       مسيرة العرب نحو الهزيمة الكاملة ابتدأت عقب الهزيمة العسكرية المفجعة والكارثية في حرب عام 1967، والتي تعود في أصولها إلى هزيمة عام 1948 وإنشاء الكيان الصهيوني الإسرائيلي على أرض فلسطين . ولكن هذه الهزيمة لم تكتمل نتائجها بعد ، وإن كانت ، على ما يبدو ، قد شارفت على نهاياتها . فالهزيمة العسكرية التي وَضِحَتْ نتائجها فوراً من خلال إحتلال إسرائيل لكامل أراضي فلسطين وأراضٍ سورية ومصرية ، لم تكتمل بعد نتائجها المتمثلة بالهزيمة النفسية والهزيمة السياسية ، وهي هزائم ما زالت قيد التحقيق علماً أنها ستكون شاملة في أبعادها لمعظم دول العالم العربي.

     ما زال العالم العربي يعيش نتائج وذيول هزيمة 1967 ، وما تبعها من جنوح واضح نحو الانقلابية العسكرية والأنظمة الاستبدادية تحت شعارات رنانة وإن كانت في معظمها جوفاء مثل " إزالة آثار العدوان " و " لا صوت يعلو على صوت المعركة " . وكانت تلك الشعارات هي المدخل لتبرير ظهور أنظمة إستبداد جديدة أو إستمرار القديمة، والسماح لها بالشطط في ممارساتها التعسفية والظالمة بحق شعوبها تحت أعذار مختلفة أهمها  أن الأولوية هي للمعركة وليس للديموقراطية ، وكأن هنالك تعارضاً بينهما ، علماً أن صوت المعركة بقي خافتاً وعليلاً، إذ لم يُشَاهِد العالم العربي أية معارك تهدف إلى التحرير ، باستثناء حرب الاستنزاف خلال عهد الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر . وحتى حرب 1973 ، على أهميتها وبطولاتها الفردية ، فإنها كانت تهدف في الحقيقة إلى فتح الباب أمام السلام مع إسرائيل ، أكثر منها السعي نحو تحرير الأراضي  المحتلة .

       يمر العالم العربي الآن في المراحل النهائية لمسلسل النكسات والنكبات والهزائم التي رافقت مسيرة العمل الرسمي العربي منذ هزيمة عام 1967 وحتى الآن . وهذه الهزيمة وبالرغم من وضوح نتائجها العسكرية ، إلا أن أبعادها الأخرى لم تكتمل بعد ، ولن تكتمل إلا بعد أن يتم تكريس الهزيمة النفسية وإكتمال وقبول الهزيمة السياسية العربية بمبايعة إسرائيل صديقاً وحليفاً وربما قائداً للعالم العربي من خلال عملية تطبيع معقدة تسمح بالتعامل مع إسرائيل كحليف إستراتيجي للعرب على مستوى الصراعات الإقليمية .

      إن الهزيمتين النفسية والسياسية تتطلبان مزيداً من الوقت والتفاعلات حتى تتضح آثارهما ، نظراً لكون تلك الآثار خَفِيَّة وتحتاج إلى وقت طويل لتكتمل وتطفو على سطح الأحداث ، الأمر الذي يُمكِّنها إما من الإختباء أو الذوبان في حصاد مر من السياسات الفاشلة أو المستبدة ، ونكسات إقتصادية وهزائم أخلاقية أساسها إستفحال مسيرة متشعبة من الإستبداد والفساد المالي والسياسي التي تصبغ في مجموعها معظم دول العالم العربي والأنظمة الحاكمة لها .  

     فعلى المستوى النفسي وَلَّدَتْ هزيمة 1967 العسكرية قناعة ولو صامتة لدى الأنظمة العربية بصعوبة ، إن لم يكن استحالة ، إحراز انتصار عسكري على إسرائيل يؤدي إلى تحرير الأرض العربية المحتلة أو حتى جزأً منها . ولعل الأثر الأكبر لتلك القناعة كان يتمثل في خوف وخشية تلك الأنظمة من الخوض في صراع عسكري مع إسرائيل تكون نتيجته محسومة سلفاً . وهذا الخوف قد يكون المحرك الرئيسي لرغبة تلك الأنظمة في البحث عن وسائل أخرى إما لتجنُّب الصراع العسكري أو لإنهاء حالة العداء نفسها . وهذا قد يفسر سعي الرئيس المصري أنور السادات لإرسال اشارات عديدة ومبكرة عن الأهداف العسكرية المحدودة لحرب عام 1973 والهادفة بالنسبة له إلى تحريك المياة الراكدة واستعادة كامل الأراضي المصرية المحتلة من خلال صفقة سلام مع إسرائيل وليس الخوض في حرب تحرير ضد إسرائيل .

        الهزيمة النفسية كانت إذاً وراء السلوك الاسترضائي العربي تجاه إسرائيل والذي كان حريصاً عقب هزيمة 1967 على الاختباء خلف حركة المقاومة الفلسطينية ، ونَقل عبئ مسؤولية التحرير تدريجياً إلى الفلسطينيين الذين كانت قيادتهم عطشى، كما إتضح لاحقاً ، للقيادة والحكم من خلال صفقة سياسية وليس بالضرورة للتحرير من خلال حَلّْ الكفاح المسلح .

      وهكذا ، فإن المسار السياسي العربي والنضالي الفلسطيني في حقبة ما بعد هزيمة عام 1967 كان يعكس الآثار النفسية والمعنوية السلبية لتلك الهزيمة على الحكام العرب والشعوب العربية . ففي حين رفضت الشعوب الهزيمة ونتائجها وعَبَّرت عن ذلك من خلال دعم حركة المقاومة الفلسطينية ، لجأ الحكام العرب إلى محاولة امتصاص صدمة الهزيمة أولاً من خلال لاآت قمة الخرطوم الشهيرة ( لا مفاوضات ولا صلح ولا سلام ) ، مروراً بالاحتماء تحت مظلة المقاومة الفلسطينية وانتهاءً بحرب عام 1973 والتي كرست نصراً عسكرياً عربياً جزئياً لخدمة مسيرة الصلح والسلام مع إسرائيل وخروج مصر من حلبة الصراع العربي -  الإسرائيلي .

      أما بالنسبة للإستسلام السياسي فإن مرحلة الانزلاق العربي نحو مسار السلام الطوعي المنفرد تلَقت دعمها الأوَّلي من مصر في عهد أنور السادات ، وكان رد فعل الجماهير العربية غاضبا ومفجوعاً من هول الصدمة ، واضطرت الأنظمة العربية لأخذ مواقف متشددة من مبادرة السادات تلك إستجابة لغضب الجماهير ورفضها لمسيرة السادات . ولكن النوايا والخبايا بقيت موجودة في ثنايا الحكم لبعض الأنظمة ومنها القيادة الفلسطينية والأردن.

      إن الهرولة نحو السلام بقيت طي الكتمان بالنسبة للأنظمة العربية الراغبة في ذلك لأن المطلوب كان سقوط الفلسطينيين في فخ السلام أولاً حتى تخرج تلك الأنظمة من فخ اللوم والإدانة ، وإلقاء اللوم  بذلك على أكتاف الفلسطينيين الذين سعوا نحو السلام بأنفسهم وبمعزل عن العرب الذين إستعملوا عذر المقولة الشاذة    " نقبل بما يقبل به الأخوة الفلسطينيون " كمدخل لإستسلامهم السياسي المستقبلي وليس كمدخل للتحرير .

      كانت القضية الفلسطينية العقبة الرئيسة دائماً أمام التطبيع العربي مع إسرائيل ، حيث شَكَّلت الحاجز الوطني والضميري والأخلاقي والديني والسد المنيع أمام كل نزعات الصلح والتطبيع للعديد من الحكام العرب في تعاملهم اللاحق مع دولة الكيان الإسرائيلي . ولتحقيق ذلك كان من الضروري إلغاء أي دور مؤثر للجماهير العربية في تحديد سياسات دولها خصوصاً تلك المتعلقة بالقضية الفلسطينية وإسرائيل ، وحصر ذلك الدور بالأنظمة فقط ، مع الحرص على دعم الأكثر سوأً والأقل كفاءة لقيادة تلك الأنظمة .

       إن ما يجري مؤخراً من تطورات على مستوى العلاقة بين دول العالم العربي وإسرائيل يؤشر على قرب الوصول إلى خط النهاية في مسار الإستسلام السياسي الكامل لإسرائيل خصوصاً ذلك الاستسلام القادم من منطقة الخليج ، مع وجود إستثناآت واضحة لذلك أهمها دولة الكويت العربية دائماً والتي أبدت عزوفاً واضحاً ورفضاً للإنجرار الأعمى وراء القبول بالرغبة الأمريكية في التطبيع المجاني الكامل مع إسرائيل ، إلا أن الحقيقة تبقى أن معظم الدول العربية هي في ذلك المسار بإستثناء القلة التي تمثل خيار الرفض والمقاومة .

          إنهيار الأنظمة العربية لا يعني إنهيار العرب كما أن قبولهم بالإستسلام لإسرائيل لا يعني قبول العرب بذلك أيضاً . ان ما يجري الآن لن ينسحب بالضرورة على الشعوب بالرغم من جهد الأنظمة لفرض التطبيع مع العدو الإسرائيلي على شعوبها. والواقع المرير الذي تعيشه المنطقة العربية الآن كان هو المدخل الحقيقي لفرض ما أصبح يدعى بصفقة القرن على العالم العربي .

      إن صفقة القرن المقترحة من قبل إدارة ترمب تُعتبر تَرجمة لواقع الحال العربي وتتويجاً لحقبة الإنهيار العربي الكامل . فالأمر لم يعد مرتبطاً بالفلسطينيين وحقوقهم أو بالاحتلال والإنسحاب بقدر ما أصبح تجسيداً لرؤيا أمريكية / إسرائيلية جديدة تهدف إلى إعتبار إسرائيل دولة يهودية موجودة لتبقى بإعتبارها دولة أصيلة في المنطقة ولاعباً إقليمياً رئيسياً يتمتع بقوة عسكرية قد تكون الأولى على مستوى الإقليم. المطلوب في هذه الحالة هو الخلاص من إزعاج الفلسطينيين والرضوخ العربي الكامل للمطلب الأمريكي بقبول عربي طوعي لإسرائيل متجاوزاً أية شروط أو متطلبات أو تحفظات جماهيرية عربية . المطلوب إذاً هو إستسلام عربي مجاني وطوعي لا يحتاج ولا يتطلب أية تنازلات إسرائيلية للفلسطينيين بقدر ما يضمن الإستمرار والديمومة للأنظمة العربية  المتواطئة مع أمريكا وإسرائيل لتحقيق تلك الرؤيا .

     إن مؤتمر وارسو الأخير هو الخطوة الأحدث بهدف تحويل العلاقة الخفية بين إسرائيل وعدد من الأنظمة العربية إلى علاقة علنية دون ضرورة الولوج في معاهدات سلام أولاً ، كما يهدف إلى تحويل تلك العلاقة العابرة إلى تحالف سياسي وأمني وعسكري تحت شعار غامض يمتد من الحرب على ما يسمى "الإرهاب" ، إلى مقاومة واحتواء إيران بإعتبارها العدو البديل لإسرائيل ، بالإضافة إلى إعتبارها خطراً على الإقليم وعدواً مشتركاً للجميع بما فيهم بعض العرب وإسرائيل . وفي الوقت الذي رفضت فيه قوىً أوروبية رئيسية مثل ألمانيا وفرنسا وروسيا حضور هذا المؤتمر ، قام بعض العرب بفعل ذلك . إن " حلف وارسو الجديد " هو الترجمة الدولية المبكرة لنتائج صفقة القرن قبل الإعلان عنها رسمياً .

        ذلك للأسف هو واقع الحال ، وإذا كانت مشاكل المنطقة العربية تنبع من داخلها ، فإن المسار السياسي لأنظمتها الحاكمة يأتي في معظمه بتعليمات من الخارج. وهكذا تكون الأنظمة العربية الفاسدة والمستبدة هي أساس الخراب الداخلي وهي ترجمة للتبعية للخارج حتى ولو كانت تلك التبعية على حساب مصالح العرب وقضاياهم المصيرية وأهمها قضية فلسطين وإستقلال الإرادة الوطنية .