• 1 آيار 2019
  • أقلام مقدسية

 

بقلم : عزام توفيق ابو السعود

 

زرته قبل شهر في منزله بعمان، وأمضيت ساعة كاملة بصحبته، تحدثنا عن القدس وما آلت إليه حالها، حديث كان التشاؤم يسيطر علي، لكنه كان يبحث عن بصيص أمل يمكن أن نتمسك به، وقبل أن نوصله أنا وشقيقه منذر الى جمعية يوم القدس لحضور اجتماع فيها،  ناولني نسخة مصورة من كتابه "رحلة في الذاكرة" الذي لم ينشر بعد. تأبط ذراعي وأنا أسير معه صاعدا بضع درجات تؤدي الى مكتبه، واطمأنيت عليه بعد دخوله المكتب وتركته هناك. رجل كان إحتُفل بعيد ميلاده التسعين قبل يوم من ذاك اللقاء، ولم أكن أدري أنه سيكون آخر لقاء لي برجل عملاق، حوت ذاكرته جزءا مهما من تاريخ القدس ونضال أهلها، لأنه كان من جزءا من تاريخها ونضالها.

  انتهيت من قراءة كتاب الدكتور صبحي غوشه  قبل أسبوعين ، وبدأت بكتابة قراءة تحليلية للكتاب، وأرسلت له مع شقيقه رسالة شفوية بأنني استمتعت بقراءة الكتاب،  الذي يعد توثيقا لتاريخ شفوي لم يكتب، واعادنا الى سنوات الطفولة والشباب.. طفولته هو في فصول كتابه الأولى، وطفولتي وشبابه في فصول تالية، وشبابي ورجولته في آخر الفصول. صفحات مليئة بعادات وتقاليد القدس، معاناة أهلها في أيام الضيق، وإصرارهم على البقاء واقفين مرفوعي الرأس حتى في أحلك الظروف وأصعبها.. ذكريات عن السجون والمناضلين الذين التقى بهم فيها، والتي أمضى بها وقتا ليس بقليل، في العهد الأردني وفي ظل بداية الإحتلال الاسرائيلي البغيض. لقد وعدته أن أكتب قراءة نقدية تحليلية لهذا المخطوط المطبوع ، لكن قضاء الله لم يمهله حتى يقرأ ما سأكتب.

كنا نعتقد ونحن صغار، أن ميسوري الحال وأولاد الذوات هم من يستطيعون إرسال أبنائهم الى مدرسة المطران بالقدس، ومنها الى الجامعة الأمريكية في بيروت، لكن من يعرف تراجع وضع والد الدكتور صبحي المادي أيام نكبة عام 1948، الذي لا يمكّنه من أن يتابع ابنه الأكبر دراسة الطب في جامعة أقساطها مرتفعة، لكن اصرار الأب والأم على أن يتابع ابنهما تعليمه، رغم شح المال، واصرارهم على استكمال تعليمه، وإصراره هو على عدم ارهاق أهله بمصاريف التعليم، ومنحة تعليمية من الجامعة الأمريكية للطلبة الفلسطينيين المنكوبين، وعمله في الجامعة في أوقات فراغه له قصة أخرى أدت في النهاية الى أن يكمل تعليمه ويحصل على شهادة الطب، ليعود للعمل في القدس في وكالة الغوث أولا، التي استغنت عن خدماته بعد اعتقاله أول مرة، ثم يفكر بفتح عيادة خاصة، لم يكن دخلها يمكنه من العيش برفاهية ويتزوج، لأن معظم مرضاه كانوا من فقراء القدس والقرى المجاورة لها، الذين لم يكن يتقاضى منهم رسوم العلاج، وحتى يعطيهم الدواء بالمجان... 

وجاء التحاقه بالحركة القومية العربية بعد عودته من الجامعة، لم ينتسب الى صفوف حركة القوميين العرب، التي كان مؤسسوها من زملائه أو أساتذته أو معارفه أثناء دراسته في بيروت، وانما بعد بداية ممارسته لعمله كطبيب، وتوالت اثرها الاعتقالات منذ نهاية الخمسينات وفي الستينات، حتى وهو عضو في مجلس بلدية القدس العربية، التي كان يحصد أعلى الأصوات في انتخاباتها، والتي أصبح اسمها أمانة القدس فيما بعد.

القدس تربط اسم الدكتور صبحي غوشه بجمعية المقاصد ومستشفى المقاصد، فهو المؤسس الحقيقي للجمعية، والساعي الأول لبناء مستشفاها، الذي يعتبر صرحا طبيا فلسطينيا اليوم، كانت البدايات منه، واستمر العمل بعد به بعد الإحتلال الاسرائيلي، الذي اعتقل فيه الدكتور صبحي أكثر من مرة، وانتهى به الأمر الى الإبعاد عن القدس وفلسطين.

لم يكل الدكتور صبحي عن العمل للقدس وهو مبعد عنها، وأسس الجمعيات الداعمة لها ولوجودها، كمدينة عربية أصيلة، وكان مرجعا وطنيا، ليس فقط منذ تأسيسه لجبهة النضال ، وانما أيضا من خلال كتبه عن القدس ولعل أشهرها كتاب "شمسنا لن تغيب".

قبل يوم واحد من وفاته كتب الدكتور صبحي ناعيا ومؤبنا زميله الحاج علي الغول، أمين القدس الذي توفي في عمان قبل ثلاثة أيام، حين قرأت كلماته في رثاء الحاج زكي لم أكن أتوقع أن أكتب في اليوم التالي رثاء الدكتور صبحي  ... وقد زاملني الإثنان في عضوية مجلس أمانة القدس خمسة عشر سنة عرفتهما وحزنت لفراقهما، لأنهما آخر الأعضاء المنتخبين من أهل القدس في مجلس الأمانة!      

 رحم الله الدكتور صبحي، رجل مواقف ونضال ووطنية وعطاء.. طبيب فقراء القدس في أواسط الستينات، والمؤسس الحقيقي لجمعية المقاصد الخيرية بالقدس.. لم أوفيه حقه في هذه الكلمات التي أكتبها في عجالة لأرثيه، ولكن هي الدنيا نخسر فيها دوما من نحب. 

ولا حول ولا قوة إلا بالله